ترويض المُناخ في شرم الشيخ

ترويض المُناخ في شرم الشيخ

على متن طائرة متجهة إلى المملكة الأردنية الهاشمية، جمعتني المصادفة بالجلوس إلى جوار دبلوماسي سعودي سابق.. بطبيعة الحال تعارفنا، ثم تناقشنا حول أشياء مختلفة، رفع ستار الشباك الصغير المجاور لمقعده، سرعان ما أغلقه، فقد حجبت العواصف والغيوم كامل رؤيته، ليدير وجهه متحدثاً معي:
بمناسبة هذه العواصف والغيوم والأجواء المُناخية المتقلبة، مصر مقبلة على استضافة قمة المُناخ Cop27، في مدينة شرم الشيخ خلال نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، كيف ترى أهمية القمة؟ ولماذا تم اختيار مصر لتنظيمها؟
بطبعي أحب هذا النوع من دردشة السفر، لا سيما أنني هذه المرة أصادف دبلوماسياً عربياً من دولة شقيقة، ومهمة، فقلت له إن «الدردشة» هنا بدبلوماسية صحافية، ودعني أبدأ من النقطة الأعمق الأبعد، قضية تغير المُناخ التي تهدد الكوكب بأكمله، فما يحدث الآن بمثابة دورة حضارية، تنتقل من مكان إلى مكان، ومن جغرافيا إلى أخرى، ربما يتراوح عمر الدورة الواحدة ما بين ألفي عام أو ثلاثة آلاف عام، لكن في النهاية يبقى خط سير الدورة حتمياً، فبصفتك دبلوماسياً له رؤيته الخاصة في منطقتنا العربية، سيتأكد لك حجم التغيرات التي مرت بها هذه الأرض العربية، فتزامنت حضارات مع ذلك المُناخ الذي شخصه بدقة المؤرخون العرب القدامى وعلماء الاجتماع، وعلى رأسهم عبد الرحمن ابن خلدون، صاحب «المقدمة»، وربطوه بصعود الحضارات وانهيارها، خصوصاً المشرقية، وتأملوا كثيراً في الارتباط الوثيق للمناخ بعادات وتقاليد وهجرات الشعوب، وهنا لو عاد بنا الزمن، إلى أكثر من ثلاثة آلاف عام، فسنجد أن هناك حضارات، تلاشت بحكم عوامل التصحر، ونقص المياه العذبة واحترار الأجواء، الأمر الذي انعكس على بناة تلك الحضارات، فتوقفوا عن الاستمرار، بل وهجروا أماكنهم الأولى إلى أماكن أخرى بحثاً عن مناخ آمن.
حدث ذلك بالفعل، ولكننا الآن أصبحنا في قبضة مكر الجغرافيا والتاريخ.
هنا استوقفني الدبلوماسي العربي الشقيق متسائلاً: هل نحن في قبضة الطبيعة ومكر الجغرافيا والتاريخ؟ أم أننا ندفع ثمن إفساد المُناخ بأيدينا؟!
قلت أتفق معك، الإنسان نفسه هو الذي تسبب في جزء من هذه المتغيرات المُناخية، من خلال اندفاعه الحاد نحو صناعات كثيفة نتجت عنها مخلفات مختلفة، ونحو اختياره أنماط حياة استهلاكية، أثرت بالفعل في اضطراب المُناخ، لكن اتفاقي معك في هذه الجزئية، لا ينفي النظرة الأخرى المتعلقة بدورات الطبيعة، فعليك أن تتأمل فيما جرى خلال الفترات الماضية في القارة الأوروبية، وما أصابها من جفاف للأنهار، وفي غرب أميركا، وما يحدث في الصين، قد وصل معدل جفاف الأنهار فيها إلى 66 نهراً.
في المقابل، كانت هناك تغيرات مُناخية إيجابية في منطقتنا العربية، لم نشهدها منذ قرون، ولعلك تتذكر الأمطار الغزيرة والمستمرة في أكثر من دولة عربية، واللافت للنظر، أنها تسقط في غير مواسمها، وهنا يمكن أن تتفاءل بأن منطقتنا، التي توصف بأنها الأكثر جفافاً في العالم، يمكن أن تصبح المنطقة الأكثر اخضراراً.
أومأ الدبلوماسي الشقيق برأسه، مستحسناً هذا الطرح حول المُناخ، لكنني عدت إلى سؤاله عن مصر وقمة المُناخ، فأجبته قائلاً: أحيلك إلى مقولة العالم والمفكر الجغرافي الكبير جمال حمدان، عندما وصف مصر بأنها «فلتة جغرافية، يصعب تكرارها في أي ركن من أركان العالم»، وهذا يعني أن مصر تكون دائماً حاضرة في الزمان والمكان المناسبين، وهذا المعنى يتضمن رؤيتك كدبلوماسي بأن الإنسان هو الذي يتحمل مسؤولية إفساد المُناخ ويتضمن أيضاً رؤيتي بأن ما يحدث، بمثابة دورة حضارية، تعود إلى بلادنا بعد غيبة ليست بالقصيرة، ومن ثم فإن اختيار مصر لتنظيم قمة المُناخ (Cop27) بمدينة شرم الشيخ، في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إنما يعكس إدراك وثقة سكان الكوكب بقدرة مصر على تنظيم مثل هذا الحدث العالمي، وفي الوقت ذاته إدراك مصر والرئيس عبد الفتاح السيسي، لأهمية اللحظة العالمية، والقدرة على صياغة استراتيجية تضع حداً للمتغيرات المُناخية، خصوصاً تلك المسؤول عنها الإنسان، لذا، فإن مصر صاغت استراتيجية وطنية شاملة ودقيقة، وقابلة للتنفيذ والتعامل مع المتغيرات المُناخية لتكون نموذجاً لبقية دول العالم، خصوصاً أنها تتحدث أمام هذا العالم باسم القارة الأفريقية، الأكثر تضرراً من هذه المتغيرات، ومن عبث الإنسان بالمُناخ، إضافة إلى أن الرؤية المصرية في cop27، تضع العالم أمام مسؤولياته، وتدق جرس إنذار للتصدي لهذه المخاطر التي باتت جزءاً من تشكيل وصياغة القوى المختلفة على المسرح الدولي، خصوصاً أن هذه المخاطر تتزامن مع أزمات كبرى، عصفت بالاقتصاد العالمي مثل: «كوفيد - 19»، والحرب الروسية - الأوكرانية، وعودة الاصطدام بين ما هو شرقي وغربي في حرب ساخنة هذه المرة، ومن ثم، فإن اللحظة لم تعد تحتمل دخول هذا المارد المُناخي ليُفسد كوكب الأرض، ويعبث بمصير البشرية.
قبل أن تستعد الطائرة للهبوط في مطار الملكة علياء بالمملكة الأردنية الهاشمية، كانت الدردشة قد أوشكت على الانتهاء، لكنني أصررت على التأكيد أن قمة شرم الشيخ ستكون فارقة في ترويض المُناخ، وفي معادلة ترتيب أولويات العالم تجاه هذه القضية، فطالما كانت مصر مبادرة وسباقة، وصائغة لاستراتيجيات قابلة للتنفيذ، لصالح قارتها الأفريقية، وأمتها العربية، وحتى لعالمها في كل عصر.


نقلا عن “الشرق الأوسط”


كاتب المقال: جمال الكشكي كاتب وصحفي مصري


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية