وظائف تموت.. ووظائف تُولد

وظائف تموت.. ووظائف تُولد

في عام 2000، أصدر المفكر الأمريكي "جيرمي ريفكن" كتاباً مهماً، حمل عنوان "نهاية عهد الوظيفة.. انحسار قوة العمل العالمية وبزوغ حقبة ما بعد السوق"، وهو الكتاب الذي حاول من خلاله أن يشرح تداعيات التراجع الاقتصادي الكبير، والأزمات المالية العالمية، وتزايد عدد السكان، بموازاة التطورات السريعة في عالم التكنولوجيا، على سوق العمل، وعلى مفهوم الوظيفة.

لقد كان هذا الكتاب دافعاً لقلق كبير عند صدوره، ورغم أنه انتهى بمقاربة متفائلة بعض الشيء؛ فإنه رسم خطوطاً تنبأت، إلى حد كبير، بالواقع الذي نعيشه اليوم، خصوصاً في معالجته للعلاقة بين التقدم التكنولوجي من جانب وفرص العمل المتاحة في الأسواق من جانب آخر.

توقع ريفكن في هذا الكتاب نشوء أنماط عمل جديدة، وأن معظمها سيعتمد على "الدوام لبعض الوقت"، وأن المؤسسات لن تُعيّن موظفين ثابتين، وتزرعهم فوق المكاتب في مقارها الدائمة، ولكنها عوضاً عن ذلك، ستوظف مكانهم أشخاصاً من جنسيات وخلفيات مختلفة، يجلسون خلف شاشات حواسب، ويرتبطون بـ"الإنترنت"، ويقدمون ساعات عمل، من دون أن يخضعوا لمفاهيم الوظيفة وتقاليدها المعروفة.

ويبدو أن تنبؤات ريفكن المستندة إلى تحليلات علمية رصينة كانت صحيحة؛ فعلى مدى العقدين الفائتين كان بوسعنا أن نعاين نهايات الكثير من العهود، وأن نتقبل تلاشي الكثير من المفاهيم الاجتماعية والقانونية والأخلاقية، أو تعرضها لتغيرات فارقة.

صحيح أن صيغة "نهايات العهود" لا يجب أن تزعجنا كثيراً حين تتعلق بالمفاهيم المادية، والأداة والآلة، كما حدث مثلاً عندما انتهى عصر السفر على الدواب، الذي كان انتهاؤه مقبولاً ودليلاً إلى تطور البشرية، لكن بعض العهود التي تمضي إلى نهاياتها قد تسبب إزعاجاً لكثيرين، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالوظيفة، التي هي مطلب جوهري للناس ووسيلة لإدامة حياتهم.

وفي أوج ازدهار "الإنترنت"، بدأ عالم الوظائف في التغير بحدة وسرعة شديدتين؛ وبدأنا نسمع عن وظائف جديدة لم نكن حتى نعرف أسماءها، وفي المقابل راحت وظائف ألفناها لعقود تنزوي ويتراجع الطلب عليها بل وتختفي تماماً.

وعلى سبيل المثال، فقد امتزجت إمكانيات "الإنترنت" مع القوى الحاسوبية الجبارة وتجليات الذكاء الاصطناعي، لتسهيل عالم الترجمة الآلية؛ وهو الأمر الذي ألقى بظلال قاتمة على مستقبل وظيفة المترجم.

بسبب هذه التحولات المتسارعة بات بإمكاننا أن نتحدث عن نهاية عهد الترجمة البشرية، بما قد يستتبعه ذلك من انعكاسات على وظيفة الترجمة، وبقاء المترجم، ودراسة اللغة لغير الناطقين بها، وبما سيجلبه أيضاً من منافع على صعد التجارة والسياحة والتعليم والتبادل الثقافي.

وفي الأسبوع الماضي، انتشرت الأخبار المتعلقة بدراسة أنجزتها جامعة "برينستون" الأمريكية، إذ نقلت صحيفة "ديلي ميل" عن فريق الباحثين القائم على تلك الدراسة قوله إن ثمة عشرين وظيفة مُهددة بالزوال بسبب تطورات الذكاء الاصطناعي؛ من بينها وظائف المسوقين عبر الهاتف، والمعلمين، وعلماء النفس بالمدارس.

لقد أدهشت القدرات التي انطوى عليها برنامج "شات جي بي تي" للذكاء الاصطناعي كثيرين، خصوصاً عندما استطاع القيام بأنشطة حاكى فيها الدماغ البشرية بدرجة مُذهلة، سواء على صعد إجراء المحادثات، أو كتابة النصوص المُحكمة، أو إنجاز الفروض الدراسية.

تعزز تلك النتائج فكرة جيرمي ريفكن التي لخصها في عنوان كتابه الصادر قبل 23 عاماً، لكنها أيضاً لا تنفي مقاربته العلمية الكاملة في الكتاب، الذي خلص أيضاً إلى أن زوال بعض الوظائف سيرافقه ظهور وظائف جديدة، ستُسمى لاحقاً "وظائف المستقبل".

وفي هذا الصدد، يؤكد توماس فري الباحث المختص في مجال المستقبليات، الذي خصص جزءاً كبيراً من جهوده لاستشراف عالم الوظائف، أن "60% من وظائف المستقبل لم يتم اختراعها بعد"، في بحث مهم نشره قبل سنوات، وبحسب دراسات توماس فري، فإن طبيعة الوظائف المتاحة في أسواق العمل المحلية والدولية ستتغير تغيرات جذرية خلال السنوات المقبلة، إلى حد أن وظائف كاملة نعرفها الآن ونحرص على تهيئة أبنائنا للالتحاق بها ستختفي تماماً، وستنشأ بدلاً منها وظائف جديدة، بمسميات بعضها معروف وبعضها الآخر في علم الغيب.

ويتعلق عدد كبير من تلك الوظائف المستقبلية، التي قد تحل مكان الوظائف المُهددة بالزوال، بأنظمة الروبوتات، والبيانات الضخمة، وطواقم العمل الخاصة بقيادة الطائرات بدون طيار، وأنظمة الذكاء الاصطناعي المُعَززة للبشر، والنقل ذاتي القيادة، والطباعة ثلاثية الأبعاد، والعملات الرقمية المشفرة، وتصميم أنظمة الاستشعار، والتعدين الفضائي، والطب الجينومي، وأنظمة التنقل الذكي عبر الأنابيب، والواقع "الهجين"، واللحوم المزروعة مخبرياً، وتكنولوجيا إنترنت الأشياء.

يبدو إذن أن عالم وظائف الغد سيستبعد عدداً من الوظائف التي لن تصمد أمام منافسة تقنيات الذكاء الاصطناعي الفائقة وغير المُكلفة في آن، لكنه سيخلق فرصاً وظيفية جديدة.

وبينما سيتطور هذا العالم مستفيداً من الامتزاج بين التطور الرهيب في الذكاء الاصطناعي، والتقدم المذهل في تكنولوجيا المعلومات، وثورة الروبوتات، التي تسعى إلى تلبية احتياجات بشرية لا يبدو أن لها سقفاً، ستولد وظائف جديدة، وسيتعزز الطلب عليها باطراد.

مهمتنا الآن تتلخص في استيعاب التطورات الحاصلة في سوق العمل، واستشراف مستقبلها، وإعداد أجيالنا المقبلة لعالم توظيف مختلف، سيشهد باطراد زوال وظائف وميلاد وظائف أخرى.


نقلاً عن صحيفة "الوطن"


 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية