حقوقيات في زمن النبوة "3"

الليبرالية الأولى في الإسلام.. زينب بنت جحش قضت على الفوارق الطبقية ومنحت مالها للبسطاء

الليبرالية الأولى في الإسلام.. زينب بنت جحش قضت على الفوارق الطبقية ومنحت مالها للبسطاء

من الأقوال المشهورة لمؤسسة اليوم العالمي للمرأة، كلارا زيتكين، قولها: "يجب أن تتناول الدعاية النسائية كل تلك الأسئلة ذات الأهمية الكبرى للحركة البروليتارية العامة المهمة الرئيسية، وهي إيقاظ وعي النساء الطبقي وإدماجهن في الصراع الطبقي".

فهي ترى أن الطبقية مرهونة بالوعي الجمعي عامة ووعي النساء خاصة، على اعتبار أنهن اليد الفاعلة في إزالة تلك الطبقية، نظرًا لدورهن الكبير سواء في التنشئة أو قدرتهن على خوض المعارك الفكرية التي تحتاج لوعي وصدق في التنفيذ، أو كونهن ركنًا أصيلًا من الأمر.

ولعل هذا ما ينطبق على أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها وأرضاها، إذ كانت سببًا رئيسيا ويدًا فاعلة في الإطاحة بالطبقية، وتحقيق مبدأ إسلامي قائم على أن "الناس سواسية كأسنان المشط، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى".

وتعتبر أم المؤمنين زينب بنت جحش، الليبرالية الأولى في الإسلام، لما امتازت به من مواقف حرة ونبيلة، وذلك بزواجها من مولى النبي زيد بن حارثة، الذي أعتقه النبي وجعله ربيبًا له، ليخطب له زينب، وكانت من الأشراف والسادة، لا يجرؤ على الحديث معها إلا من كان من نفس طبقتها، فضلًا عن أن يطلبها للزواج.

كان ذلك قبل 1400 عام ويزيد، أي قبل الثورة الأوروبية على التسلط الكنسي، وتشكيل ما يعرف الآن بالدولة الحديثة القائمة على المساواة والحرية والعدالة.

قبلت زينب بزواجها من زيد وهي سيدة قومها، يمكنها رفض طلب النبي أو الاعتراض، لكنها لم تجد غضاضة في مساواة الرؤوس وزواجها من رجل يحمل لقب "مولى" -الذين جرى عليهم الرق ثم تحرروا- وهم طبقة أدنى من طبقة السادة، وكان من الموالي زيد بن حارثة -رضي الله عنه- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وتؤمن الليبرالية بالحرية وحقوق الإنسان، وهي حركة سياسية تمتد إلى الجزء الأكبر من القرون الأربعة الأخيرة، وضعت الثورة المجيدة في إنجلترا عام 1688 الأسس اللازمة لتطوير الدولة الليبرالية الحديثة، من خلال الحد من السلطة المطلقة، ومررت وثيقة حقوق الإنسان، وينص الإعلان لديها على أن جميع الرجال خُلقوا سواسية ومنحهم الخالق بعض الحقوق التي لا يمكن المساس بها، من بينها الحياة والحرية وحق السعادة.

وأطاحت الثورة الفرنسية بعد ذلك بسنوات قليلة، بالأرستقراطية الموروثة، ورفعت شعار الإخاء والمساواة والحرية.

ويعتبر إعلان حقوق الإنسان والمواطن، الذي دُون في فرنسا لأول مرة في عام 1789، بمثابة وثيقة تأسيسية لكل من الليبرالية وحقوق الإنسان، اندمج في خاتمة المطاف مع التطور الفكري لعصر التنوير.

ما الذي أراده الإسلام ونفذته زينب؟

أراد الإسلام أن يقضي على عادات الجاهلية والفوارق الطبقية، ليكون الناس سواسية، لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، وكان من الموالي زيد بن حارثة -رضي الله عنه- مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فرأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-أن يزوج زيدا من شريفة بني أسد، وهي ابنة عمته زينب بنت جحش -رضي الله عنها- ليقضي على الفوارق الطبقية بنفسه، وكانت هذه الفوارق من العمق بحيث لا يقضي عليها إلا فعل واقعي من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان زيد -رضي الله عنه- من أحب الناس إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فهو الذي أعتقه وتبناه، وكان له بمثابة الأب، وكان التبني عادة منتشرة في ذلك الوقت، فأراد الله -عز وجل- أن يبطل هذه العادة الجاهلية، فاختار رسوله -صلى الله عليه وسلم- لتحمل تبعات هذه المهمة.

ووفقًا لكتب السيرة، شاءت حكمة -الله تعالى- أن لا يتوافق زيد وزينب -رضي الله عنهما- في زواجهما، وكان قبل ذلك يشتكي زيد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- من عدم استطاعته البقاء مع زينب ويريد طلاقها، ورسول الله يأمره بإمساك زوجه، مع تقوى الله، حتى أذِن الله بالطلاق، فطلقها زيد، بعد أن مكث معها ما يقرب من سنة، كما ذكر ذلك ابن كثير، فأمر الله -عز وجل- رسوله -صلى الله عليه وسلم- بالزواج من زينب بعد طلاقها من زيد -رضي الله عنه- وأنزل الله في ذلك قوله: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب:37)

وكان خاطِبُ زينب للنبي -صلى الله عليه وسلم- هو زوجها الأول زيد، ليقطع بذلك ألسنة المتقولين، وما قد يزعمونه من أن طلاقها وقع بغير اختيار منه، وأنه قد بقي في نفسه من الرغبة فيها شيء، وفي هذا يقول ابن حجر: "هذا من أبلغ ما وقع في ذلك، وهو أن يكون الذي كان زوَّجها هو الخاطب، لئلا يظن أحد أن ذلك وقع قهراً بغير رضاه..". 

أفضلية اختص الله بها زينبَ وزيداً

وقد ظهر في قصة زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من أم المؤمنين زينب، فضل زيد وزينب -رضي الله عنهما- ففي قول الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} منقبة عظيمة لزيد بن حارثة -رضي الله عنه- فقد انفرد وحده دون الصحابة، بذكر اسمه في القرآن الكريم، إذ لم يذكر اسم أحد في القرآن الكريم، إلا لنبي من الأنبياء ولزيد بن حارثة رضي الله عنه. 

قال السهيلي: "كان يقال: زيد بن محمد حتى نزل: {ادْعُوهُمْ لآَبَائِهِمْ} فقال: أنا زيد بن حارثة، وحرم عليه أن يقول: أنا زيد بن محمد، فلما نُزِع عنه هذا الشرف وهذا الفخر، أكرمه الله وشرفه بخصوصية لم يخص بها أحدا من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- وهي أنه ذكره باسمه في القرآن الكريم، فقال الله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا}، وفي ذلك أنس ومواساة له، وعوض عن الفخر بأبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- له". 

أما زينب -رضي الله عنها- فكان زواجها من النبي -صلى الله عليه وسلم- بأمر ربه، وهو الذي زوَّجه إياها، قال تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (الأحزاب: من الآية37)، وفي هذا شرف عظيم ومنقبة جليلة لزينب -رضي الله عنها- ومن ثم كانت تفاخر بذلك.. عن أنس -رضي الله عنه- قال: (كانت زينب بنت جحش -رضي الله عنها- تفخر على أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- وتقول: زوَّجكن أهاليكن، وزوَّجني الله من فوق سبع سماوات) (البخاري). 

مناقب أم المؤمنين زينب بنت جحش

ومن مناقبها -رضي الله عنها- أنها في حادثة الإفك، أثنت على عائشة -رضي الله عنها- خيراً، عندما استشارها الرسول -صلى الله عليه وسلم- فيما أشيع عن عائشة، فقالت زينب: (يا رسول الله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت إلا خيرا، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فعصمها الله بالورع) (البخاري).. فمن مناقبها -رضي الله عنها- أنها كانت ورعة، تديم الصيام والقيام، كثيرة التصدق وبذل الخير.

وقد أحسنت عائشة -رضي الله عنها- في الثناء على زينب -رضي الله عنها- فقالت: "ولم أرَ امرأة قَطْ خيراً في الدين من زينب". 

وفي زواجه -صلى الله عليه وسلم- من زينب -رضي الله عنها- القضاء على عادة التبني، إذ كيف يتزوج الرجل امرأة ابنه؟ وقد كانت هذه العادة الجاهلية مستحكمة في نفوس الناس، وقد أخذت أبعادها مع مرور الزمن، فكان هذا الزواج المبارك إلغاءً عمليا لهذه العادة الجاهلية، التي تؤدي إلى اختلاط الأنساب، وضياع الحقوق.

لقد كان زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من زينب بنت جحش -رضي الله عنها- إحدى دلائل نبوته، وذلك لما تضمنه هذا الزواج من معاتبة الله له -صلى الله عليه وسلم- وهي معانٍ لو لم يكن -عليه الصلاة والسلام- نبياً لأخفاها عن الناس، حفظا لسمعته وصونا لهيبته، لكنه -صلى الله عليه وسلم- لم يكتمها، بل بلغها، وبلاغه لها -صلى الله عليه وسلم- دليل صريح على أنه رسول الله حقاً، والمبلغ عن الله صدقاً.

عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (لو كان محمد -صلى الله عليه وسلم- كاتماً شيئا مما أُنزل عليه، لكتم هذه الآية: {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} (مسلم).

وفي وليمة زواجه -صلى الله عليه وسلم- بزينب -رضي الله عنها- علامة أخرى من علامات نبوته، وهي تكثير الطعام بدعوته، وفيها أيضا كان نزول آية حجاب نسائه -صلى الله عليه وسلم- وما شُرع من آداب الضيافة.

شبهات حول زواج النبي من زينب بنت جحش 

ومع ما تحقق في هذا الزواج المبارك من حِكَم ومقاصد شرعية وآداب إسلامية، فقد شكل إحدى الشبهات التي وجهها المستشرقون والمنافقون لسيد الخلق -صلى الله عليه وسلم- وهذا من قلبهم الأمور وتزييفهم الحقائق، وهذه الشبهة قديمة تتكرر بين الحين والحين، ولا تقوم على أساس، تغذيها أحقاد وضغائن، سرعان ما تنقشع، إذ كيف يتحول موطن المدح إلى ذم!

والروايات التي يستدل بها هؤلاء المنافقون، وتشير إلى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان قد وقع في قلبه حب زينب -رضي الله عنها- كلها روايات ضعيفة، لم تثبت من أي وجه يصح الاحتجاج به، بل إن ظاهر القرآن الكريم يردها، لأن نص الآية دل على أن الله سيظهر ما أخفاه النبي -صلى الله عليه وسلم- قال تعالى: {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} (الأحزاب: من الآية37)، وما أبداه الله هو زواجه من زينب -رضي الله عنها- لا حبه وتعلقه بها، كما قال سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا} (الأحزاب: من الآية37).

ثم إن النبي -صلى الله عليه وسلم- على الرغم مما أباحه الله له وخصه به من الزواج بأكثر من أربع، لم يكن يرتبط زواجه بعامل الشهوة، بل بمصالح شرعية معتبرة، فقد يتزوج -صلى الله عليه وسلم- المرأة تأليفا لقلب عدو له، كما تزوج أم حبيبة تأليفا لقلب والدها أبي سفيان، وقد يتزوج المرأة الأرملة شفقة عليها وحفظا لأولادها، وإكراما لزوجها الذي استشهد في سبيل الله، كما تزوج أم سلمة زوجة الصحابي الشهيد أبي سلمة، وقد يتزوج المرأة إكراما لصديق، وتوثيقا لعلاقته به، كما تزوج عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر رضي الله عنهم جميعا. 

فضلها

وقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- هي أولى زوجاته وفاة بعده، فعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسرعكن لحاقاً بي أطولكنَّ يداً، قالت: فكنَّ يتطاولن أيتهنَّ أطول يداً، قالت: فكانت أطولنا يداً زينب، لأنها كانت تعمل بيدها وَتَصَدَّق) (البخاري). 

قال الذهبي في السير: "وإنما عني بطول يدها بالمعروف، إذ كانت -رضي الله عنها- سخية، كثيرة الصدقة والبذل وصلة الرحم". 

وفاتها رضي الله عنها

صدق النبي -صلى الله عليه وسلم- فكانت أم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- أولى زوجاته -صلى الله عليه وسلم- وفاة بعده، ودُفنت بالبقيع، فرضي الله عنها وعن أمهات المؤمنين.. إن زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- بأم المؤمنين زينب بنت جحش -رضي الله عنها- وما نزل فيه من القرآن، وما واكبه من أحداث، فيه من العبر والحِكم الكثير، والتي ينبغي الوقوف معها للاستفادة منها في واقعنا وحياتنا.

 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية