المساواة والعنف.. فجوات حقوقية تعيق مسيرة المرأة نحو التمكين العالمي
المساواة والعنف.. فجوات حقوقية تعيق مسيرة المرأة نحو التمكين العالمي
بين الظلم والقانون.. رحلة عبر تاريخ الكفاح النسائي من أجل المساواة والعدالة الاجتماعية
خبراء: الاستثمار في تمكين المرأة سيكون له عوائد هائلة على المدى الطويل
حقوقي: العنف ضد المرأة جريمة إنسانية تستحق العقاب وتحدٍ مجتمعي يتطلب حلولاً جذرية
خبير علم اجتماع: التعليم سلاح المرأة بإمكانه أن يغير حياة المرأة والمجتمع بأكمله
لا تزال قضية عدم المساواة بين الجنسين تتصدر قائمة التحديات الكبرى التي تواجه الإنسانية، هذه الفجوة المترسخة بين الرجال والنساء تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية، لتبرز كعائق عميق يعترض طريق تحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الوطن العربي.
تلك الفجوة ليست مجرد إحصائية جافة، بل هي قصة حياة مليئة بالمعاناة والأمل، وتعكس أبعاداً متعددة من الظلم والتفاوت الذي يمس حياة النساء بشكل مباشر.
وتُعرِّض الحركات الانكفائية حقوق الإنسان للنساء والبنات للخطر، كما تعرض للخطر ما أُحرز من تقدم في النهوض بالمساواة بين الجنسين في جميع مناطق العالم، خصوصا أن المقاومة النشطة للمساواة بين الجنسين أحد أهم العوامل التي تفسر التقدم البطيء، وفي بعض الحالات، الانتكاسات في ما تحقق من مكاسب في بلوغ أهداف التنمية المستدامة.
جاء ذلك في تقرير الفريق العامل المعني بالتمييز ضد النساء والفتيات -اطلعت "جسور بوست" على نسخة منه- حول الارتداد العنيف المتصاعد عن المساواة بين الجنسين والضرورة الملحة لإعادة تأكيد المساواة الحقيقية وحقوق الإنسان للنساء والبنات، والذي عرض أمام مجلس حقوق الإنسان في دورته الـ56، والتي عقدت في جنيف خلال الفترة من 18 يونيو حتى 12 يوليو الماضي.
وكان الارتداد العنيف عن المساواة بين الجنسين مدفوعا بالحركات السياسية والثقافية والدينية ذات الصبغة القومية والأصولية والمحافظة والتي من بينها جهات فاعلة حكومية ودينية وأخرى من المجتمع المدني، فشكلت هذه الحركات تحالفات شتى، بهدف توطيد المواقف النمطية من أدوار المرأة والرجل في الأسرة والمجتمع، التي تحد من خيارات النساء والبنات ومن إمكاناتهن في العديد من جوانب حياتهن.
وتشير البيانات العالمية إلى أن المساواة بين الجنسين هي هدف بعيد المنال في العديد من السياقات.
ووفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2023، فإن التقدم نحو تحقيق المساواة بين الجنسين يسير ببطء شديد، حيث يتوقع أن يستغرق الأمر نحو 132 عاماً لإغلاق الفجوة بالكامل على مستوى العالم، هذه الإحصائية تعكس الواقع المؤلم لتفاوت الفرص بين الجنسين في مختلف المجالات، من التعليم إلى العمل، ومن الصحة إلى التمثيل السياسي.
وبحسب تقرير منظمة العمل الدولية الصادر في عام 2023، بلغ متوسط الفجوة في الأجور بين الرجال والنساء في العالم 16%، أي أن المرأة تكسب في المتوسط 84% مما يكسبه الرجل مقابل نفس العمل.
وعلى صعيد الوطن العربي، فإن هذه النسبة ترتفع إلى 23%، بما يعني أن المرأة العربية تكسب في المتوسط 77% فقط مما يكسبه الرجل.
وأظهر التقرير أن نسبة مشاركة المرأة في القوى العاملة في العالم تبلغ 47%، بينما في الوطن العربي تنخفض هذه النسبة إلى 39% فقط، وهذا يعني أن هناك ملايين النساء في المنطقة العربية محرومات من فرص العمل والمشاركة الاقتصادية.
وعلى صعيد المشاركة السياسية، أظهرت بيانات الاتحاد البرلماني الدولي أن نسبة النساء في البرلمانات الوطنية على مستوى العالم بلغت 25.5% في عام 2023، في حين لم تتجاوز هذه النسبة 19% في الدول العربية.
وتزداد حدة عدم المساواة بين الجنسين في مجالات الصحة والتعليم، فبحسب تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2023، فإن متوسط العمر المتوقع للنساء في الدول العربية يقل بمقدار 4 سنوات عن الرجال.
كما أن نسبة الأمية بين النساء في المنطقة العربية تبلغ 17.5%، مقارنة بنسبة 8.5% بين الرجال هذه الفجوات الكبيرة بين الجنسين لها انعكاسات سلبية خطيرة على المرأة والمجتمع ككل، فالنساء المحرومات من فرص العمل والمشاركة السياسية والاقتصادية يفقدن القدرة على المساهمة في التنمية وصنع القرار، كما أن انخفاض مستوى الصحة والتعليم يؤثر سلبًا على مستوى معيشة النساء وأسرهن.
ويؤكد الخبراء ضرورة تضافر الجهود على المستويات الحكومية والمجتمعية لمعالجة هذه الإشكاليات وتحقيق المساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة، فالاستثمار في تمكين المرأة سيكون له عوائد هائلة على المدى الطويل، ليس فقط على صعيد المرأة ذاتها بل على المجتمع بأكمله.
وفي المجال التعليمي، على الرغم من التقدم الذي تحقق في السنوات الأخيرة، لا تزال هناك فجوات ملحوظة في الوصول إلى التعليم. ووفقاً لبيانات منظمة اليونيسف، تشير الإحصاءات إلى أن نحو 130 مليون فتاة في سن المدرسة لا يتلقين التعليم الأساسي، وهذا يمثل عقبة كبيرة أمام تحقيق المساواة بين الجنسين على المدى الطويل. فالفجوة في التعليم تؤثر على الفرص المتاحة للنساء في المستقبل، مما يعيق تطورهن المهني والاقتصادي ويحد من قدراتهن على المساهمة الفعالة في المجتمع.
في المنطقة العربية، تظهر البيانات أن عدم المساواة بين الجنسين له أبعاد خاصة ومؤثرة، ووفقاً لتقرير البنك الدولي لعام 2023، تعاني العديد من الدول العربية من مستويات عالية من التمييز ضد النساء، ما يعوق فرصهن في الحصول على التعليم الجيد والتوظيف.
ورغم الجهود المبذولة لتمكين المرأة، لا تزال النساء يواجهن صعوبات كبيرة في الحصول على فرص العمل المتكافئة، وهو ما يبرز التناقض بين الأهداف الرسمية والإجراءات العملية على الأرض على سبيل المثال، تشير بيانات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات إلى أن معدل البطالة بين النساء في بعض الدول العربية يتجاوز ضعف نظيره بين الرجال، مما يسلط الضوء على تحديات كبيرة في تحقيق المساواة الاقتصادية.
وتتجاوز تداعيات عدم المساواة بين الجنسين الأبعاد الاقتصادية لتطول الجوانب النفسية والاجتماعية أيضاً، فالنساء اللاتي يواجهن التمييز يشعرن بشكل دائم بالاستبعاد وعدم الاعتراف بقدراتهن، ما يؤثر سلباً على صحتهن النفسية ويعيق تحقيق إمكاناتهن الكاملة. وتشير دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية إلى أن النساء اللائي يعانين من التمييز يعانين أيضاً من مستويات أعلى من الاكتئاب والقلق، وهو ما يضيف بعداً جديداً للأثر السلبي لعدم المساواة.
ويرى خبراء أن عدم المساواة بين الجنسين، يعزز الأدوار التقليدية التي تُفرض على النساء، مما يقيّد قدرتهن على المساهمة بشكل كامل في المجتمع، وهذا التقييد لا يؤثر فقط على النساء، بل ينعكس أيضاً على الأطفال والأجيال المقبلة، حيث يكرر نمط عدم المساواة في التعليم والفرص، كما أن الفجوات في الفرص بين الجنسين تعوق التقدم الاجتماعي والاقتصادي المستدام، مما يحد من قدرة المجتمعات على تحقيق التنمية الشاملة.
تاريخ من التمييز والتغيير
تعتبر قضية عدم المساواة بين الجنسين من أقدم التحديات التي واجهتها البشرية، وقد تطورت مع مرور الزمن وتغيرت الأنظمة الاجتماعية والسياسية، وعلى مر التاريخ، عُدت المرأة كائنًا أدنى من الرجل، وحرمت من حقوق أساسية عديدة.
وفي العصور القديمة والوسطى، كانت المرأة مقيدة بدورها التقليدي في المنزل ورعاية الأسرة، وقد بررت العديد من الثقافات والحضارات هذا التمييز بأسباب دينية واجتماعية، ففي الحضارات الشرقية والغربية على حد سواء، كانت المرأة تخضع لسلطة الرجل بشكل مطلق، سواء كان الأب أو الزوج أو الأخ.
أما في العصور الوسطى، فتعززت هذه الأفكار السائدة عن المرأة، حيث ربطتها الكنيسة الكاثوليكية بالخطيئة والشر، مما زاد من تقييد حرياتها وحقوقها.
ومع بداية عصر النهضة، بدأت تظهر أصوات تطالب بمنح المرأة حقوقها، فبرزت بعض المفكرات والناشطات اللائي دافعن عن المساواة بين الجنسين، مثل ماري ولستونكرافت. ومع تطور الأفكار الليبرالية والديمقراطية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بدأت المرأة تكتسب بعض الحقوق السياسية والاجتماعية.
وشهد القرن العشرين تحولات جذرية في قضية حقوق المرأة، حيث برزت حركات نسوية قوية في مختلف أنحاء العالم، دافعت عن حقوق المرأة السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
وقد أدت هذه الحركات إلى تحقيق العديد من الإنجازات، مثل منح المرأة حق التصويت في الكثير من الدول.
وشهدت هذه الفترة إصدار العديد من الإعلانات والمواثيق الدولية التي أكدت مبدأ المساواة بين الجنسين، أبرزها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة.
ولتعزيز مكاسب المرأة، تم سن العديد من القوانين الدولية والمحلية. من أبرز هذه القوانين: قانون المساواة بين الجنسين في الحقوق السياسية (1893)، وهو أول قانون من نوعه في العالم، تم منحه في نيوزيلندا للنساء، وتعديل الدستور الأمريكي التاسع عشر (1920) الذي منح النساء في الولايات المتحدة حق التصويت على المستوى الفيدرالي، واتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (1979) التي تعتبر إطارًا قانونيًا شاملًا لحقوق المرأة.
بالإضافة إلى قوانين وطنية في العديد من الدول التي سنّت قوانين خاصة بمساواة الأجور، وحماية المرأة من العنف، وتوفير فرص متساوية في التعليم والعمل.
التمييز خطر
بدوره، قال رئيس المنظمة العربية الليبية لحقوق الإنسان، عبد المنعم الحر، إن التمييز والتفرقة بين الرجل والمرأة تُعد من أخطر التحديات التي تواجه المجتمع الدولي اليوم، فعلى الرغم من التقدم الملحوظ في مجال المساواة بين الجنسين خلال العقود الماضية، لا تزال المرأة تواجه أشكالاً متنوعة من التمييز في مختلف مناحي الحياة، فعلى الصعيد الاقتصادي، لا تزال المرأة تتقاضى أجوراً أقل من الرجل حتى في ذات المهنة والمؤهلات، كما تعاني من صعوبات في الحصول على فرص العمل والترقي الوظيفي.
وتابع “الحر” في تصريحاته لـ"جسور بوست"، أنه على الصعيد الاجتماعي، ما زالت المرأة تتعرض لمعدلات مرتفعة من العنف الجسدي والنفسي والجنسي، كما تواجه قيوداً على حريتها وحقوقها في المشاركة السياسية وصنع القرار، وهذه الممارسات تشكل انتهاكاً صارخاً لمبادئ حقوق الإنسان الأساسية، ولا سيما المساواة وعدم التمييز، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان ينص صراحة في المادة الأولى على أن "جميع الناس يولدون أحرارًا ومتساوين في الكرامة والحقوق"، كما تؤكد المادة الثانية حق كل إنسان في التمتع بجميع الحقوق والحريات "دون أي تمييز".
واسترسل قائلا: كما تلزم اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو) الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير المناسبة لضمان المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في جميع المجالات، وأيضا تؤكد اتفاقية الحقوق المدنية والسياسية على حق المرأة في المشاركة في إدارة الشؤون العامة على قدم المساواة مع الرجل لذلك، من أجل تعزيز المساواة بين الجنسين بما يتوافق مع مبادئ حقوق الإنسان، يتعين على الدول والمجتمع الدولي اتخاذ إجراءات ملموسة على عدة مستويات، منها استحداث قوانين وتشريعات تكفل المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة في الحقوق والواجبات، وتجريم جميع أشكال التمييز والعنف ضد المرأة.
وأكد رئيس المنظمة العربية لحقوق الإنسان ضرورة تطوير سياسات واستراتيجيات وطنية شاملة لتعزيز المساواة والقضاء على التمييز، وتخصيص الموارد الكافية لتنفيذها، كذلك إطلاق حملات توعية مجتمعية لتغيير الأنماط والتصورات النمطية السلبية تجاه المرأة، وتعزيز قيم المساواة والاحترام المتبادل بين الجنسين، وضمان تكافؤ الفرص أمام المرأة في التعليم والتوظيف والترقي الوظيفي، وتعزيز مشاركتها الفاعلة في مراكز صنع القرار على جميع المستويات.
عبد المنعم الحر
وأتم: من الأمور الواجب اتخاذها أيضًا، تفعيل آليات الرصد والرقابة الدولية لضمان امتثال الدول لالتزاماتها في مجال المساواة بين الجنسين، وتعزيز التعاون الدولي لتبادل الخبرات والممارسات الناجحة، تحقيق المساواة بين الجنسين ليس خيارًا بل ضرورة حتمية لبناء مجتمعات عادلة ومستدامة، فهي ليست مجرد حق من حقوق الإنسان بل هي أيضًا مفتاح لتحقيق التنمية والسلام والأمن.
عجز واكتئاب ومشاكل اجتماعية خطيرة
وقال الأكاديمي وخبير علم الاجتماع، علاء الغندور، إن المرأة تواجه تمييزًا وتهميشًا في مجالات مثل التعليم والعمل والرعاية الصحية والمشاركة السياسية، وهذا يؤدي إلى فرص محدودة للتطور والنجاح، وعدم المساواة في الأجور والترقيات الوظيفية، والعنف والاعتداء الجنسي، كل هذه العوامل تحد من استقلالية المرأة وقدرتها على المساهمة بشكل كامل في المجتمع، ومن الناحية النفسية، يؤدي عدم المساواة إلى انخفاض تقدير الذات والثقة بالنفس لدى المرأة، والشعور بالعجز والاكتئاب.
وأضاف “الغندور” في تصريحاته لـ"جسور بوست": التأثير على الصحة النفسية للمرأة ينعكس بشكل كبير على قدرتها في الاندماج بالمجتمع بشكل كامل.
وأكد خبير علم الاجتماع ضرورة مواجهة المرأة التحديات النفسية الناتجة عن عدم المساواة من خلال مجموعة من الخطوات المهمة، فيتعين عليها بناء الوعي الذاتي والثقة بالنفس عن طريق تعزيز شعورها بقيمتها كفرد مستقل وقادر، والتخلص من الشعور بالنقص أو القصور الناتج عن المواقف التمييزية، وتطوير مهارات التواصل والقيادة لتمكينها من المطالبة بحقوقها في الوقت نفسه، ومن المهم أن تبني المرأة شبكات دعم اجتماعية عبر الانضمام إلى مجموعات نسائية أو منظمات مجتمعية لتبادل الخبرات والدعم، وإقامة علاقات إيجابية مع أفراد العائلة والأصدقاء المقربين، والبحث عن نماذج قيادية نسائية ملهمة لها.
وحث المرأة على أن تهتم بتعليم ذاتها والاهتمام بصحتها النفسية والبدنية عبر ممارسة أنشطة للصحة النفسية كالتأمل والتخفيف من التوتر، والمشاركة في أنشطة رياضية وترفيهية، والبحث عن مساعدة مهنية عند الحاجة.
علاء الغندور
واختتم "الغندور"، قائلاً: إنه يجب على المرأة المشاركة في التغيير المجتمعي من خلال المساهمة في مناصرة الحقوق النسائية والمساواة، والتأثير على صناع القرار والمؤسسات لإحداث تغييرات إيجابية، والمساهمة في تغيير الاتجاهات والمعايير الاجتماعية التمييزية، لأن هذه الاستراتيجيات متكاملة ومترابطة لتمكين المرأة نفسياً وإحداث التغيير المنشود.