ماذا تبقَّى من الليبرالية في العدالة والحرية وحقوق الإنسان؟

ماذا تبقَّى من الليبرالية في العدالة والحرية وحقوق الإنسان؟

ظهرت الليبرالية الغربية في القرن السابع عشر، من خلال بعض الفلاسفة الغربيين ومنهم الفيلسوف «جون لوك» و«توماس هوم» و«جان جاك روسو»، وهذه الأفكار جاءت كحل سياسي وفكري للصراعات والحروب التي عاشها الغرب في القرون التي سبقت عصر ما سُمّي بالأنوار، وتمت بعد إقصاء الكنيسة عن تدخلاتها في مجالات كثيرة، ليست من اختصاصاتها، وعاشت أوروبا في تأخر، وتراجعت على مستويات كثيرة قوانينها، والتي حجّمت النظرة الإيجابية للعلوم المختلفة والنهوض الذي عاشته الحضارات الأخرى، ومنها الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الأولى لمدة ستة قرون، ونتيجة لما قامت به الكنيسة في حربها على العلماء المخترعين الذين طرحوا أفكارا علمية تخالف نظرة الكنيسة، في ما وضعته من آراء تجاه الكون والحياة وكيف نشأت هذه المخلوقات، ولذلك جاءت مقولات الليبراليين في الكثير من رؤى الفكرية والسياسية كردة فعل على الحصار الذي طرحته الكنيسة على المعارف والأفكار التي تخالفها، وطلبت عدم الخروج على تلك الأفكار والآراء.

ومن هنا جاء تحجيم دور الكنيسة وتقليص الكثير من صلاحياتها في غير المجال الديني بعد الحملة الفكرية عليها من النخب المثقفة، حيث طرح فلاسفة الأنوار رؤية بديلة لما بعد الفكر الكنسي، وهي الليبرالية، تم طرح قضايا الحريات والعدالة والحرية الدينية، والانفتاح السياسي والاقتصادي، وارتبطت هذه الليبرالية في بداياتها بالليبرالية الرأسمالية، وهي الليبرالية الكلاسيكية، التي ظهر معها النظام الرأسمالي، وهي المناداة بالحرية المطلقة في المجالين الاقتصادي والسياسي، ثم جاء مطلب الديمقراطية كحل للحروب في أوروبا التي استمرت سنوات طويلة، ولذلك جاء القبول بالتداول السلمي للسلطة، من خلال ما عُرف بالعقد الاجتماعي، كما صاغه «جان جاك روسو» وبعض الفلاسفة الذين أضافوا إلى هذا العقد بعض الإضافات القانونية، وهي التي أسهمت في وقف الحروب والقبول بصناديق الاقتراع والانتخاب، كما أشرنا آنفًا.

ونجحت فكرة التداول السلمي للسلطة كطريقة سلمية للصراعات والتوترات السياسية في الغرب، لكن هذه الليبرالية جاءت ليس كرغبة بعيدة عن الأزمات الداخلية في النظام الرأسمالي، لكنها أرغمت إلى هذا المجال بسبب ما فعلته الكنيسة الغربية وممارستها المعارضة للتجديد والتغيير للأفضل، ومنها ما عُرف بالحكم الإلهي، لذلك سايرت الليبرالية الرأسمالية مطالب الليبراليين الذين ارتبطوا في بدايات ظهور هذا الفكر الجديد بالطبقات العليا في المجتمع الأوروبي، خاصة في الجانب الاقتصادي والسياسي والامتيازات الخاصة للطبقات الكبيرة، ثم اتسع هذا المفهوم بعد نضال طويل، ولم يأت تلقائيا بصورة طبيعية لكن بعد ظهور الإضرابات والتوترات والمطالبات بالحقوق العادلة للعمالة، وهي تلك الفترة التي شهدت التوسع الاستعماري وتكوين الإمبراطوريات، واستغلال شعوب المستعمرات من قبل الدول الرأسمالية الليبرالية. 

ولذلك بدأت الفكرة الليبرالية تلاقي النقد والاتهام مما تقوم به من ممارسات لا تتفق مع مقولاتها عند التأسيس، من التنظيرات الجميلة والرائعة لقضايا الحريات والعدالة الإنسانية وحقق الإنسان، والكثير من الأفكار والمفاهيم التي أبهرت الكثير من المفكرين والسياسيين في دول العالم، ومنهم بعض من الدول العربية التي استُعمرت في منتصف القرن التاسع وبداية القرن العشرين، وطبّقت هذه الليبرالية في مظاهر وسلوكيات بعينها في ظل الاحتلال، ولم تتحقق مضامين الليبرالية، كما تم تأسيسها في القرن السابع عشر والثامن عشر، وفشلت فشلا ذريعا بسبب المسخ التطبيقي لفكرة الليبرالية في الكثير من مضامينها -وسيكون لنا حديث عنها- فهذه الليبرالية الكلاسيكية سايرت الليبرالية المتوحشة في بدايات تأسيسها، لكن مع تطبيقات التوحش الرأسمالي الغربي ودون النظر إلى التوازن في التطبيق، وغياب الحقوق العادلة، زاد النقد والاعتراض على الممارسات الليبرالية الرأسمالية المطلقة في الظلم الاجتماعي، خاصة قضايا العمال الذين واجهوا التسخير بصفة غير إنسانية.

لذلك ظهرت في الغرب العديد من الفلسفات الاجتماعية والاشتراكية التي تنادي بالحقوق العادلة للعمال وإعطاء الحقوق التي توازي الجهد الذي يقدم من العمال والأكثر خطرًا على الرأسمالية أو الليبرالية الديمقراطية، ظهور الفلسفات الأكثر راديكالية، وهي الفلسفة الماركسية، هذه الفلسفات العديدة في مستوياتها المختلفة في الطرح الفكري، انتشرت شعبيتها في الغرب الرأسمالي بصورة كبيرة، وخاصة في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبعض الدول الغربية الأخرى.

مما استدعى بعض الدول الغربية الرأسمالية/ الليبرالية إلى مراجعة الكثير من قراراتها التي تخفف من القوانين المطلقة التي تحابي أصحاب رؤوس أموال، وقامت في المملكة المتحدة حكومة عمالية، وهي أقرب إلى الجانب الاجتماعي في رؤيتها الفكرية، ووضعت قوانين ونظمًا تحد من الجشع الرأسمالي وبرزت الكثير من الحقوق التي تناصر العمال كالنقابات المهنية وأدّى المجتمع المدني والصحافة دورا مهما في هذا النقد وإصلاح النظم، وتقلصت بعض مواد النظام الليبرالي الرأسمالي، وهذه ساهمت في وقف انتشار الفلسفات اليسارية والماركسية في غرب أوروبا، نتيجة قيام الكثير من الحقوق التي تقترب من النظم الاشتراكية، وهذه أيضا قامت في فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، مما أدى إلى قيام حريات كثيرة، ومنظمات عمالية ومجتمع مدني قوي في الغرب يواجه علو الرأسمالية المتوحشة وتخفيف اليد المطلقة في السوق. والرأسمالية أدعت أنها تستطيع أن تقدم التوظيف والتوازن الكامل لنشاطها الاقتصادي من خلال (ميكانيكية السوق)، ووفق الشعار الشهير المعروف كما وضعه «آدم سمث» (دعه يعمل.. دعه يمر)، وهذا الشعار المرفوع، ومن خلال هذه الفلسفة الليبرالية الرأسمالية، لكن سرعان ما ينقلب الرأسماليون إلى نزعتهم الجشعة في تهميش التوازن في حركة السوق، والهم الأكبر الذي يسعون إليه، هو السيطرة على الحركة الاقتصادية، دون أن تتم مراعاة أصحاب الدخول المتوسطة، من خلال تقديم المصلحة الفردية على المصلحة الجماعية، وتعتقد أن من هذه المنطلقات، فإن المصلحة الفردية دون غيرها هي التي تقدم التوازن في حركة السوق، لكن هذه الرؤية تجاه النظرة الفردية لحركة السوق، جعلت هذه الليبرالية المطلقة، تتوحش اقتصاديا لمصلحة أصحاب المصانع وأرباب الأعمال الكبار، إلى حد أنها سخّرت العمّال للعمل في ظروف قاسية، دون مراعاة لظروف جهدهم المضاعف، أو حقوقهم الإنسانية مقابل عملهم، وهذه الفلسفة الاقتصادية، لاقت نجاحا لا شك فيه بحسب كتابات بعض النقاد، لكنها لم تكن عادلة أخلاقيا، في نظرتها للعمالة المستخدمة.

وقد أشرت في بعض الكتابات السابقة إلى ظهور الكثير من الدعوات والفلسفات في أوروبا، تطالب بتعديل وتهذيب الليبرالية الرأسمالية المغالية في رؤيتها الفردية الكلاسيكية، خصوصا من قبل الأفكار والفلسفات الاشتراكية المتعددة الرؤى والمنطلقات الفكرية، سواء الاشتراكيات المغالية في ردة فعلها، كالنظرية الماركسية، أو التي تطالب بالتعديل في نظرتها للحقوق الاجتماعية، كالاشتراكية الفابية، ومن غيرها من أنواع الاشتراكيات الديمقراطية، التي اهتمت بقضية الحقوق العمالية والعدالة الاجتماعية، فهذه الدعوات والفلسفات الناقدة لليبرالية المطلقة لتعديلها، أو الداعية إلى نسفها كما دعا كارل ماركس في كتابه (رأسمال المال)، فإن الليبرالية المطلقة، لاقت ضغطا كبيرا من الحراك السياسي والاجتماعي المناهض لتطبيقاتها في أوروبا، كما أن هذا النظام الليبرالي لاقى انتكاسة كبيرة منذ بداية القرن العشرين، أو كما يسمى بـ(الكساد الكبير)، الذي وجه ضربة قاسية لهذا النظام، وهذه المرحلة -كما يقول الدكتور رمزي زكي إذ- «حطّم تماما أوهام الفكر الكلاسيكي والنيوكلاسيكي الذي كان ينكر إمكانية حدوث الأزمات النظام الرأسمالي ويدّعي عدم وجود تعارض بين المصلحة الفردية والمصلحة العامة. 

وقد مهد الكساد الكبير السبيل لتدخل الدولة في النشاط الاقتصادي وأن يكون لها دور فاعل في المجال الاجتماعي». بعد هذه الفترة التي واجهت الليبرالية الرأسمالية من الانتكاسة وبروز العيوب والتذمر من تطبيقاتها الاقتصادية، وبرزت حركات وأحزاب معارضة للنظام الرأسمالي، منها الأحزاب التي مالت إلى الاشتراكية الديمقراطية، دون المطالبة بالتغيير العنيف كما أشرنا آنفًا، مثلما حصل في الثورة البلشفية 1917، وهذه المرحلة المعدلة.. الجديدة أو المنظمة، واصلت تعديلاتها للكثير من فلسفتها التقليدية، مما ساهم في تدخل الدولة، والقيام بنشاطات اقتصادية لمعالجة الكساد والتعديل من نظرتها الفردية، وهذا يعني أن الرؤية السابقة لليبرالية المطلقة التي جعلت حرية السوق دون ضوابط، ودون مراعاة للجانب الاجتماعي، لم يحقق التوازن، وثبت فشله عمليا، وأن مسألة الاحتكار وفتح الباب للرأسمالية الفردية، دون تدخل الدول، لا يمكن أن يستقر دون مشكلات، في غياب النهم في الاستغلال وتذمر العمال واحتكاكاتهم، وهذا ما جعل حزب العمال البريطاني يحقق نجاحا كبيرا في الانتخابات عام في بريطانيا 1945، ونجح مرة أخرى في عام 1950، وهو الذي أسّس قوانين وتأمينات اجتماعية رائعة في المملكة المتحدة، مثل التأمين الشامل للتقاعد والعجز، وأيضا قانون الصحة الوطنية والعديد من القوانين التي راعت الجانب الاجتماعي، وهذا بلا شك أسهم في استقرار الاقتصاديات الرأسمالية بعد ذلك، لكن هذه التغييرات لم تبق دائما، فمع صعود الأحزاب اللينية في أوروبا الغربية، يأتي الانقلاب إلى الليبرالية التقليدية -الكلاسيكية- بما تمثله من انتكاسة للكثير من الأنظمة التي تحقق الكثير المزايا في الجانب الاجتماعي، وتعود بالتالي الليبرالية المتعسفة في هذا الجانب.

لكن السؤال الأهم الذي برز من خلال استقراء آراء وأفكار الليبرالية تجاه العدل والحرية وحقوق الإنسان، التي صُمت الآذان بإيجابياتها وإنصافها لكل الأمم والشعوب، فأين هي مما يجري في عالم اليوم؟ هل كان للفكر الليبرالي رأي منصف وقوي من خلال النخب المؤثرة في القرار السياسي والفكري من الإبادة الجماعية للأطفال والنساء وكبار السن على بيوتهم في غزة؟ أين الرأي الليبرالي لحقوق الإنسان مما يجري للمدارس والمستشفيات التي تُدمّر بالكامل كل يوم فيها، وتحت سمع وبصر الليبراليين؟ ودون أن يرتفع صوت النخب الفكرية والفلسفية والسياسية التي تتحدث في النظريات وتسكت عن الواقع المؤلم؟ لذلك مقولات الليبرالية الغربية لم تعد مقولات صحيحة وتقدّر إنسانية الإنسان، وحقه في الحياة والحرية والعدالة وحقوق الإنسان، بل إن شباب الجامعات في الغرب واجهوا القمع والاضطهاد والاعتقال، لمجرد أنهم رفعوا أصواتهم مطالبين برفع الظلم والقتل عن سكان غزة.. فهل هناك ما يقال فعليًّا عن الحريات والعدلة وحقوق الإنسان في الفكر الليبرالي الغربي؟.. وللحديث بقية.


* نقلا عن صحيفة “عمان”




ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية