من يناير إلى أغسطس 2024.. ماذا كشف التقرير الأممي بشأن النزاع في السودان؟

من يناير إلى أغسطس 2024.. ماذا كشف التقرير الأممي بشأن النزاع في السودان؟

بعدد هائل من الانتهاكات المروعة لحقوق الإنسان، أزاح أول تقرير أممي للجنة تقصي الحقائق في السودان الستار عن جوانب سوداء من أتون الحرب المشتعلة في البلد العربي منذ أبريل 2023.

وفي استجابة للأزمة الإنسانية الناجمة عن النزاع المسلح المستمر في السودان، قرر مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في أكتوبر 2023 إنشاء بعثة دولية مستقلة لتقصي الحقائق في البلد المأزوم.

ومنذ 15 أبريل 2023 اندلع النزاع المسلح في السودان بين قوات الجيش السودان بقيادة عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو "حميدتي"، فضلا عن الأطراف المتحاربة الأخرى.

وكشف تقرير بعثة الأمم المتحدة المستقلة الدولية لتقصي الحقائق بشأن السودان، عن ارتكاب أطراف النزاع مجموعة مروعة من الانتهاكات لحقوق الإنسان والجرائم الدولية التي قد يرقى العديد منها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

واستند التقرير الأممي إلى تحقيقات جرت بين شهري يناير وأغسطس 2024، وفق تكليف مجلس حقوق الإنسان الدولي، إذ تضمنت التحقيقات زيارات إلى دول الجوار تشاد وكينيا وأوغندا؛ فضلا عن إفادات مباشرة لأكثر من 182 ناجيًا وأفراد أسرة وشهود عيان؛ إلى جانب مشاورات مكثفة مع خبراء متخصصين ومنظمات مجتمع مدني؛ فضلًا عن تعزيز الأدلة وتحليلها من خلال المعلومات الإضافية المقدمة للبعثة.

اعتداءات مرعبة

وحٌمل التقرير القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع مسؤولية ارتكاب انتهاكات واسعة النطاق تضمنت هجماتٍ عشوائية ومباشرة، عبر الغارات الجوية والقصف ضد المدنيين والمدارس والمستشفيات وشبكات الاتصال والشبكات الحيوية لإمدادات المياه والكهرباء.

وكشف التقرير أن "أطراف النزاع استهدفت المدنيين من خلال الاعتداءات والاغتصاب وغيرها من أشكال العنف الجنسي، إضافة إلى الاحتجاز التعسفي والاعتقال والتعذيب وسوء المعاملة"، مؤكدا أن هذه الانتهاكات ترتقي إلى جرائم حرب متمثلة في الاعتداء على الحياة والأشخاص والكرامة الشخصية.

ورأى التقرير أن قوات الدعم السريع ارتكبت جرائم حرب أخرى كالاغتصاب والاستعباد الجنسي والنهب والتهجير القسري للسكان المدنيين؛ وتجنيد الأطفال دون سن 15 عامًا للمشاركة في الأعمال العدائية. 

فيما أقر بارتكاب قوات الدعم السريع اعتداءات مُرعبة ضد المجتمعات غير العربية غرب إقليم دارفور، تضمنت هذه الاعتداءات القتل والتعذيب والاغتصاب وغيرها من أشكال العنف الجنسي وتدمير الممتلكات والنهب.

وامتد النزاع في السودان إلى 14 من أصل 18 ولاية في عموم البلاد، وأسفر عن مقتل وإصابة عشرات الآلاف من المدنيين ونزوح نحو 8 ملايين نسمة داخليًا، بينما اضطر أكثر من مليوني شخص إلى اللجوء للبلدان المجاورة للسودان، لا سيما في ظل عرقلة طرفي النزاع لوصول المساعدات الإنسانية للمتضررين.

توصيات للإنقاذ

ونقل التقرير الأممي عن التنزاني محمد شاندي عثمان، رئيس بعثة تقصي الحقائق قوله إن "خطورة النتائج التي توصلت إليها البعثة تؤكد الحاجة لإجراءات ملحة وطارئة لحماية المدنيين في السودان".

ودعا عثمان إلى نشر قوة مستقلة ومحايدة مُكلّفة بحماية المدنيين في السودان على الفور، مشددا على ضرورة التزام جميع أطراف النزاع الامتثال بمقتضيات القانون الدولي ووقف الهجمات ضد السكان المدنيين فورًا وبدون شرط.

وطالب المجتمع الدولي بسرعة التحرك لدعم تطلع السودانيين إلى حكومة مدنية تمثيلية وتشاركية تحترم الحقوق المتساوية لجميع المواطنين، لتعزيز الطريق نحو المساواة والعدالة والسلام المستدام في السودان.

فيما قالت النيجيرية جوي نجوزي إيزيلو، الخبيرة الأممية وعضوة البعثة: “يعاني الشعب السوداني من مأساة يستحيل تصورها، ويجب إعطاء الأولوية لوقف إطلاق نار مستدام لإنهاء القتال، والسماح بإيصال المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين الذين هم في أمس الحاجة إليها، على نحو فعال وفي مختلف الأماكن”.

وأكدت الأردنية منى رشماوي، الخبيرة الأممية وعضو البعثة، أن "نتائج هذا التحقيق يجب أن تكون بمثابة نداء صارخ للمجتمع الدولي بأن يتخذ إجراءات حاسمة في سبيل دعم الناجين وعائلاتهم والمجتمعات المتأثرة ومحاسبة الجناة، كما ينبغي اتباع مسارًا شاملًا للعدالة الانتقالية لمعالجة الأسباب الجذرية للنزاع وتحقيق المساءلة في الانتهاكات والجرائم".

وأوصى التقرير الأممي بوجوب توسيع نطاق حظر الأسلحة إلى جميع أنحاء السودان، من أجل وقف توريد الأسلحة والذخائر وغيرها من أشكال الدعم اللوجستي أو المالي لأطراف النزاع ومنع المزيد من التصعيد المسلح ووقف نزيف الانتهاكات الحقوقية الجسيمة.

وشدد التقرير على أنه يجب على السلطات السودانية التعاون بشكل كامل مع المحكمة الجنائية الدولية وتسليم جميع الأشخاص المتهمين، بمن فيهم الرئيس السابق عمر البشير، إلى جانب إنشاء آلية قضائية دولية منفصلة تعمل جنبًا إلى جنب مع المحكمة الجنائية الدولية وبشكل تكاملي، نظرا لأن جهود السلطات السودانية في التحقيق لا تزال انتقائية وغير محايدة.

ملامح مبكرة 

وفي أبريل الماضي، كشفت البعثة الأممية لتقصي الحقائق بالسودان، في تقرير أولي، عن تورط أطراف النزاع في شن هجمات على قوافل المساعدات والبنية التحتية، ما قد يؤدي إلى حدوث مجاعة، في انتهاك واضح للقانون الدولي الإنساني.

وشددت البعثة آنذاك على التزامها بالوفاء بولايتها المتمثلة في إثبات الوقائع والظروف والأسباب الجذرية لجميع الانتهاكات المرتكبة في سياق النزاع، وتحديد هوية الأفراد والكيانات المسؤولة عنها. 

وفي يوليو الماضي، أعلنت البعثة الأممية توثيق أنماطًا مُقلقة من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، وذلك عقب مقابلات أجرتها مع ضحايا وناجين من النزاع السوداني في دولة تشاد.         

وقابلت البعثة العديد من اللاجئين الذين قدموا وصفًا تفصيليًا ومباشرًا لأعمال العنف المروعة مثل القتل والعنف الجنسي بما في ذلك الاغتصاب الجماعي، والاحتجاز التعسفي والتعذيب والاختفاء القسري والنهب وحرق المنازل واستخدام الأطفال للقتال.

وأقرت باستهداف أطراف النزاع في السودان الفئات المهنية على وجه التحديد، مثل المحامين ومدافعي حقوق الإنسان والمعلمين والأطباء والصحفيين.

ومن المقرر أن تقدم بعثة الأمم المتحدة لتقصى الحقائق تقريرها الأول عن الأوضاع في السودان إلى الدورة السابعة والخمسين للمجلس الدولي لحقوق الإنسان، والمنعقدة في سبتمبر وأكتوبر 2024، وإلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في دورتها التاسعة والسبعين، المنعقدة في أكتوبر المقبل.

دعم منقوص

بدوره، قالت الدكتورة أماني الطويل، الخبيرة في الشؤون السودانية ومديرة البرنامج الإفريقي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية بمصر: "رغم أن التقرير الأممي كشف حجم الانتهاكات الإنسانية الجسيمة من طرفي النزاع بالسودان فإن بنوده ستظل تحذيرات وتوصيات فحسب".

وأوضحت الطويل في تصريح لـ"جسور بوست"، أن التقرير الصادر عن بعثة تقصى الحقائق سيعرض على الدورة المقبلة للمجلس الدولي لحقوق الإنسان مثل جميع التقارير الأخرى، لكن التحركات المترتبة عليه ستظل مرهونة بصدور قرارات أممية نافذة من خلال مجلس الأمن تحت بند "الدعم الإنساني في السودان".

وأضافت: "الضمير العالمي يتابع الحرب السودانية عن كثب، وهناك العديد من التقارير الدولية التي تكشف حجم المعاناة الإنسانية والجرائم الكارثية ضد المدنيين هناك، لكن آليات الإنقاذ والمنح ودخول المساعدات لا تزال عاجزة عن مساعدة السودانيين".

ودللت الطويل على حديثها بقولها: "مؤتمر الدعم الإنساني للسودان والذي عقد في باريس أبريل الماضي تعهد بحشد ما يقرب من 900 مليون يورو، لكن حجم الوفاء بهذا الالتزام لم يتجاوز 16 بالمئة حتى الآن من المبلغ المتعَهَد به لإنقاذ المدنيين".

وأرجعت الطويل أسباب هذا التجاهل العالمي للأوضاع الإنسانية في السودان إلى انشغال معظم الدول المانحة بالحرب الروسية الأوكرانية وتطورات الحرب على غزة، كما أن "بعض الدول المانحة تخصص المنح للتسليح وليس للدعم الإنساني".

وفيما اعتبر أن "التقرير الأممي صادم لكنه لم يشمل كل الفواجع الإنسانية"، قال عمرو شعبان، الصحفي والمحلل السياسي السوداني، إن كثيراً من الانتهاكات لم يتم توثيقها، أبرزها عدد الإصابات وجرائم اغتصاب وتجنيد الأطفال، والإعدام خارج إطار القانون، وتعذيب المعتقلين، والتمثيل بجثث الضحايا وغيرها.

وأضاف شعبان في تصريح لـ"جسور بوست"، أن التقرير الأممي قد يمثل ورقة ضغط قوية، لكنه لن يفتح الباب أمام التدخل الدولي في الأزمة السودانية، نظرا للتوازنات الدولية، ونقص التمويل، وعجز الاقتصاديات العالمية المنهكة من تحتمل تكلفة تدهور الأوضاع في السودان.

وأضاف: "تقرير بعثة تقصي الحقائق سيمثل حصارا لمناورات الإسلاميين وإصرارهم على عدم الجلوس على طاولة المفاوضات مثلما حدث في المفاوضات التي عقدت في القاهرة وجنيف، وبالتالي من المتوقع أن تشهد الأيام المقبلة تصعيدا عسكريا خطيرا لصالح حسم هذه المعارك قبل أن يأخذ التحذير والتهديد الدولي منحنى عمليا".

ورجح عمرو شعبان أن "تشهد الأيام القليلة المقبلة نوعا من الحراك السياسي والميداني من قبل كل الأطراف الفاعلة في الصراع، بهدف توظيف ما جاء في التقرير الأممي من انتهاكات وجرائم إنسانية لصالح تعزيز مركزه في الصراع وتحسين وضعيته في المفاوضات".

وتسوء الحالة النفسية والاجتماعية للسودانيين بالتوازي مع تردي الحالة المعيشية لا سيما في المخيمات، إذ يعاني النازحون مجموعة المشكلات، أبرزها انتشار الفقر وانعدام فرص التعليم وزيادة معدلات البطالة وتردي الخدمات الصحية ومشكلات سوء التغذية ونقص التمويل وندرة مياه الشرب وتفشي الأمراض والأوبئة.



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية