التجربة الفنلندية.. الحق في بيئة مثالية

التجربة الفنلندية.. الحق في بيئة مثالية

باسم ثروت

 

 

انتهت الحرب الباردة وهدأ العالم بعض الشيء، وبدأت الأنظمة الليبرالية الغربية تتنفس الصعداء والعالم أجمع، حتى حطت على رؤوسهم أحد أكبر الأزمات التي قد تهدد الوجود البشري ذاته وهي أزمة التغير المناخي التي نتج عنها فيما بعد تأثيرات وصلت إلى حد الكوارث، كحرائق الغابات ونقص سلاسل الغذاء وغيرها، ومنذ ذلك الوقت يحاول المجتمع الدولي مواجهة هذا التغير، فتم إبرام عدد من الاتفاقات والمعاهدات عطفاً على المؤتمرات الدولية المعنية بالمناخ.

 

تعد أحد أهم هذه الاتفاقات هي اتفاقية كيوتو للمناخ التي وقعت عام 1997، بين 41 من دول العالم والاتحاد الأوروبي، بهدف دراسة تغير المناخ وإيجاد الحلول للحد من ظاهرة الاحتباس الحراري وانتشار غازات الدفيئة في الغلاف الجوي، وافقت الدول الموقعة على الاتفاقية على خفض نسب انبعاث الدفيئة إلى أقل من 5.2% حتى تصبح أقل مما كانت عليه في عام 1990م وذلك في جميع أنحاء العالم، وتم تطبيق اتفاقية كيوتو والعمل على الهدف المنشود بين عامي 2008م وعام 2012م.

 

أغفلت هذه الاتفاقية دولة من أكبر دول العالم انبعاثاً للغازات الدفيئة، الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تكن مشاركة في الاتفاق تنبعث منها غازات دفيئة بنسبة تصل إلى أكثر من 25% عن جميع دول العالم، بالإضافة إلى أستراليا التي رفضت المشاركة في الاتفاقية. وفي العام 2011 انسحبت كندا من الاتفاقية لكن كانت نهاية الفترة الأولى للاتفاقية 2008-2012، لم تحقق الاتفاقية خفضاً كبيراً لانبعاثات الغازات الدفيئة لكنها كانت النواة لاتفاقية أكبر أتت بعدها.

 

اتفاق باريس في عام 2015م والذي نص على إعادة كندا والولايات المتحدة في المشاركة في الاتفاقية وتمديدها إلى عام 2020م لإيجاد الحلول لمشكلة تغير المناخ ومشكلة الاحتباس الحراري العالمية.

 

بالإضافة إلى ذلك، تعقد قمة المناخ بشكل سنوي وتستضيفها إحدى الدول المشاركة لبحث سبل واجراءات مواجهة التغير المناخي، وتتخذ الدول إجراءات فردية وخططاً استراتيجية لمجابهة التغير المناخي.

 

وتعتبر فنلندا واحدة من أبرز الدول التي حققت نتائج إيجابية في مواجهة التغيرات المناخية فمنذ العام 1990، وضعت فنلندا خطة لخفض انبعاثات الغازات الدفيئة المسببة للاحتباس الحراري، وبالفعل نجحت في العام 2011 في خفضها لمستويات اقل بنسبة 6% من المتفق عليه في اتفاقية كيوتو المشار إليها سلفاً، وبحسب موقع “climateaction”في عام 2012، نجحت فنلندا في تخفيض انبعاثات الغازات الدفيئة لأدنى مستويات.

 

وفازت مدينة لاهتي الفنلندية التي يبلغ عدد سكانها 120 ألف نسمة على بعد 100 كيلومتر شمال هلسنكي، بجائزة عاصمة أوروبا الخضراء لعام 2021 التي تمنحها المفوضية الأوروبية، لكن كيف حدث هذا التحول فقد كانت مدينة لاشتي مدينة صناعية لعدة عقود من الزمن؟

 

حدث هذا نتيجة استراتيجية تُسمى “المدينة الخضراءالجريئة”أٌطلقت عام 2018،استطاعت من خلالها المدينة تخفيض الانبعاثات بنسبة تصل إلى 70%، بل تخلصت المدينة من إنتاج الطاقة من الفحم بشكل كامل بنهاية 2019، وتم تعديل غالبية المنازل والمدارس لتعمل بشكل موفر للطاقة تعتمد على مصادر متجددة للطاقة بنسبة تصل إلى 100%.

 

لم تقتصر جهود مكافحة التغير المناخي في فنلندا على الحكومة فقط وانما امتدت لتشرك المواطن نفسه فقد قامت الحكومة الفنلندية بتدشين تطبيق يسمى CitiCAP يقوم هذا التطبيق على عمل بصمة كربونية بشكل يومي للمواطنين، يستطيع الشخص من خلاله تتبع تحركاته ونشاطاته ومدى الانبعاثات التي تنتج عنها.

 

ليس هذا فقط، فقد وضعت فنلندا برنامج مكافآت للأشخاص الذين يسجلون معدلات انبعاثات قليلة مثل خصومات في السوبر ماركت وتذاكر نقل عام مجانية الأمر الذي حفظ المواطنين على مكافحة التغير المناخي والحفاظ على البيئة في فنلندا.

 

وبالعودة لمدينة ” لاهتي ” قامت فنلندا بتنظيف إحدى أكثر البحيرات تلوثاً منذ العام 1990، التي كانت مليئة بالنفايات ونباتات ضارة واستطاعت فنلندا رفع أكثر من مليون كيلوغرام من المخلفات والحشرات والنبتات الضارة، ومن ثم بدأت خطة التعافي، حيث وضعت فنلندا أكثر من مليون سمكة صغيرة لتتغذى على ما تبقى من الطحالب، حتى أصبحت البحيرة بعد ذلك مقصداً سياحياً لأكثر من مئة وخمسين ألف فنلندي بعدما كانت نائية لا يقترب منها أحد.

 

وتعمل فنلندا على نقل تجربة مدينة لاهتي إلى شبكة من البلديات التي تعمل من أجل أن تصبح خالية من الكربون والنفايات بحلول عام 2050، كما لعبت جامعة Lappeenranta-Lahti للتكنولوجيا (LUT) دوراً مهماً في تنمية المساحات الخضراء في المدينة منذ فتره طويلة. ويعتبر الحرم الجامعي الأخضر للجامعة، رائداً في أبحاث الطاقة الخضراء، حيث عمل على البحث عن حلول للتغير المناخي والاستخدام العملي للابتكارات الخاصة به.

 

كما وضعت فنلندا لنفسها هدفاً بأن تصبح محايدة كربونياً بحلول عام 2035، والذي يعد أحد أكثر الأهداف طموحاً لأي دولة في العالم الصناعي، وتضع فنلندا نوعين أساسيين من خرائط الطريق فيما يتعلق بالحياد الكربوني، الأول هو الذي أطلقته الحكومة ويأتي من أعلى إلى أسفل إلى العديد من قطاعات المجتمع والمواطنين.

 

أما النوع الثاني من خرائط الطريق، فهو المتعلق بالقطاعات، وهي تأتي من أسفل، بدلاً من أعلى، عندما تأخذ قطاعات ريادة الأعمال،حيث تضع الصناعات الأهداف ثم تضع الخطة، ومن ثَمَّ تدعو الحكومة لمساعدتها في اجتياز أي تحديات من شأنها عرقلتها.

 

 

إجمالاً

 

إن التجربة الفنلندية تجربة فريدة من نوعها لأنها تعمل في اتجاهين من الأعلى للأسفل، أي من الحكومة للشعب والعكس من الأسفل إلى أعلى، أي من رواد الأعمال إلى الحكومة لتساعدهم في خططهم لمواجهة التغيرات المناخية، وهو الأمر الذي يجعل فنلندا تنجح في مكافحة التغير المناخي لأن جميع مكونات الدولة تعمل على الهدف ذاته.

 

 

 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية