دعوة تتلقاها الصحافة في دبي

دعوة تتلقاها الصحافة في دبي

أنهى منتدى دبي للإعلام أعمال دورته الجديدة أمس، بعد أن عقدها على مدى يومين، وبعد أن احتفل هذه السنة بمرور 20 سنة على انطلاق المنتدى أول هذه الألفية، بتوجيه من الشيخ محمد بن راشد، نائب رئيس دولة الإمارات، رئيس مجلس الوزراء، حاكم دبي.
ولأن فيروس كورونا كان قد عطل المنتدى بعض الوقت، فإن العودة من بعد أيام الفيروس كانت مختلفة، وكان اختلافها على مستويين معاً؛ مستوى ما يقدمه المنتدى من جوائز في كل سنة، ثم مستوى ما كان عليه أن يطرحه للنقاش بين الحضور.
أما المستوى الأول، فلقد قصد أن يتطلع من خلاله إلى الصحافة بمفهومها العام، وأن يقول إن الصحافة المكتوبة بالذات إذا كانت قد هيمنت على المنتدى وجوائزه بامتداد عقدين من الزمان، فلقد آن الأوان ليأخذ المنتدى خطوتين إلى الأمام؛ إحداهما تمد يداً إلى الصحافة المرئية بكل ما تمارسه من تأثير في جمهور مشاهديها، والأخرى تمد يدها إلى الصحافة الإلكترونية التي جاء بها العصر، والتي لا تزال تزحف إلى أرض جديدة كل صباح، ولم يعد من الممكن تجاهلها ولا القفز فوقها.
وفي صيف هذا العام كانت منى المري، رئيسة نادي دبي للصحافة، قد جاءت إلى القاهرة، وكانت قد وقفت تعلن من قاهرة المعز، أن جائزة الصحافة العربية التي عاش المنتدى يقدمها في كل السنوات السابقة قد صارت ثلاثاً، وإن الصحافة التلفزيونية سوف تزاحم الصحافة المكتوبة ابتداءً من هذه الدورة، وكذلك ستزاحمها الصحافة الإلكترونية بفضائها الواسع.
وكان معنى هذا، أن الجائزة التي ذاع صيتها بين أهل المهنة قد رأت أن تجدد شبابها، وأن تبعث دماءً شابة في عروقها، وأن تدعو للذهاب إلى المستقبل الذي انعقدت حوله دورة هذه السنة ورفعت شعاره. لقد رأت ذلك وكان لا بد أن تراه لتخاطب العصر الذي تعمل على أرضه، وتتحرك تحت سمائه، وتستمد أنفاسها من الروح التي تميزه عما مضى قبله من عصور.
وعندما وقفت الأستاذة المري تطلق افتتاح المنتدى لخّصت هذا المعنى فقالت، إن للإعلام العربي أن ينتقل إلى المستقبل حيث يجب أن يكون.
ورغم أن هذه عبارة قليلة الكلمات، فإنها كثيرة المعاني، وبعيدة الآفاق؛ لأن الذهاب إلى المستقبل ليس نزهة، ولن يكون، وإنما له أدواته التي لا بد أن يتسلح بها في الذهاب، كما أن له سبيله الذي لا بد أن يسلكه في رحلته إلى هناك.
ومن الطبيعي أن يقال كلام كثير عن الأدوات، وعن طبيعتها، وعن أن المحتوى الذي يقدمه الإعلام يقف في المقدمة من أدواته؛ لأن إعلاماً بلا محتوى يذهب به إلى جمهوره، ويشكل به عقله، ويصوغ به وجدانه، هو إعلام لا يستطيع التأثير في هذا الجمهور مهما كانت لغته، ومهما كان أسلوبه الذي يعتمده في الكلام، ومهما كان صخبه وضجيجه في هذا الكلام.
لا نقاش في أن المحتوى الجاد، والجيد، هو الشيء الذي يميز إعلاماً عن إعلام، وهو الذي يضمن إقبال الجمهور، ويضمن في الوقت ذاته تقديم ما يفيد هذا الجمهور، وما يحتاج إليه، لا ما يريده فقط؛ لأن الجمهور قد يستهويه في بعض الأحيان ما لا يحتاج إليه ولا بالطبع ما يفيده، وليس من الحكمة في شيء أن يساير الإعلام جمهوره، ولا من الفطنة ألا يبادر بما يحتاج إليه المتلقي متقدماً به على ما ينجذب إليه.
ولكن إلى جانب المحتوى شيء آخر يتوازى معه في أهميته، وقد يتقدمه ويتجاوزه في مراتب الأهمية والتفضيل، وليس هذا الشيء سوى الحرية بمعناها الذي يعطي للإعلام مذاقاً يغيب بالضرورة إذا افتقد حريته في تناول قضاياه.
وإذا كان أول شيء يأتي على الذهن عند الحديث عن الإعلام الإلكتروني هو مواقع التواصل الاجتماعي، فهذه المواقع لا تعرف المحتوى الجيد أو الجاد إلا قليلاً، وتجد في المقابل من الحرية فيما تمارسه وتقدمه ما لا يجده الإعلام المرئي أو الإعلام المكتوب!
وإلى أن تكون لهذا المواقع ضوابطها التي تضع ما تقدمه في إطاره الصحيح، ستظل المنافسة بينها وبين الإعلام المرئي أو المكتوب منافسة غير عادلة، وستظل المقارنة بين الطرفين مقارنة ظالمة، وسيظل جمهور الرأي العام هو الضحية في الحالتين!
ولهذا؛ فالحديث عن محتوى جيد، أو جاد، في إعلام إلكتروني، أو إعلام مرئي، أو إعلام مكتوب، من دون توافر القدر المناسب من الحرية في تناول شتى القضايا، هو حديث أقرب إلى التمنيات الطيبة منه إلى الواقع الحي الذي يعيشه الناس.
والمشكلة أن الخلط الذي وقع منذ ما يسمى الربيع العربي، بين الإعلام وبين الفوضى، قد جنى على الإعلام في عمومه في هذه المنطقة من العالم، وأساء إلى الحرية باعتبارها قيمة، وربما في النهاية خلق منها كلمة سيئة السمعة.
وأقول ربما لأن المنطقة ليست سواء في النظر إلى الحرية، ففي منطقتنا أطراف ترى الحرية واجبة ولا بديل عنها، وفيها أطراف تتحسس رأسها كلما سمعت الكلمة في حد ذاتها، مع أن الحرية نفسها لا تحتمل القسمة على اثنين، فهي إما أن تكون قائمة أو لا تكون، ولا منطقة وسط تقف فيها فتستقر في مكانها.
ولا سبب في هذا المأزق الذي تجد الحرية أنها واقعة فيه، إلا ما يسمى الربيع العربي، فلقد جعل منها مرادفاً للتعبير غير المسؤول عن النفس، وجعل من ممارساتها في أيام الربيع أجواء لا يحب الذي عاشها أن يراها من جديد ولا أن يعود إليها.
ولا بد من التفرقة طول الوقت بين حرية مسؤولة تمارس دورها المفترض في مجتمعها، وبين حرية على النقيض لا ترى لها دوراً له ملامح أو يرتبط بمعالم، اللهم إلا إذا كان السعي إلى هدم الأوطان مما يمكن أن يقال عنه أنه من حصيلة ممارسة الحرية في أي مجتمع.
لا بد من فض هذا الاشتباك بين المعنيين لكلمة واحدة هي الحرية، ولا بد من إزالة هذا اللبس الذي وقع في معنى أصل الكلمة، فلم يعد كثيرون قادرين على التفرقة بين الحرية في معناها الأول الذي لا خلاف ولا غنى عنه، وبين معناها الذي طرأ مع هبوب رياح ذلك الربيع، فاختلط بالأول وتقدم لتكون له الصدارة، بينما توارى ما لهذه الكلمة من اعتبار، ومن حساب، ومن وزن، ومن قيمة.
وبما أننا نتكلم عن مستقبل، وعن إعلام عليه أن يذهب إلى هذا المستقبل، فهي فرصة سانحة يدرك فيها القائمون على أمر الإعلام أن ذهابه إلى هناك مرهون بحريته، وأن الحرية من الضروري أن تقترن به في رحلة الذهاب، وأن ذهابه بغيرها ليس ممكناً.
والحرية التي أقصدها هي التي تتخلص مما لحق بها في أجواء الربيع، وهي التي تعود بالمعنى إلى أرضه، كما يعاد الشيء إلى مكانه، وهي التي يعجز الإعلام عن أن يحمل محتوى إلى المتلقي، إلا بحضورها، وإلا بفعلها الذي يميز بين ما هو زائف في دنيا الميديا وبين ما هو أصيل.
إذا كان الكلام هو عن مهنة الصحافة، وإذا كانت الصحافة في عمومها قد وصلتها دعوة في منتدى دبي للإقلاع إلى المستقبل، فلا بد أن تكون الحرية المسؤولة حاضرة في القلب من كل حديث عن مستقبل المهنة، فإذا غابت الحرية بمعناها المشار إليه عن المهنة، فذهابها إلى المستقبل ينقصه الشيء الكثير، ثم إنه يظل ذهاباً على قدم واحدة لا على قدمين!


نقلا عن “الشرق الأوسط”


كاتب المقال: سليمان جودة كاتب وصحفي مصري


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية