تنامي الاستخدامات التجارية والترفيهية للفضاء الخارجي

تنامي الاستخدامات التجارية والترفيهية للفضاء الخارجي

ظهر الاستغلال التجاري للفضاء الخارجي مع بداية الألفية الجديدة عندما اصطحبت مركبة الفضاء الروسية “سويوز” في عام 2001 رجل الأعمال الأمريكي دينيس تيتو في رحلة مدارية، شارك في إعدادها والتحضير لها شركة Space Adventures الأمريكية. ولمدة عقد، ظلت الأخيرة الطرف الوحيد في مجال السياحة الفضائية، ولم تظهر أطراف أخرى في هذه الصناعة، على غرار شركات “سبيس إكس” و”بلو أوريجين” وغيرها حالياً، إلا بعد تبلور مؤشرات تكشف عن أن هناك شريحة متنامية من العملاء أصبحت مهتمة بسياحة الفضاء. وعلى الرغم من أن نموذج أعمال السياحة الفضائية مازال عالي التكلفة، وذلك لما يقتضيه من تمويل ضخم وتكنولوجية عالية، فإن دخول لاعبين جدد في هذه الصناعة قد يعزز التنافس في هذا المجال ويهوي بتكلفة الرحلات تدريجياً. 

طبيعة سياحة الفضاء:

كان وصول يوري جاجارين كأول إنسان للفضاء الخارجي في أبريل 1961، تاريخاً فارقاً في استكشاف العالم للفضاء الخارجي، إذ فتح الباب أمام الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، لإرسال رحلات متواصلة لاستكشاف الأرض والكواكب المختلفة. وعلى مدار العقود الماضية، احتكرت الحكومات بشكل شبه كامل الرحلات العلمية لاستكشاف الفضاء؛ وذلك نظراً لما تنطوي عليه من استثمارات ضخمة ومخاطر عالية. ولم يظهر مفهوم الاستغلال الاقتصادي للفضاء وعلى الأخص ما يُعرف بـ “الرحلات الفضائية” إلا في بداية الألفية الجديدة. 

وفي عام 2001، اصطحبت المركبة الفضائية الروسية “سويوز”، التابعة لوكالة الفضاء الروسية (Roscosmos)، رجل الأعمال الأمريكي دينيس تيتو Dennis Tito إلى محطة الفضاء الدولية، في رحلة كلفت تيتو نحو 20 مليون دولار، ولتمهد لمرحلة جديدة لاستغلال البشر للفضاء.

وجدير بالذكر أن الوكالات الدولية تُعرِف نطاق الفضاء الخارجي بأنه تلك المساحات الأعلى من 100 كيلو متر فوق سطح البحر. واعتماداً على هذا الحد، يوجد مداران، كما هو موضح في الصورة، الفضاء دون المداري (suborbital)، والفضاء المداري (orbital).

وشجعت هذه الرحلة التاريخية لدينيس تيتو ظهور شركات أمريكية خاصة تعرض على الأثرياء خوض رحلات إلى المحطة الفضائية الدولية أو الفضاء دون المداري. ومن هنا، ظهر ما يُعرف بـ “سياحة الفضاء” والتي تُعرف، وفق الأدبيات، بأنها “النشاط التجاري الذي يُقدم للعملاء تجربة مباشرة في الفضاء عبر الرحلات الجوية شبه المدارية والمدارية أو في الفضاء السحيق”. ويحصل من يقومون بهذه على تجربة فريدة من نوعه، تشمل رؤية الأرض من الفضاء، وتجربة انعدام الوزن والسرعة العالية، وكذلك رؤية الظواهر الطبيعية المختلفة.

التطور التجاري للصناعة:

تعتبر شركة Space Adventures الأمريكية، والتي تأسست في عام 1998 بمبادرة من رجل الأعمال ريتشارد جاريوت، أول شركة عالمية خاصة تُقدم خدمات الرحلات الفضائية المدارية، وبدأت برامجها بالتعاون مع برنامج الفضاء الروسي، وكان أول عملائها دينيس تيتو الذي يعتبر أول سائح يزور الفضاء. 

ولقد ظلت الشركة الأمريكية الطرف الوحيد في هذه الصناعة الوليدة لأكثر من عقد، حيث كانت شريحة العملاء محدودة ولم يكن متوقعاً للشركات الجديدة أن تحقق عائدات كبيرة من استثماراتها في مجال سياحة الفضاء. غير أن الرحلات الفضائية اكتسبت رواجاً أكبر لدى شريحة أوسع من الأثرياء في السنوات الماضية، ما شجع إقدام بعض رجال الأعمال المغامرين على إنشاء شركات في مجال سياحة الفضاء. 

وعلى مدار السنوات الأخيرة، ظهرت شركات عديدة في هذا المجال وأبرزها “سبيس إكس” (SpaceX) و”بلو أوريجين” (Blue Origin) و”فيرجين جالاكتيك” (Virgin Galactic). وفي ملمح آخر لتطور الصناعة، حصلت الأخيرة على أول رخصة خاصة لنقل الركاب إلى الفضاء بغرض السياحة، من هيئة تنظيم الطيران الفيدرالية الأمريكية وكان ذلك في 25 يونيو 2021. 

ومن دون شك، فإن دخول لاعبين جدد لهذا المجال يمثل دفعة كبيرة لصناعة سياحة الفضاء ويؤدي إلى تعزيز التنافسية فيها وتطوير خدماتها وعملياتها التي لا تقتصر على تصنيع المركبات الفضائية، وإنما أيضاً بناء مرافق إطلاق الصواريخ، وتقديم اللوجستيات الخاصة بالرحلات الفضائية مثل التدريب والإعداد البدني، والخدمات الطبية، والأطعمة الخاصة وغيرها.  

أنماط الرحلات الفضائية:

حتى الآن، تقدم الشركات الخاصة الأمريكية نموذجين رئيسيين للرحلات السياحية إلى الفضاء الخارجي، ويتضح ذلك على النحو التالي:

1- الرحلات دون المدارية: هي الرحلات التي تدور حول ارتفاع يتراوح بين 80 و100 كيلو متر، بحيث يستطيع السياح رؤية كامل الاستدارة الكروية للأرض ويشعرون بانعدام تأثير جاذبيتها لدقائق معدودة، وتستمر الرحلة ما بين 3 إلى 6 ساعات. ويتنافس في تقديم هذا النوع عدد كبير من الشركات، وعلى رأسها شركتا “فيرجين جالاكتيك” و”بلو أوريجين”.

وقد أطلقت هاتان الشركتان رحلات تجريبية للفضاء دون المداري مؤخراً، وبما يعطي دفعة إضافية لصناعة سياحة الفضاء، وهي رحلة لشركة “فيرجين جالاكتيك” يوم 11 يوليو 2021 حاملة معها مؤسس الشركة رجل الأعمال ريتشارد برانسون لمدة 6 ساعات. وفيما يبدو أشبه بسباق بين الأثرياء في الفضاء، نجح الملياردير الأمريكي جيف بيزوس، يوم 20 يوليو الجاري، في تحقيق حلمه بالصعود إلى الفضاء على متن أول رحلة مأهولة لشركته “بلو أوريجين”، وكان برفقته أخوه مارك ورائدة الطيران والي فانك وأول زبون للشركة الهولندي أوليفر دايمن البالغ 18 عاماً. 

2- الرحلات المدارية: هي الرحلات التي تدور لارتفاعات أعلى من 100 كيلومتر، بحيث تلتحم مع محطة الفضاء الدولية (ISS)، ليقضى السائح بضعة أيام على متنها. وتعتبر شركتا Space Adventures وAxiom Space الأمريكيتين أبرز الجهات الفاعلة في تقديم هذا النوع. وقامت الشركة الأولى، كما ذكرنا، باصطحاب رجُل الأعمال الأمريكي دينيس تيتو إلى محطة الفضاء الدولية مُقابل 20 مليون دولار، في رحلة استمرت 8 أيام، تلتها 7 رحلات أخرى حتى عام 2009.

وقد توقف هذا النوع من الرحلات منذ عام 2009؛ نظراً لضعف الطلب عليها في العقد الماضي. ولكن تجددت الآمال بانتعاشها مجدداً، حيث تعاقدت شركة “سبيس إكس” المملوكة لرجل الأعمال والملياردير الأمريكي إيلون ماسك، على القيام برحلات غير مُجدولة لنقل عدد من منسوبيها من بينهم الممثل الأمريكي توم كروز إلى محطة الفضاء الدولية لتصوير جزء من فيلم خاص به داخل المحطة. 

نموذج ديناميكي:

يرتكز نموذج أعمال خدمات السياحة الفضائية على تحقيق عدة عناصر، لا تجعل من خدماته باهظة الثمن فقط، وإنما يتطلب قدراً كبيراً من التكنولوجيا الفائقة، ويمكن توضيح ذلك كالتالي:

1- سلسلة إمداد خاصة: تعد المركبات الفضائية من أهم عناصر السياحة الفضائية، حيث إنه في العادة تضطلع شركات مقدمة خدمات الرحلات الفضائية ذاتها أو شركات أخرى بتصنيع المركبات والصواريخ الفضائية. ويحتاج تصنيعها إلى تكنولوجيا عالية وتمويل ضخم. وحتى الآن، يقوم بعمليات التصنيع شركات يمتلكها أو يدعمها رجال أعمال مغامرون، وبمساعدة وكالة الفضاء الأمريكية، لديهم السيولة اللازمة لعمليات البحث والتطوير، وتحمل التكاليف على المدى الطويل. وتقوم شركة “سبيس إكس” بتصنيع مركبتها Crew Dragon، فيما تقوم شركة “بوينج” بتصنيع المركبة Starliner. 

2- الشراكة مع الهيئات الحكومية: ربما لن يقتصر دور الهيئات الحكومية على مسائل تنظيم السياحة الفضائية في المستقبل، وإنما أيضاً المشاركة في أرباحها. فعلى مدى عقود، ضخت الحكومة الأمريكية استثمارات ضخمة لاستكشاف الفضاء، وستعمل يوماً ما على استردادها.

وتعتبر محطة الفضاء الدولية أغلى بناء صناعي على الإطلاق، حيث بلغت تكلفتها الإجمالية نحو 150 مليار دولار بنهاية عام 2010، تحملت منها الولايات المُتحدة الأمريكية 57 مليار دولار. وتشير تقديرات إلى أن وكالة الفضاء الأمريكية ستجني 35 ألف دولار نظير الترخيص لإقامة الفرد ليلة واحدة بالمحطة الدولية. 

3- تمويل مغامر: توقفت الرحلات المدارية منذ عام 2009، ما يلفت الانتباه إلى أن عملية تقديم خدمات سياحة الفضاء تنطوي على مجازفات استثمارية عالية. ولم يكن أمام الشركات لتمويل مشاريعها إلا من خلال الطروحات لأسواق المال، وتمويل المالكين، وبيع المقاعد المستقبلية، والتعويل على انتعاش هذه الصناعة في المستقبل.

وبطبيعة الحال، فنظراً لأن هناك شريحة صغيرة جداً من المستهلكين القادرين على شراء تجربة فضائية، فتعد تكاليف الرحلات المدارية باهظة للغاية وتتراوح بين 30 و35 مليون دولار، بينما تصل تكلفة رحلات السياحة دون المدارية إلى 200 ألف دولار، طبقاً لنموذج تسعير “فيرجين جالاكتيك”.

وحول مقدرة الأفراد على خوض رحلات الفضاء، أظهر استطلاع للرأي أجراه بنك الاستثمار COWEN في عام 2020، أن هناك طلباً نشطاً محتملاً على الرحلات دون المدارية يشمل حوالي 2.4 مليون فرد (حوالي 0.3% من سكان العالم) تزيد ثروات أقلهم على 5 ملايين دولار. ومن بين هؤلاء الأفراد، فإن حوالي 39% على استعداد لدفع 250 ألف دولار على الأقل مقابل المقعد الواحد، ويظل الرقم كبيراً مقارنة بمستوى دخولهم.

4- دخول لاعبين جدد: يتضح من الاستطلاع السابق أن هناك طلباً مستقبلياً ضخماً على خدمات السياحة الفضائية، تقابله محدودية سعة المركبات الفضائية التي تصل إلى 8 أشخاص كحد أقصى. لذلك تعمل شركات أخرى مثل “سبيس إكس” على تطوير مركبة تصل سعاتها إلى 100 راكب، من أجل خفض كلفة الرحلات واستيعاب الطلب المتزايد، الذي قد يغري شركات جديدة على المنافسة في هذا المجال.

ختاماً، يمكن القول إن سياحة الفضاء تشهد تطوراً مدعوماً بدخول مزيد من اللاعبين في الصناعة، وتطوير سلاسل الإمدادات الخاصة بها بما في ذلك بناء مركبات وصواريخ أكثر كفاءة، على نحو سوف يخفض تكلفة الرحلات تدريجياً. لذا من المتوقع أن تتخذ الرحلات دون المدارية طريقها للانتشار التجاري في غضون الــ 15 عاماً المقبلة، حيث ستتمكن الشركات من تعويض تكلفة مخاطر الاستثمار مع زيادة الطلب على خدمات السياحة الفضائية. بينما المتوقع أن تكون الرحلات المدارية بعيدة نسبياً عن الانتشار التجاري في ظل قيود الإقامة في محطة الفضاء الدولية.


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية