لماذا أدرجت البورصات العالمية الصناديق المشفرة؟

لماذا أدرجت البورصات العالمية الصناديق المشفرة؟

احتلت العملات المشفرة في السنوات الأخيرة أهمية كبيرة في تناولها بالنقد والمتابعة في الدوريات ومنصات التواصل المتخصصة؛ نظراً للتطور الكبير الذي شهدته إصداراتها، ومعدلات النمو الاستثنائية التي حققتها أسعارها وصناديق الاستثمار فيها وفي مشتقاتها، فضلاً عن المخاطر المتعددة التي انطوت عليها عمليات التعدين والتداول والاحتفاظ بتلك العملات. 

وعلى الرغم من مقاطعة البنوك المركزية لهذه العملات، فقد شهدت الأنظمة النقدية والمالية بعدد من الدول مؤشرات واضحة على درجة من القبول لبعض أشكال العملات الرقمية، وتقنيات السلاسل المغلقة بصفة عامة. كما شهدت بعض البورصات الكبرى عمليات قيد وتداول لصناديق العملات المشفرة على نحو غير مسبوق. ويلقي هذا التحليل الضوء على العملات المشفرة وصناديقها، وتطورات قيدها بالبورصات.

خلفية عن العملات الرقمية:

بالنظر إلى البورصات المتقدمة وما تقدمه من أدوات استثمارية متنوعة ومعقدة، يمكن أن نتعلم أن كل ما يمكن رسم تطوره يمكن بيعه وشراؤه، فتطور حركة المناخ قابلة للبيع والشراء، ومن الممكن أن نبيع “الهواء” بالمعنى الحرفي، ونحقق من وراء ذلك ثروات كبيرة، وذلك ليس على سبيل المقامرة، بل بغرض التحوّط من تقلبات الطقس، وما لهذا من آثار مدمرة للمحاصيل ومواسم السياحة.

ومنذ أن صدرت العملات الرقمية المشفرة وراجت أسواق تداولها، انقسم المراقبون إلى فريقين؛ فريق يراها محض مضاربة على منتج وهمي لا يُعرف على سبيل اليقين كيف يتم تعدينه وبواسطة من؟ ومن يملك أرصدته الصانعة لسوقه والمحددة لأسعاره؟ وفريق آخر يراها منتجاً نقدياً جديداً لا تختلف بورصته عن بورصة العملات التقليدية، والتي هي بورصات عالية المخاطر لكنها ليست “صالة قمار”. 

وبين هذين الفريقين، يمكن القول إن العملات الرقمية بصفة عامة هي التطور الطبيعي للنقود التي لم تعد هناك ضرورة لصدورها في صورة ورقية، وأنها متى صدرت عن بنوك مركزية أو تحت رقابتها فإنها سوف تتمتع بكل مواصفات النقود القانونية. كما أن العملات الشهيرة حالياً مثل “بيتكوين” و”إيثريوم 2″ مازالت في “منطقة تعدين الأوهام الرقمية”، وتصلح وسيطاً لعمليات غسل وتهريب الأموال والإغراء بالربح السريع، كونها تتعرض لتقلبات حادة للغاية، وتفتقر إلى كثير من خصائص النقود المعروفة، ويتضح ذلك على النحو التالي:

1- العملات الرقمية وخصائص النقود القانونية: باستثناء ما تتمتع به هذه العملات من ندرة نسبية، فإنها لا تصلح وسيطاً للتداول؛ نظراً لعدم استقرارها وتقلب أسعارها العنيف خلال اليوم الواحد. كذلك لا تصلح تلك العملات مخزناً للقيمة؛ كونها تستعر بشدة لمجرد إعلان أحد الأثرياء مثل إيلون ماسك، مؤسس شركة “تسلا” للسيارات الكهربائية، اقتناعه بأهميتها، وأنه يستثمر فيها ما تزيد قيمته السوقية على 5 مليارات دولار. 

كما أن العملة الرقمية ذاتها تخسر آلاف الدولارات في بضعة أيام لمجرد أن هدأت تغريدات الأثرياء الداعمة لها. كذلك لا يمكن القول إن عملة مثل “البيتكوين” تنطوي على قيمة كامنة، حتى وإن كان خلقها مستنداً إلى احتياطي كبير من الطاقة والوفر في الوقت ذاته، لأن الطاقة المستخدمة في تعدين العملات الرقمية حالياً تُهدر من دون أن تضيف شيئاً مادياً أو حتى رمزياً لنفع البشر.

 حتى وإن زعم بعض المعدّنين أنهم طوّروا آلية لتحويل استهلاك الطاقة من عملية التعدين إلى منتجات خاصة بالذكاء الصناعي أثناء الفترات التي ينخفض فيها سعر العملة الرقمية، لأن صدق هذا الزعم لا ينفى الفرصة الكبيرة المهدرة لعدم استهلاك تلك الطاقة في نشاط منتج خلال فترات التعدين، والتي يدب فيها النشاط بفعل ارتفاع سعر العملة في الأسواق فقط، وليس لأي سبب مادي آخر.

2- مصدر القيمة الحقيقي في العملات الرقمية: بتجريد عملية تعدين العملات المشفرة، نحصل على الاحتياطي الحقيقي للقيمة التي تكتسبها هذه العملات بعيداً عن المضاربة التي تؤثر في سعر تداولها، والقيمة تكمن في الطاقة والزمن. وهنا، يمكن الاقتراح بأن يتبنى بنك التسويات الدولية BIS مبادرة لاستبدال جميع العملات التقليدية بوحدات حرارية بريطانية (BTU) والتي يتصادف تشابهها مع رمز عملة البيتكوين غير المحدودة. وتتمتع عملة وحدات الطاقة بالقبول العالمي، وبالاستقرار، وبالندرة النسبية، والقابلية للتداول والتخزين، وتتحول معها ثقافة البشر إلى توفير وتوليد وتخزين الطاقة عوضاً عن إهدارها.

واقع السوق وأرباح العملات الرقمية:

على الرغم مما سبق، لم يكن ممكناً أن يتجاهل عالم المال والأعمال مضاعفات الربحية التي تحققها العملات المشفرة. فقد بلغت القيمة السوقية لوحدات عملة “بيتكوين” المصدرة – حتى كتابة التحليل- نحو 885 مليار دولار (كانت قد تجاوزت تريليوناً و32 مليار دولار في مارس الماضي). كما بلغت القيمة السوقية لعملة “إيثريوم” الرقمية نحو 378 مليار دولار. صحيح أن التقلبات العنيفة لأسعار تلك العملات تعكس ارتفاع معدلات المخاطر السوقية، لكنها تعكس كذلك ارتفاع فرص تحقيق أرباح رأسمالية كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة.

وبالفعل، بدأت بعض البنوك المركزية تدرك مخاطر مقاطعة العملات المشفرة من دون مواكبة ما تمثله من تطور. وكان البنك المركزي الصيني، الذي يمثل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، قد أنشأ في عام 2014 معهداً لبحوث العملات الرقمية، وطوّر ما عُرف بـ “اليوان الرقمي” الذي بدأت اختباراته العملية في مناطق حدودية وعلى نطاق ضيق منذ خريف 2020.

واعتبرت السلطات الصينية “اليوان الرقمي” منتجاً مختلفاً عن العملات الرقمية الأخرى؛ كونه يخضع لسلطة المركزي الصيني، وهو ما دفع الحكومة الصينية إلى غلق بورصات العملات المشفرة على أراضيها اعتباراً من عام 2017. وفي مايو 2021 منعت المؤسسات المالية وشركات المدفوعات من تقديم خدمات متصلة بالعملات المشفرة، مع تحذير المستثمرين من التعامل على تلك العملات. 

إلى جانب المركزي الصيني، تدرس العديد من البنوك المركزية تطوير شكل من أشكال العملات الرقمية، ومن ذلك تجربة اليابان وكوريا الجنوبية. بينما تشير التقديرات في الاتحاد الأوروبي إلى أن “اليورو الرقمي” قد يصدر خلال 4 سنوات فقط. لذلك فقد انتشر حالياً مفهوم العملة الرقمية للبنك المركزي A Central Bank Digital Currency (CBDC)، وهي عبارة عن عملات قانونية تمثّل التزاماً على البنك المركزي، الذي يستعيض عن طباعة النقود الورقية وسك العملة بإصدار عملات إلكترونية أو حسابات رقمية مقبولة حكومياً. 

صناديق العملات الرقمية والسلاسل المغلقة:

بمجرد انعقاد النية لدى البنوك المركزية الكبرى بالتعامل مع مفهوم العملات الرقمية بصورة أكثر جدية، توافرت للعملات الرقمية المتداولة حالياً شرعية نسبية وعمق يسمح بتداولها على نطاق أوسع. ومع بوادر قبول عدد من البنوك المركزية فكرة العملات المشفرة بعد مقاطعة، ومع ملاحظة تلك الأرباح والخسائر الاستثنائية أيضاً التي تحققت بفعل المضاربة على تلك العملات، نشأت فكرة إصدار “وثائق صناديق للعملات المشفرة”، بذات الآلية التي تصدر بها صناديق المؤشرات المتداولة، على أن تكون حزمة من العملات المختلفة أساساً للإصدار كنوع من توزيع المخاطر بتنويع المنتجات المستثمر فيها.

وقد سمحت كندا وعدد من الأسواق الأوروبية بقيد وتداول صناديق العملات المشفرة. ومازالت هيئة الأوراق المالية الأمريكية SEC تقاوم وترفض ذلك المنتج. لكن البورصات الأمريكية الكبرى قد عرفت تداول عدد من صناديق السلاسل المغلقة Block Chains Funds مثل تلك المعروفة بالرموز التالية: BLOK وBLCN وLEGR وغيرها من الصناديق التي استفادت من الزخم الذي أحدثته تكنولوجيا السلاسل المغلقة في تعدين العملات الرقمية. وتلك الصناديق يجب أن يتحقق لها أحد شرطين:

1- إما أن تستثمر أموالها في شركات تتعامل في مجال تحوّل تطبيقات الأعمال عبر تطوير واستخدام تكنولوجيا السلاسل المغلقة. 

2- أو تستثمر أموالها في عقود مستقبلية وعقود خيارات مربوطة بأداء “بيتكوين” و” إيثريوم” وعدد من العملات الرقمية الأخرى أو في منتجات استثمار عملات رقمية مقدمة من شركات إدارة الأصول مثل Grayscale  وBitwi.

وحالياً، تترقب المؤسسات المالية الأمريكية قراراً قد يصدر خلال شهر أغسطس الجاري، تسمح بموجبه هيئة الأوراق المالية الأمريكية بإصدار وقيد محلي لصناديق العملات المشفرة. علماً بأن قيد وتداول هذا النوع من الأوراق المالية في بورصات كبرى، مثل ناسداك ونيويورك، يضعها في مصاف الأوراق المالية المراقبة من قِبل جهات الرقابة المتعددة في السوق الأمريكية مثل SEC وFINRA وغيرهما، مما يقدم نوعاً من الطمأنينة للمتعاملين. 

وتعد سوق الأوراق المالية الأمريكية من أكثر الأسواق المالية في العالم خضوعاً للرقابة، حتى أن العاملين في هيئة الأوراق المالية الأمريكية يقرّون بأن سوقهم مغالى في تنظيمها (Over Regulated)؛ نظراً لتعدد جهات الرقابة بها. كذلك فإن صدور صناديق المؤشرات مستندة إلى مجموعة متنوعة من العملات الرقمية أو حتى من المشتقات التي تصدر مستندة إليها، يجعلها أكثر استقراراً من العملة المنفردة.

كما أن وجود صانعين للسوق على تلك المؤشرات يكسبها قدراً أكبر من الاستقرار، خاصة أن تداول المؤسسات على هذا النوع من المنتجات المالية يكون أكبر من تداول الأفراد. ومن المعروف أن سلوك الفرد في البورصات يكون أشد تقلباً من سلوك المؤسسة.

وكان أداء صناديق السلاسل المغلقة المتداولة بالولايات المتحدة الأمريكية ملفتاً خلال العام الماضي، حيث حقق ثلاثة منها عائداً سنوياً تجاوز ذلك الذي حققه مؤشر S&P500 والبالغة نسبته حتى شهر أغسطس الجاري 34%. واقترب عائد صندوق BLCN من تحقيق عائد نسبته 39% خلال ذات الفترة، بينما حقق صندوق (LEGR) عائداً سنوياً نسبته 36.4%.

مخاطر التعامل على العملات الرقمية:

نحن إذن أمام منتج مالي يكتسب قبولاً وشرعية بفعل حجم التداولات عليه وهو العملات المشفرة، وأمام منتجات مشتقة عن تعاملات العملات المشفرة تكتسب زخماً بقيدها ببورصات عالية الرقابة، لكن طفرة العملات المشفرة ينبغي ألا تجعلنا نغفل عن منتجات مالية أخرى كانت شديدة الاستقرار وتحظى بتصنيف ائتماني شبه منعدم المخاطر، ثم باتت سبباً في أزمة الرهن العقاري الأمريكية والتي أغرقت العالم كله في أزمة مالية عالمية تسببت في ضياع ملايين الوظائف وإغلاق آلاف المؤسسات.

ومن ذلك ما عُرف بالـ  (Collateralized Debt Obligation) Synthetic CDO “التزامات الديون المدعومة برهن”، والتي كانت تحقق أهدافها الاستثمارية من خلال المراهنة على مبادلات التعثر الائتماني ضمن مشتقات أخرى صدرت جميعاً بضمانة ديون القطاع العقاري الأمريكي، والذي أدى تعثره في النهاية إلى انهيار الأسواق كافة في سلوك أقرب إلى تأثير “الدومينو”. 

وفي حالة الرهن العقاري، كان المنتج الأصلي قوياً وهو عبارة عن دين مضمون بأصل مادي، لكن مضاعفات الاستثمار كانت تتم على أوراق مالية كثيرة تم اشتقاقها من محفظة تلك الديون. بينما في حالة العملات المشفرة فالعكس صحيح، حيث إن المنتج الأصلي هش ويفتقر في الوقت الحالي (وقبل أن تضمنه البنوك المركزية) إلى صفات الأصل المالي ذي القيمة الحقيقية.

أما المنتجات المشتقة منه، مثل صناديق السلاسل المغلقة وصناديق مؤشرات العملات المشفرة، فهي تتمتع بدرجة أكبر من الشرعية والمصداقية على أثر قيدها ببورصات أوراق مالية كبرى وخضوعها لرقابتها، مع استمرار تحقيقها لعائدات استثمار استثنائية نتيجة ربطها بتكنولوجيا العملات المشفرة عالية الربحية. لكن في كلتا الحالتين، فإن حجم التعاملات وتعقّد المنتجات لن يكونا كافيين لمنع الانهيار المحتمل، الناتج عن غياب الغطاء المالي المناسب. ومن ثم كان من الضروري أن ينتبه صانعو القرار إلى هشاشة تلك المنظومة قبل أن تقود إلى أزمة مالية جديدة، لأن الناس لا يرون المخاطر إلا في وقت البيع والهبوط.


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية