البابا فرنسيس وناجية الهولوكوست.. الخير ينتصر على الشر

البابا فرنسيس وناجية الهولوكوست.. الخير ينتصر على الشر

 

المحبة أقوى، الكراهية لا محل لها، الشرور ومن يقف وراءها لا بد لها أن تتلاشى، والإنسانية ستنتصر، الحواجز تزول، السيوف لا بد لها أن تطبع لتضحى سككاً، ورماح الموت تتحول إلى مناجل للحصاد.

نهار الخميس الفائت 27 يناير، اليوم المكرس لذكرى ضحايا المحرقة النازية، تلك التي راح ضحيتها عدة ملايين من البشر، جريرتهم الوحيدة هي ديانتهم اليهودية، استقبل البابا فرنسيس بابا الفاتيكان، إديت بروك الناجية من مخيم أوشفيتز، أحد أسوأ المخيمات ذِكراً وذكرى في التاريخ الإنساني برمته وليس في تاريخ الشعب اليهودي حول العالم.

من هي إديت بروك، وما هي قصتها، ولماذا يستقبلها الأب الروحي لنحو مليار وثلاثمئة وخمسين مليون كاثوليكي حول العالم؟

قبل نحو عام نشرت صحيفة “لوسيرفاتوري رومانو”، الجريدة الرسمية الناطقة باسم حاضرة الفاتيكان، قصة الكاتبة والشاعرة الهنغارية الأصل، إديت بروك، الناجية من مخيم الموت والهلاك النازي، أوشفيتز.

لفتت القصة انتباه البابا فرنسيس، والذي أخبر المسؤولين من حوله برغبته في لقاء تلك السيدة، والذين قاموا بمحاولات مضنية لإحضارها إلى مقر البابا الرسمي، غير أن مسؤولي الكرسي الرسولي قد فهموا الأمر على نحو خطأ، فأعاد البابا التأكيد على أنه هو من يود الذهاب إليها لا هي من ينبغي أن تحضر، بمعنى نية البابا الذهاب إليها في منزلها.

ما يدور في عقل فرنسيس في حقيقة الأمر مثير للتأمل والتفكر، ذلك أنه يضع الكنيسة الرومانية الكاثوليكية بعظمتها أمام واقع معاصر تصالح وتسامح غير مسبوق.

قبل المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، لم تكن قدما الحبر الأعظم تلامسان الأرض، بل كان يُحمل على محفة، وذاكرة الكاميرا المعاصر لا تزال تحفظ صوراً في هذا السياق.

 من جانب آخر، كانت النظرة الكاثوليكية لليهود، إن لم نقل محافظة عدائية، فقد كانت شديدة القسوة، وهناك من المرويات المؤلمة الكثير الذي حفظته الذاكرة الأوروبية، فعلى سبيل المثال وفي الأزمنة القروسطية كانت هناك عادة أن يحضر يهودي كل يوم جمعة عظيمة ليقف قسراً أمام باب بعض الكنائس وليتولى كل مصلٍ لطمه على خده.

حين ظهر الفاتيكاني الثاني غيّر الطباع وبدل الأوضاع، وطفت على السطح أهم وثيقة في القرن العشرين.. "في حاضرات أيامنا"، والتي لم تتوقف عند مد الجسور فقط مع اليهود وإنما شملت كذلك العالم الإسلامي، وقد كانت علامة نبوية لأبناء إبراهيم في طريق الجسور لا الجدران.

لم تصدق إديت بروك نفسها وهي ترى فرنسيس الفقير وراء جدران الفاتيكان واقفاً يقرع على باب شقتها في العاصمة الإيطالية روما، وعند استقبال زائرها الكبير والمثير، بل وبكل تأكيد الخطير بأفكاره المتجاوزة للممكن والمحتمل، وهذا ما يميز بابويته.

 

علقت بروك بالقول: "لا نكون أبداً مستعدين لأجمل لحظات حياتنا، كما لا نكون مستعدين لأسوأ اللحظات أيضاً"، فأجابها الرجل ذو الثوب الأبيض بالقول "ثم هناك مفاجأة ما ينبع من الداخل، من قلبنا".

 

ما الذي حمله فرنسيس إلى بروك؟

 حكماً وبموجب الزيارة كان لا بد له من حمل أشياء معبرة، مثل الشمعدان السباعي، بالإضافة إلى تلمود بابل بنسخته المزدوجة اللغة، أب بالعبرية والإيطالية، هذه هي الهدايا العينية التي أخذها أسقف روما، خليفة بطرس إلى السيدة العجوز التي بلغت التسعين من عمرها.

 غير أن الهدية التي لا تقدر بأموال تمثلت في المشاعر التي عبر عنها فرنسيس، مشاعر الرفض للظلم الإنساني المتمثل في لحظات التوتاليتارية الجنوبية، والشمولية الاستبدادية، ورفضه لامتهان كرامة الإنسان الذي خلقه الله في أحسن حال ورأى أنه حسن جداً.

 لم تشعر بروك فقط بدفء وصدق مشاعر فرنسيس، بل يهود العالم برمته، وإن شئنا الدقة كل المهانين والمجروحين في إنسانيتهم، بالضبط كما فعل مع مسلمي الروهينغا من قبل، وقد عبر عن قربه منهم، وإدانة ما يلاقونه من اضطهاد بشأن دينهم وإيمانهم، على حسب تعبيره.

في لحظات أنوار المحبة عبر لقاء فرنسيس وبروك، تذكرت الأخيرة بعضاً مما أسمته "الأنوار في الظلام"، بمعنى لحظات النور التي عاشتها في أوشفيتز رغم الألم والمرارة، ومنها ذاك الجندي الذي أبعدها بالقوة عن أمها التي أرسلت إلى غرفة الغاز في أوشفيتز، وذاك الآخر الذي قدم لها قفازات مثقوبة، إلا أنها كانت ثمينة بالنسبة إليها، وقبلهما قدم لها طباخ مشط شعر سائلاً عن اسمها.

وفيما تقص بروك مأساتها، يعقب فرنسيس بقوله: "يا لها من شجاعة، ويا لهذه المعاناة.. جميعنا أخوة، حتى وإن نسي قايين هذا أحياناً كما الحال في القرن العشرين".

الخميس الماضي وفي موعد له رمزيته كانت بروك تقوم بما يشبه رد الزيارة لفرنسيس، وخلال اللقاء تم الحديث عن كيفية نقل ذاكرة الأحداث للشباب، وأشار كلاهما للقيمة التي لا تقدر بثمن لهذه الذاكرة، حتى في أوجهها الأكثر ألماً، بهدف عدم الوقوع مجدداً في المآسي نفسها.

 هل كان هناك ما هو أهم ألف مرة ومرة من الحديث الذي دار بين فرنسيس وبروك وكلاهما على عتبة التسعينيات؟

 الذين قدر لهم رؤية صور اللقاء كاملة، والذين لديهم علم من كتاب لغة الجسد، يرون صدقاً في المشاعر بصورة غير مسبوقة، صدق يقودنا إلى الهتاف بعبارة: نعم نقدر، نعم نقدر على عبور جسر التنهدات، وآلام حروب الدردنيل إن جاز التعبير، نقدر أن نخلي من ورائنا ذكريات العداء والخصام، وأن نحلم عوضاً عنها بأفق من الحس في طريق تنمية الشعوب والجوار الخلاق، وبمقاربات إنسانوية ترقى الأمم وتضحى الحياة عادة لا الموت.

مثير شأن فرنسيس ورمزية تحركاته اللوجستية والذهنية، وآخرها هذا المشهد الذي جاء على وقع طبول الحرب بين المعسكرين الشهيرين، الناتو وروسيا.

 انتهى الصراع باسم الأيديولوجيات، لتصعد حروب القوميات، وكان النسيان هو آفة حارتنا البشرية بالفعل كما أشار إلى ذلك أديب نوبل نجيب محفوظ في رائعته "أولاد حارتنا".

 يبدو أن فرنسيس قرأ جيداً قصة "بندقية تشيخوف"، للأديب الروسي الكبير، وها نحن في الفصل الأول حيث البندقية معلقة على الحائط، ومع بروك يأمل ألا تنطلق في الفصل الثالث مدوية بحرب عالمية خطيرة وكارثية.

باسم البشرية ومع فرنسيس نطلب من السماء الصفح والسماح عن أهوال والبشر ونتضرع لإغلاق أبواب الجحيم وفتح أبواب النعيم ولأيام يرعى فيها "الذئب والحمل معاً.. لا يؤذون ولا يهلكون".

 

 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية