التقارب الأرميني التركي.. الأبعاد والدلالات

التقارب الأرميني التركي.. الأبعاد والدلالات

باسم ثروت

على امتداد سنوات ما بعد انتهاء الحرب الباردة، ومنذ استقلال أرمينيا عن الاتحاد السوفييتي في العام 1991، وتحديداً في العام 1993 قطعت العلاقات الأرمينية التركية بشكل شبه كامل وأغلقت الحدود بين البلدين، بسبب وطأة التاريخ الذي لم يشف حتى اليوم من آثار اتهام تركيا تهجير ما يقارب مليوني أرميني من أراضيهم داخل الدولة العثمانية أثناء الحرب العالمية الأولى، وارتكاب مجازر بحقهم.

 

بالإضافة إلى المجازر الحميدية، التي ترفض أنقرة الاعتراف بها، كان لقطع العلاقات أسباب أخرى من ضمنها احتلال إقليم “ناغورني قرة باخ” الأذربيجاني من قبل أرمينيا، كما تقول تركيا وأذربيجان، فهو من ضمن الأسباب التي من أجلها قطعت تركيا علاقاتها مع أرمينيا عام 1993، وأغلقت حدودها البرية معها، دعما لحليفها الأذربيجاني.

 

ظلت الأوضاع متأزمة بين البلدين حتى العام 2009، كان داود أوغلو وزيرا للخارجية آنذاك، فقد حاول التقرب من أرمينيا وكاد أن يصل لاتفاق مع أرمينيا، إلا أن رد الفعل العنيف من قبل المعارضين في البلدين حال دون ذلك، حيث رفض المعارضون في تركيا قبول أي اتفاق ما لم تنسحب أرمينيا من ناغورني قره باغ، فيما طالب الأرمينيون من أنقرة الاعتراف أولا بأحداث المجازر الحميدية عام 1915، بوصفها “إبادة جماعية”.

 

استمر الوضع على هذا الحال بين الشد والجذب من كلا الطرفين حتى خريف عام 2020، حين تعمق الشرخ في جدار العلاقة بين البلدين بسبب النزاع العسكري الذي اشتعل بين أرمينيا وأذربيجان بشأن إقليم ناغورني قره باغ، حيث دعمت أنقرة حليفتها باكو.

 

إلى أن توقفت المعارك بعد وساطة روسية أبرم على أساسها اتفاق على وقف الأعمال القتالية، كرس هذا الاتفاق بين طياته هزيمة عسكرية لأرمينيا، حيث تنازلت بموجب هذا الاتفاق عن مساحات من الإقليم خسرتها خلال المعارك، إضافة إلى سبع مناطق محاذية كانت قد سيطرت عليها خلال الحرب السابقة في التسعينيات.

 

الشاهد والغريب هنا، منذ عدة أشهر حدثت اتصالات وتنسيقات سرية غير معلن عنها، بين أنقرة ويريفان نجحت في الاتفاق مع أرمينيا للإعلان عن موافقتها على فتح أجوائها أمام رحلات الطائرات التركية المتوجهة إلى أذربيجان.

 

كما في وقت لاحق لذلك ليس بالبعيد، مررت حكومة أرمينيا خطة العمل حكومية وافقت عليها الهيئة التشريعية الأرمينية تنص على أن البلاد مستعدة لبذل الجهود لتطبيع العلاقات مع تركيا.

 

من ثم، جاء إعلان أرمينيا نيتها تعيين مبعوث خاص لها لبحث إمكانية تطبيع علاقاتها مع جارتها تركيا، تم الرد عليه بإعلان مماثل من قبل وزير الخارجية التركي، مولود تشاوش أوغلو.

 

يبقي السؤال المطروح، ما هي دلالات التقارب التركي الأرميني وموقف الدول المجاورة وغير المجاورة منه؟

 

بعد أن تم تهميش تركيا في أثناء الصراع العسكري بين أذربيجان وأرمينيا حول إقليم ناغورني قره باغ الذي أفضى إلى اتفاق من خلال وساطة روسية، شعرت أنقرة بالتهميش من قبل روسيا فلم يكن أمامها الكثير من البدائل سوى تطبيع العلاقات مع أرمينيا للرد والضغط على روسيا والعودة مرة أخرى للعب دور رئيسي في الأزمة، كما أن تطبيع العلاقات مع أرمينيا يعني الرجوع عن اتهام تركيا بإبادة الأرمن، وفتح الممرات للنقل، والأسواق، وتسليم مزيد من الأراضي لأذربيجان.

أما الجانب الأرميني، الذي لا يزال يعاني من امتداد تأثيرات الحرب مع أذربيجان، ومن أزمات اقتصادية نتجت من سنوات تبعيتها الطويلة للاقتصاد الروسي، فإنها بحاجة إلى تركيا لفتح أسواق جديدة في تركيا وخارجها ما سيسمح للبلاد بتنويع اقتصادها وتقليل الاعتماد على روسيا.

كما تري أرمينيا في تحسين العلاقات مع أنقرة حرمانا لأذربيجان من بعض المزايا، بغض النظر إن كان التحالف الأذربيجاني التركي سيبقى على حاله أم لا، إلا أن زخمه قد ينخفض إذا أقامت أرمينيا علاقات أفضل مع تركيا.

 

وتبدو روسيا وكأنها الخاسر الأكبر من هذا التطبيع بين تركيا وأرمينيا، فقد يؤدي التطبيع إلى تنويع سياستها الخارجية وتقليل الاعتماد على الاقتصاد الروسي، فقد شكلت الحدود المغلقة دائما بين تركيا وأرمينيا أساس قوة موسكو في المنطقة وإن توطيد العلاقات بين أنقرة ويريفان قد يؤدي إلى تقليل النفوذ الاستراتيجي لروسيا في منطقة القوقاز.

 

إلا أنه وعلى الرغم من ذلك، أعربت روسيا عن استعدادها لمساعدة أرمينيا وتركيا على تطبيع العلاقات بينهما، قائلة إن ذلك سيعزز السلام والاستقرار في المنطقة. وقالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا: نحن الآن أيضاً على استعداد للمساعدة على التقارب بين الدولتين المتجاورتين على أساس الاحترام المتبادل ومراعاة مصالح بعضهما بعضا.

 

أما إيران، فقد صرح مسؤول سابق في الخارجية الإيرانية، بأن إيران تعارض التطبيع لأن أرمينيا على الحدود مع تركيا، لذلك تحاول طهران منعها من التواصل مع الدول الإسلامية مثل تركمانستان وأوزباكستان وأذربيجان.

 

بالنسبة للموقف الأمريكي، أعلنت الخارجية الأمريكية، عن ترحيبها ودعمها لتعيين الخارجية التركية ونظيرتها الأرمينية مبعوثين خاصين لبحث عملية التطبيع بين البلدين، وقال وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، في تغريدة على تويتر: نرحب وندعم بقوة بياني وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو ووزارة الخارجية الأرمينية، بشأن تعيين مبعوثين خاصين لبحث عملية التطبيع.

 

عبَّرت اليونان، عن انزعاجها الكبير نتيجة إشارات التقارب بين تركيا وأرمينيا خلال الآونة الأخيرة، من خلال وسائل الأعلام يونانية، حيث ذكرت أن التصريحات المتبادلة بين المسؤولين في تركيا وأرمينيا سببت إرباكاً لليونان.

 

إجمالاً، قد يكون التقارب الأرميني التركي بعيداً بسبب انعدام الثقة الراجع إلى البُعد التاريخي السابق بين الجانبين كما ذكرنا سلفاً، لكن ما حدث من إرهاصات مبدئية يمكننا اعتباره إشارة ايجابية. لكن قد يكون هناك ما يحول دون الوصول للتطبيع، فبالتأكيد ستحاول أذربيجان التأثير على تفكير أنقرة خوفاً من أن يتعارض التطبيع مع مصالح أذربيجان، وقد لا يتم التطبيع دون وجود روسيا التي قد تكون غير مهتمة تماماً بعملية التطبيع وفتح الحدود، وهذا يجعل عملية التطبيع المحتملة محاطة بالعديد من المشاكل التي يمكن أن تقوض عملية التطبيع.

 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية