العقل العربي بين الغضب والتعصب والعواطف الجياشة

العقل العربي بين الغضب والتعصب والعواطف الجياشة

هناك حقيقة سوسيو-سيكولوجية علينا مواجهتها بشجاعة فكرية حين نتدبر أمر حال المواطن العربي حيال ما يقع من حوله وفيه.

ويعبر المواطن العربي والمغاربي حياته السياسية والدينية والإبداعية المعاصرة ضحية ثقافة معقدة، تتوزعها ظاهرة الغضب في إدارة وتدبير شؤون الدولة والتشدد والعنف الديني في إدارة الحياة الروحية والعواطف الجياشة في إنتاج إبداع الكبت!  

هي ظاهرة يعيشها المواطن العربي والمغاربي بامتياز!

على المستوى السياسي، يقضي المواطن البسيط حياته تحت سقف ضغط خطاب مفخخ بالغضب، فمن خلاله وفيه تمارس السياسة من قبل من يديرون عجلة الشأن العام بغضب وسياسة الحنق والاحتقان وسياسة رد الفعل في غياب التأمل والتفكير وتقليب الأمور على جهاتها المختلفة.

يتعامل أصحاب القرار مع خصومهم بغضب مسبق جاهز، بحكم وبنيّة مسبقَين، لا يستمعون إلى محاوريهم، يحاورون أنفسهم أكثر مما يتحدثون إلى الآخر شريكهم في المسيرة وفي الاختلاف، يعتقدون أن العالم كله عدوهم، وأن الجميع ينصب لهم، فنظرية المؤامرة تعيش فيهم، وهي عدتهم وعصاهم التي يتكئون عليها، يلجأون إليها في تبرير إخفاقاتهم الاقتصادية والسياسية والعلمية والثقافية، يلجأون إليها حتى في تفسير تغيّر الحالة الجوية وحدوث الكوارث الطبيعية من فيضانات وزلازل وحرائق وسقوط الطائرات.

يمارس العربي السياسة بعقلية الفروسية وبحس الانتقام من عدو ولو وهمي، يصنع العدو حين لا يكون له عدو، عقلية الفروسية تجعله يعيش حياته في حرب ولو مع طواحين الهواء، وهو في هذه الحروب المنتصر دائماً ولو في رأسه وتهيؤاته.

في السياسة، يغضب العربي من كل من هو من جلدته إذا ما أراد أن يتزحزح عن أيديولوجية الغضب، عن معتقد الغضب، يعتقد أن ذلك تنازل، بأنه خان، بأنه غيّر جلده. يتعامل مع السياسة كما يتعامل مع العقيدة، إيمان مطلق من دون شك أو تساؤل أو مراجعة.

وكما في ممارسة السياسة، يمارس العربي والمغاربي المسلم دينه بكثير من الغضب أيضاً، بل من العنف، فالإمام لا يتحدث إلا ليتوعد وكأنه هو الجالس على عرش السماوات يوزع أقساط الخير والشر على العباد، ويمنح الحق في الدخول إلى الجنة والطرد منها لهذا أو ذلك، يتهدد المؤمنين البسطاء في كل خطبة حتى يعتقدون وبشكل عفوي بأن الدين هو "التهديد والوعيد"، فينتشرون في الأسواق واليوميات بهذا الحس، فيعم الغضب والخوف والكوابيس. قلما تجد رجل دين مبتسماً، ضحوكاً، مقبلاً على الحياة بفرح كما يجب أن تعاش الحياة ببهجة.

لقد أصبح التشدد في الدين هو القاعدة، والتسامح هو "الـخيانة"، الانغلاق هو المسطرة والدعوة إلى العيش المشترك مع المسيحي واليهودي والملحد هو "كفر" أو "خروج عن الدين".

التدين السياسي، كما هو في الحياة اليومية للمسلم، وبشكل عام، خزان وقود للغضب ومطية لسياسة الانعزال والخوف من الآخر.

وكل من قاوم هذا الفهم المتعصب أو خرج عنه يصنف في باب العميل أو العدو أو ضد الله سبحانه وتعالى كما يفهمونه، وكما يتصورونه ويصورونه: الإله المهووس بتعذيب البشر.

على المستوى الإبداعي، فالعربي يحب قراءة النصوص الغامرة بالعواطف الجياشة!

هي ليست قراءة بالمفهوم الإبداعي، إنها استهلاك كبتي، فمن أين يا ترى جاءت هذه الرغبة الرومانسية في مجتمع عنيف سياسياً ومتوعد دينياً؟

غالبية، إن لم أقل جميع، المثقفين من مبدعين وقراء عاديين كبروا وترعرعوا على نصوص مصطفى لطفي المنفلوطي المترجمة من الفرنسية اللغة التي يجهلها كلية! وعلى روايات إحسان عبد القدوس وقصائد نزار قباني وأغاني عبد الحليم حافظ وأم كلثوم وهي القواسم المشتركة بين الجميع من الشرق حتى الغرب، من عرب وبربر وأكراد وما جاورهم من أقوام أخرى.

حين نبحث عن هذه الميول الثقافية، فإننا لا نجد تفسيراً لها سوى أن العربي يبحث عن هذه النصوص ذات الرأسمال الفائض من العواطف الجياشة كي يهرب من واقع مليء بثقافة الغضب والتهديد وثنائية التحليل والتحريم التي سقط فيها المجتمع، فهو في مثل هذا الوضع يلتجئ إلى البحث عن ثقافة للتفريغ، وهي حالة اجتماعية وسيكولوجية وثقافية ودينية تدل على انتكاسة في الحياة العامة.

يهرب العربي إلى ثقافة العواطف الجياشة من أدب وموسيقى وسينما وأفلام الإثارة لأنه مطارد في يومياته من قبل الخطابات السياسية والدينية العنيفة التي تدفع إلى الانتحار بمفهومَيه الرمزي والجسدي.

ففي الوقت الذي تصنع السياسة مواطناً مريضاً بوباء العنف ويصنع الدين السياسي مؤمناً مريضاً بالخوف من الآخر، تصنع ثقافة العواطف الجياشة قارئاً مراهقاً، يلهث وراء غيم من الكلام الفارغ، وحين ندقق في مثل هذا الوضع، نجد أن الكتاب الذين يملأون نصوصهم بهذه "العواطف الجياشة" هم الأكثر مقروئية.

وفي الحالات الثلاث تكون المرأة هي محور الخطابات حتى وإن بدت مختلفة في الظاهر، فالسياسي يعتقد أن المرأة ملكية خاصة شأنها شأن بقية الرعية، والديني يراها شيطاناً هي سبب الهزائم كلها، سبب الخطيئة الأولى والراهنة، والكاتب صاحب العواطف الجياشة يراها لقمة في عشاء ساخن، استهلاك جسدي.

وفي الحالات الثلاث يكون الوطن مزرعة عند السياسي، ويكون شيئاً مؤجلاً عند الديني لأن الوطن هو الآخرة، ويكون عند الكاتب صاحب العواطف الجياشة كمشة من كلام مضبب مسقي بدموع التمساح. يلتقي السياسي الغاضب ورجل الدين المتشدد وكاتب العواطف الجياشة في العمل على مسخ المجتمع وتبليد المواطن.

وبين الغضب عند السياسي والتعصب عند رجل الدين والعواطف الجياشة الناتجة من ثقافة الكبت عند المبدع يغيب العقل ويحاصر في المجتمع العربي والمغاربي على السواء.


نقلا عن إندبندنت عربية


كاتب المقال: أمين الزاوي كاتب و روائي و مفكر يكتب باللغتين العربية و الفرنسية أستاذ كرسي بجامعة الجزائر المركزية ترجمت رواياته إلى ثلاث عشرة لغة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية