في قلب الدمار.. تصاعد العنف القائم على النوع الاجتماعي في غزة تحت نيران الحرب والنزوح

في قلب الدمار.. تصاعد العنف القائم على النوع الاجتماعي في غزة تحت نيران الحرب والنزوح
المعاناة والألم على وجوه نساء غزة

بينما تتوالى الغارات الجوية وتُسحق البيوت وتُهجر العائلات من ديارها في قطاع غزة، تتفاقم أزمة صامتة بين الركام: عنف قائم على النوع الاجتماعي يتغلغل في حياة النساء والفتيات، ويهدد نسيج المجتمع الغزي الممزق أصلًا. في بلد يعاني من حصار مزمن ونزاعات متكررة، جاءت الحرب الأخيرة لتدفع الأوضاع إلى مستويات غير مسبوقة من الألم واليأس.

مع نزوح جماعي جديد تجاوز 714 ألف شخص -أي ما يقارب ثلث سكان غزة- منذ أشهر قليلة، فقدت العائلات توازنها ومصادر حمايتها التقليدية، ومع ضياع الخصوصية داخل الملاجئ المكتظة، وانعدام الأمن في الشوارع وحتى في طوابير المساعدات، باتت النساء والفتيات هدفًا أسهل للعنف الجسدي والجنسي، والاستغلال.

تقول سهير التي تعمل في مساحة آمنة للنساء والفتيات بدير البلح لصندوق الأمم المتحدة للسكان: "شهدنا زيادة حادة في عدد الناجيات اللواتي يطلبن المساعدة.. لكننا نعمل وسط قصف متواصل ونقص حاد في الموارد، لا توجد مساحات آمنة كافية" وفق موقع أخبار الأمم المتحدة.

وتؤكد تقارير المنظمات الحقوقية والأممية هذا الواقع؛ إذ أشار صندوق الأمم المتحدة للسكان إلى أنّ مستويات العنف القائم على النوع الاجتماعي ارتفعت بنحو 32% خلال الأشهر الستة الماضية فقط، فيما حذرت منظمة هيومن رايتس ووتش من أن النزوح الجماعي والأوضاع المعيشية المزرية تُهيئ بيئة خصبة لتزايد الزواج المبكر وعمالة الأطفال.

قصص فقدان وصمود

بين الشهادات المؤلمة، تقول ابتسام (58 عامًا): "عانينا فقدان الأزواج والأبناء، نعيش بلا خصوصية، والقلق لا يفارقنا… كل يوم هو معركة جديدة"، أما أمل، العاملة بمركز شؤون المرأة في مخيم البريج، فتصف الوضع: "النزوح المتكرر والغارات التي لا تتوقف أدت إلى حالة من الخوف وانعدام الأمان لم نشهدها من قبل".

حتى العاملات في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي، أصبحن بدورهن في قلب الخطر؛ أم لثلاثة أطفال نزحت أربع مرات وفقدت عشرة من أفراد أسرتها تقول: "رغم الحزن العميق ومرارة الفقد، واصلت عملي في دعم النساء.. لكن التوفيق بين مسؤولياتي تجاه أسرتي وعملي صار شبه مستحيل".

انهيار منظومات الحماية

في ظل الحصار المستمر ومنع دخول المساعدات منذ مارس الماضي، توقفت مساحات آمنة عن العمل بالكامل، فيما تعمل 14 مساحة أخرى بطاقة محدودة، تقول أسماء التي تعمل في شمال غزة وتهتم خصوصًا بدعم ذوات الإعاقة: "القيود على الحركة وتعطل الاتصالات جعلت الوصول لهؤلاء النساء أكثر صعوبة.. كثيرات أصبحن غير مرئيات وسط الفوضى".

إضافة لذلك، تعطُّل العدالة الرسمية بفعل انهيار المؤسسات الحكومية والمحاكم شجع على إفلات المعتدين من العقاب، وجعل النساء والفتيات أكثر ترددًا في الإبلاغ خوفًا من الوصمة أو الانتقام.

أزمة تتجاوز الإحصاءات

تُظهر بيانات صندوق الأمم المتحدة للسكان أن أكثر من نصف النساء والفتيات اللواتي نزحن تعرضن لشكل من أشكال العنف الجسدي أو النفسي أو الجنسي خلال النزوح الأخير، لكن الأرقام الرسمية لا تعكس سوى جزء ضئيل من الحقيقة؛ فمعظم الناجيات لا يُبلّغن بسبب الخوف أو انعدام الثقة بالنظام القانوني.

وفي تقرير صدر أخيراً، حذرت «لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)» من أن تداعيات العنف قد تُفاقم أزمات الصحة النفسية التي يعاني منها أكثر من 65% من سكان غزة، بحسب تقديرات سابقة.

الصدمات النفسية وتفكك المجتمع

تصف الاختصاصيات في غزة أن آثار العنف لا تتوقف عند الجروح الجسدية، بل تترك ندوبًا نفسية عميقة. تقول سلمى مديرة حالة في خان يونس وأم لأربعة أطفال: "هناك نساء فقدن القدرة على النوم، يعانين نوبات هلع مستمرة.. جهد بسيط لدعمهن قد ينقذ حياتهن".

مع تشتت العائلات وتفكك شبكات الدعم التقليدية من الأقارب والجيران، يزداد الشعور بالعزلة، وخلال جلسات الدعم النفسي المحدودة، تتكرر نفس المخاوف: القلق على الأطفال، فقدان الأمان، العنف من الأزواج أو الأقارب الذكور، والمستقبل المجهول.

عمالة الأطفال والزواج المبكر.. استراتيجيات بائسة للبقاء

تحت وطأة الجوع والبطالة وانهيار الاقتصاد -حيث فُقد نحو 80% من السكان مصادر دخلهم- تلجأ بعض العائلات إلى تزويج بناتهم مبكرًا أو دفع الأطفال للعمل في الشوارع لجلب لقمة العيش. وهي ظواهر سجلت ارتفاعًا ملاحظًا وفق تقارير محلية وأممية.

يحذر صندوق الأمم المتحدة للسكان من أن هذه الممارسات بحق النساء والفتيات ليست مجرد تقاليد اجتماعية بل قرارات يائسة في سياق الفقر المدقع، وقد تُطيل دورة العنف سنواتٍ قادمة.

تحديات غير مسبوقة أمام الإغاثة

حتى المبادرات المحلية والمنظمات النسوية صارت تكافح للاستمرار، وأدت انقطاعات الكهرباء ونقص الوقود إلى تعطل الخطوط الساخنة للدعم النفسي والإبلاغ عن العنف، ما جعل الوصول للناجيات أصعب من أي وقت مضى.

وتؤكد الأمم المتحدة أن نحو 80% من المرافق الصحية التي تقدم خدمات الأمومة والصحة الإنجابية مهددة بالتوقف في الأيام المقبلة بسبب نفاد الوقود، ما سيحرم آلاف النساء والفتيات من خدمات حيوية.

عنف متجذر ومتفاقم بالحروب

تاريخيًا، عاش المجتمع الغزي في ظروف استثنائية منذ عقود حصار إسرائيلي مشدد منذ 2007، ونزاعات متكررة كل بضع سنوات، وخلال كل جولة تصعيد، كانت نسب العنف الأسري والجنسي تتزايد، وفق تقارير رسمية، بسبب ارتفاع مستويات التوتر والفقر وفقدان الأمل.

لكن الحرب الأخيرة التي بدأت في أكتوبر 2023 اعتُبرت الأطول والأعنف، وأدت إلى نزوح متكرر لمئات الآلاف وانهيار واسع للبنية التحتية، ما ضاعف الأخطار بشكل غير مسبوق.

صمود النساء وتقصير العالم

وسط هذه المأساة المركبة، تبقى قصص النساء العاملات في الدعم الإنساني دليلًا على الصمود والأمل، إلا أن منظمات محلية ودولية تحذر من أن استمرار الحصار ومنع دخول المساعدات يعني ببساطة مزيدًا من العنف والخسائر.

فالعنف القائم على النوع الاجتماعي في غزة لم يعد مجرد أزمة خفية، بل صار جرحًا مفتوحًا في ضمير العالم، يحتاج إلى تضامن وتحرك عاجل قبل أن يلتهم ما بقي من حياة وكرامة.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية