تعرية النساء بين الردع والحقوق.. هل تنجح باكستان في كبح جرائم العنف العلني ضد المرأة؟

تعرية النساء بين الردع والحقوق.. هل تنجح باكستان في كبح جرائم العنف العلني ضد المرأة؟
احتجاجات ضد انتهاكات حقوق المرأة في باكستان

أثار مشروع قانون أقرّه مجلس الشيوخ في باكستان في يوليو الجاري جدلًا عميقًا في الأوساط الحقوقية والسياسية والشعبية، إذ يقضي المشروع بتعديل القوانين الجنائية وإلغاء عقوبة الإعدام في بعض الجرائم الشديدة الخطورة: مثل إيواء الخاطفين، وتجريد النساء من ملابسهن في الأماكن العامة.

التعديل يقضي باستبدال السجن مدى الحياة وغرامة مالية بعقوبة الإعدام، بحسب موقع صحيفة "ذا نيوز" الباكستانية، وذلك في محاولة للتوافق مع التزامات باكستان الدولية ضمن اتفاقية التجارة التفضيلية «جي إس بي+» الموقّعة مع الاتحاد الأوروبي والتي تُلزم الدول الموقّعة بقصر عقوبة الإعدام على الجرائم "الأكثر خطورة" كما يعرّفها القانون الدولي.

جدلية العقوبة والردع

يبرز في مقدمة المعارضين للمشروع سيد الظفر، رئيس كتلة حركة إنصاف باكستان في مجلس الشيوخ، الذي يرى أنّ جريمة تجريد المرأة من ملابسها لا تقل وحشية عن القتل العمد، بل هي "إعدام علني للكرامة الإنسانية" يجب أن تواجه بعقوبة الإعدام دون تردد.

أما وزير القانون والعدل، عزام نذير تارار، فتبنّى وجهة نظر مغايرة، إذ عدّ تشديد العقوبة لا يكفي وحده لردع الجريمة، مستشهدًا بتجربة الدول الأوروبية التي لا تطبق الإعدام ورغم ذلك تحقق معدلات جريمة منخفضة لا تتجاوز 2%.

الكرامة المهدورة.. ألم جماعي يتجاوز الضحية

جريمة تجريد المرأة من ملابسها في فضاء عام ليست مجرد اعتداء فردي، بل جرح غائر في جسد المجتمع كله، تنطوي هذه الجريمة على إذلالٍ جماعي يتجاوز الضحية، وتهديد صريح لكل امرأة بأن أمنها في الشارع والعمل والدراسة يمكن أن يُسلب في لحظة.

بحسب تقارير صادرة عن منظمات مثل "هيومن رايتس ووتش" و"العفو الدولية"، تكررت في السنوات الماضية حوادث علنية لتجريد نساء من ملابسهن، خاصة في الأرياف والمناطق النائية، كوسيلة للانتقام أو الترويع. وغالبًا ما تواجه الضحايا صعوبات كبيرة في اللجوء إلى القضاء بسبب العار المجتمعي أو الخوف من الانتقام.

تاريخ عقوبة الإعدام في باكستان

تعد باكستان من الدول التي أبقت على نطاق واسع لعقوبة الإعدام في قوانينها، بما يشمل عشرات الجرائم من القتل العمد والإرهاب، إلى الزنا والخيانة العسكرية وحتى بعض الجرائم الاقتصادية.

في الفترة بين 2008 و2014، أوقفت السلطات تنفيذ الإعدامات عمليًا، استجابةً للضغوط الدولية، لكنها استأنفت تنفيذها بعد الهجوم الدموي الذي شنته طالبان على مدرسة في بيشاور نهاية 2014، والذي راح ضحيته أكثر من 140 شخصًا معظمهم أطفال.

اليوم، ومع استمرار الضغوط الأوروبية والدولية، تواجه باكستان معضلة بين التزاماتها بموجب «جي إس بي+» -الذي يشترط تقييد الإعدام للجرائم الأخطر- وبين الرأي العام المحلي الذي يرى في الإعدام وسيلة حاسمة لردع الجرائم التي تهز الضمير.

أصوات المنظمات الحقوقية: إصلاح أعمق بدلاً من القسوة

ترحب منظمات دولية مثل "العفو الدولية" بخطوة باكستان لتقييد عقوبة الإعدام، معتبرةً أن الردع الحقيقي لا يتحقق عبر تنفيذ الإعدامات، بل عبر إصلاح المنظومة القضائية وتسريع المحاكمات وضمان الشفافية وحماية الضحايا والشهود.

وترى "هيومن رايتس ووتش" أن العقوبات المشددة كثيرًا ما تُستخدم سياسيًا لطمأنة الرأي العام بعد وقوع جرائم صادمة، لكنها لا تعالج جذور المشكلة مثل ضعف إنفاذ القانون والثقافة المجتمعية التي قد تتسامح أحيانًا مع العنف ضد المرأة.

الخوف من العار والانتقام

بحسب تقارير محلية، غالبًا ما تفضل النساء اللواتي يتعرضن لهذا النوع من الاعتداءات الصمت، خشية العار الاجتماعي، وفقدان السمعة أو الانتقام من المعتدين وأسرهم، خاصة في المجتمعات القروية.

هذا الصمت يكرّس دائرة الإفلات من العقاب، إذ يبقى المعتدون خارج المساءلة، في حين تتحمل الضحية عبء الشعور بالخزي، وهو ما يدفع المنظمات النسوية في باكستان للمطالبة بتشريعات تكفل حماية الضحايا بشكل فعّال وسري.

العدالة في مواجهة الانتقام

في النقاش العام، يختلط أحيانًا مفهوم العدالة مع الانتقام، ويرى معارضو إلغاء الإعدام أن تنفيذ العقوبة القصوى يحقق العدالة للضحية ويشفي غليل المجتمع الذي يرى في هذه الجرائم إهانة جماعية، في حين يجادل آخرون أن الردع لا يقوم على شدة العقوبة بقدر ما يقوم على يقين العقوبة، أن يدرك الجاني أن القبض عليه ومحاكمته أمر شبه محتوم.

يشير وزير العدل إلى تجارب دول أوروبية ألغت الإعدام منذ عقود، ومع ذلك حققت معدلات جريمة منخفضة، ما يعزز قناعته بأن القوانين القاسية لا تكفي وحدها. لكن الواقع الباكستاني يختلف من نواحٍ كثيرة: من مستوى إنفاذ القانون، إلى سرعة المحاكمات، إلى القوة المجتمعية للأعراف القبلية والعشائرية.

ضغوط السياسة والتجارة

جزء أساسي من الدافع وراء مشروع القانون الجديد هو الالتزامات المرتبطة باتفاقية التجارة التفضيلية مع الاتحاد الأوروبي، والتي منحت باكستان مزايا تصدير كبيرة مقابل التزامات حقوقية من ضمنها حصر عقوبة الإعدام بالجرائم الأشد خطورة وفق المعايير الدولية.

وهنا يبرز التوتر بين التزامات الدولة الدولية وواقعها المحلي، فقبول التعديل ضروري للحفاظ على الامتيازات التجارية التي تدعم قطاعات اقتصادية مهمة تشغّل آلاف العمال، لكن ذلك لا يمنع المعارضة السياسية والشعبية من التعبير عن القلق من تراجع هيبة القانون.

إلى أين؟

مشروع القانون الآن في طريقه لمزيد من النقاش، وربما التعديلات، قبل أن يصبح نافذًا، لكن الجدل الذي أثاره يعكس معركة عميقة.. معركة بين عدالة مبنية على الانتقام والردع الفوري، وعدالة ترى الحل في إصلاح مؤسسات العدالة الجنائية، وتحويل الثقافة المجتمعية التي تسمح أحيانًا بتطبيع العنف ضد المرأة.

في النهاية، يبقى السؤال مفتوحًا.. هل يكفي تعديل العقوبات في النصوص القانونية إذا ظلت بيئة الخوف والصمت تحيط بالضحايا؟ أم إن المعركة الحقيقية تبدأ من تغيير ثقافة المجتمع وتطوير منظومة العدالة لتكون عادلة وشفافة وسريعة؟

باكستان تخطو خطوة محفوفة بالجدل، بين ضغوط العالم الخارجي وصوت ضميرها الداخلي المطالب بالقصاص لضحايا العنف الذي يجرّد النساء من إنسانيتهن قبل ملابسهن.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية