حين تتحول أنقاض الحرب إلى جدران للأمل.. سوريون يعيدون الحياة من تحت الركام

حين تتحول أنقاض الحرب إلى جدران للأمل.. سوريون يعيدون الحياة من تحت الركام
سوريون يفترشون فوق أنقاض منزلهم المدمر

رغم مرور أكثر من عام على سقوط نظام بشار الأسد، ما زال السوريون يعيشون بين آثار الدمار الهائل الذي خلّفته سنوات الحرب الطويلة، لكن وسط الخراب، تولد إرادة حياة جديدة؛ فالكثير من الأسر التي فقدت منازلها بدأت بإعادة البناء والإعمار بما توفر لها من أنقاض وركام البيوت المهدّمة، محاولةً لتحويل الألم إلى فعل صمود.

في شوارع دمشق الجنوبية ومخيم اليرموك والحجر الأسود، ترتفع أصوات المطارق وآلات الطحن من بين الحطام، وبحسب ما أوردته وكالة أنباء الأناضول الثلاثاء الرجال والنساء والأطفال يعملون معًا في إعادة تدوير الركام؛ يكسرونه، يفرزونه، ثم يحولونه إلى طوب ورمل لبناء منازل جديدة فوق بقايا البيوت القديمة، إنها ليست مجرد محاولة لترميم جدران، بل سعي لإحياء ذكريات ودفن وجع طويل تحت حجارة أُعيدت للحياة.

الحياة مع الذكريات

يقول عبد العزيز عمر، أحد سكان مخيم اليرموك، بصوت تختلط فيه الحسرة بالأمل: "انهار بيتنا بالكامل بعد قصف ميليشيات الأسد، واستشهد أبي وأمي وأربع من شقيقاتي تحت الأنقاض"، ينظر إلى فراغٍ كان يومًا يعج بالحياة ويضيف: "البيت الجديد بلا روح، فالناس رحلوا، والعائلة لم تعد هنا، لدينا جدران فقط، لكنها تذكّرنا من كنا".

يعمل عبد العزيز اليوم على إعادة بناء بيته مستخدمًا ما تبقى من أنقاضه، "نحوّل الركام إلى طوب عبر آلات بسيطة، لا نملك المال لشراء مواد البناء الأصلية، فأسعارها تضاعفت مرات، والطوب المصنوع من الأنقاض يقلل التكاليف إلى النصف، لكنه هشّ، وقد ينهار في أي لحظة، ومع ذلك نغامر.. لأننا لا نملك خيارًا آخر".

الدمار في سوريا لم يقتصر على الحجر فقط، بل امتد إلى أرواح الناس، يروي عبد العزيز: "كل قطعة أثاث كانت تحمل ذكرى من طفولتنا، والآن كل شيء تحت الركام، لكننا نبني من جديد لنقول إننا ما زلنا هنا".

في منطقة الحجر الأسود، المشهد لا يختلف كثيرًا، فبين الشوارع التي كانت ذات يوم تعج بالحياة، يقف موسى إدريس يحمل بين يديه طوبة هشّة صنعها من بقايا منزله القديم، يقول: "أستخدم الطوب المعاد تدويره لأني لا أملك المال، الطوبة الواحدة الجاهزة تكلف أكثر مما أستطيع، والحصول على تصريح بناء يحتاج مبالغ إضافية، لم يبقَ لنا سوى إعادة استخدام الركام".

ويتابع: "الطوب الذي نصنعه هشّ وقصير العمر، لكنه يمنحنا سقفًا نحتمي تحته، الإيجارات نار، والفقر أكل الأخضر واليابس، علينا أن نعيش مهما كانت الظروف".

إعادة استخدام رغم المخاطر

ورغم المخاطر الكبيرة لهذه الطريقة، يواصل السوريون استخدامها لأن "البديل غير موجود"، كما يقول عمر حسين الذي يعمل في طحن الأنقاض وتحويلها إلى مواد للبناء، "نحوّل بقايا البيوت المهدّمة إلى رمل وحصى، لا توجد مصانع ولا موارد، فكل ما نملكه هو ما خلّفته الحرب، نعيد استخدامه كي نعيش".

لكن هذا العمل يحمل مخاطر قاتلة، كما يوضح حسين: "نصادف أحيانًا بقايا ذخائر أو صواريخ لم تنفجر، قد تودي بحياتنا في أي لحظة. ومع ذلك، نستمر، لأن توقفنا يعني الجوع".

في مخيم اليرموك، حيث تختلط رائحة الغبار بذكريات النزوح، يتحدث الأهالي عن معنى البناء من جديد، يقول أحدهم: "نحن لا نعيد بناء بيوت فحسب، نحن نحاول استعادة أنفسنا، كل حجر نضعه هو محاولة لترميم أرواحنا قبل جدراننا".

جهود فردية بأدوات بسيطة

الجهود الفردية تتكرر في مختلف مناطق سوريا المدمرة، فبعد أكثر من 14 عامًا من الحرب (2011 – 2024) التي شنها نظام الأسد، لم يتبقّ من كثير من المدن سوى أطلال، مئات الآلاف من المنازل سويت بالأرض، وملايين العائلات فقدت مأواها، وبرغم الانهيار الاقتصادي وغياب الدعم، يحاول الناس بشتى الوسائل أن يعيدوا بناء حياتهم.

التقنيات المستخدمة بسيطة للغاية؛ آلات طحن قديمة صُممت في الأصل للصخور، تُستخدم اليوم لتفتيت بقايا الخرسانة وتحويلها إلى ركام صالح للبناء، في ورش صغيرة تفتقر لأبسط معايير الأمان، يعمل رجال ونساء بأيديهم العارية على فرز الحديد من بين الأنقاض، وإعادة تدوير الحجارة التي شهدت قصص موتهم ونجاتهم في آن واحد.

وفي ظل غياب رقابة هندسية أو دعم رسمي، يبقى هذا البناء محفوفًا بالخطر، كثير من المنازل التي شُيّدت من الطوب المعاد تدويره قابلة للانهيار في أي لحظة، لكن الحاجة تغلب الخوف، والفقر يدفع الناس إلى المضي قدمًا، علّهم يجدون في جدارٍ متصدّع بعض الأمان.

يقول أحد المهندسين المحليين إن "إعادة استخدام الأنقاض حلّ اضطراري، لكنه لا يمكن أن يكون دائمًا، فالبنية التحتية المتضررة تحتاج إلى خطط ترميم شاملة، وإعادة إعمار حقيقية تقوم على أسس علمية وإنسانية، لا على مبادرات فردية يائسة".

ورغم قسوة الظروف، يبقى الأمل حاضرًا، في أحد أزقة الحجر الأسود، يعلّق طفل لوحة رسمها على جدار جديد صنعه والده من الركام، في اللوحة بيت صغير تحيط به أشجار خضراء وشمس تبتسم، يقول الطفل وهو ينظر إلى رسمه: "هذا بيتنا الجديد.. بس لسه بدنا نلوّنه".

هكذا يحاول السوريون إعادة الإعمار وترميم ما تبقى من وطنهم، حجرًا بعد حجر، وذكرى بعد ذكرى، فالحرب سرقت منهم البيوت، لكنها لم تستطع سرقة إرادتهم في الحياة، بين الركام، يبنون جدرانًا للأمل، ويكتبون قصة بلدٍ يحاول أن يولد من جديد من تحت الرماد.

تجارب ناجحة في إعادة تدوير الركام 

شهدت عملية إعادة تدوير ركام المباني المدمرة العديد من التجارب الناجحة في عدة دول، حيث أكدت نتائجها ضرورة تحويل ركام الحرب في سوريا من عبء إلى فرصة اقتصادية.

وفي مقدمة التجارب الناجحة في هذا المجال، تأتي التجربة اليابانية، حيث تم استخدام نحو 96% من الركام الناتج عن تسونامي عام 2011 في بناء البنية التحتية، في حين تمكنت هولندا من تدوير 90% من مخلفات البناء بفضل القوانين الصارمة التي تمنع دفنها.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية