عندما تُوجَّه الضغوط إلى العدالة.. كيف تقوض العقوبات الأمريكية عمل المحكمة الجنائية؟
عندما تُوجَّه الضغوط إلى العدالة.. كيف تقوض العقوبات الأمريكية عمل المحكمة الجنائية؟
في مطلع عام 2025، وقّع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمراً تنفيذياً يفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية (ICC) والقضاة والمدعين العامين العاملين لديها، في سياق ردّ فعل على إصدار أوامر توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وهذه الخطوة من قبل واشنطن جعلت من العدالة الدولية هدفاً مباشراً لمناورات سياسية واقتصادية، ما يضع مصيرها ومصير آلاف الضحايا في مهبّ الريح.
في هذا التقرير تستعرض "جسور بوست" الأسباب والتداعيات الإنسانية القانونية والاجتماعية لهذه العقوبات، وننظر في ردود فعل المنظمات الحقوقية والمحافل الدولية.
أسباب العقوبات ولماذا الآن؟
أطلقت الولايات المتحدة سلسلة إجراءات عقابية تستهدف المحكمة الجنائية الدولية بدءاً من الأمر التنفيذي في 6 فبراير 2025 الذي أتاح تجميد أصول أفراد أو جهات تُعين بأنها تدعم تحقيقات استهدفت الأمريكيين أو حلفاء الولايات المتحدة وفق منظمة العفو الدولية، وأعقب ذلك فرض عقوبات على القاضي العام للمحكمة والعديد من القضاة اثنين من بينهما صدّقا أو أشرفا على أوامر توقيف بحق مسؤولين إسرائيليين.
وبحسب تحليل منشور، فإن هذه السياسة تشكّل اعتداءً على استقلال المحكمة والنظام القانوني الدولي إذ إنها تستهدف قدرة المحكمة على التحقيق والملاحقة من خلال شلّ البنية الإدارية والمالية لها.
من ناحية أخرى، تنظر واشنطن إلى توسّع اختصاص المحكمة ليشمل جنوداً أو مواطنين أمريكيين أو إسرائيليين كتهديد لمصالحها الوطنية أو حلفائها.
ما هي تبعات هذه العقوبات؟
تتمثل التبعات في عدة نقاط منها أولاً، وصول الضحايا إلى الحقيقة والمساءلة يصبح أكثر صعوبة؛ فنظراء المحكمة، من محققين وشهود ومتعاونين محليين، يواجهون مخاطر كبيرة في التفاعل مع الجهاز القضائي الدولي وهم مهددون بتجميد أصول أو حظر سفر أو مقاضاة ثانوية، وقد عبرت منظمة الحقوق القانونية عن قلقها بأن عقاب المحكمة كهيئة سيترك آلاف الضحايا في حالة جمود بدون أمل بالمساءلة.
ثانياً، عمليات التحقيق نفسها تتعرض للتأخير أو الشلل حين تفتقد المحكمة إلى الدعم اللوجستي والمالي أو تواجه عزوف الدول عن التعاون خوفاً من العقوبات، وقد أفادت وكالة رويترز بأن الإدارة الأمريكية تبحث عن فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بكامل هيئتها المؤسسية ما قد يؤثر على قدرتها في دفع الرواتب أو استخدام الحسابات المصرفية.
ثالثاً، من الناحية الرمزية يقول المحللون إن الرسالة المنبعثة من هذه العقوبات هي أن الدولة العظمى يمكنها أن تعرقل العدالة الدولية عندما تلمس مصالحها، ما قد يؤدي إلى مزيد من الإفلات من العقاب وتراجع الإيمان بمنظومة القانون الدولي.
ردود فعل الحقوقيين
ردّت المحكمة الجنائية الدولية ببيان وصفت فيه العقوبات الأمريكية بأنها هجوم صريح على استقلال هيئة قضائية دولية وأنها تستهدف ضحايا الحروب وجرائم الإنسانية، وليس فقط القضاة أو الموظفين.
أيضاً، دعت مجموعة من الخبراء الأمميين الولايات المتحدة إلى التراجع عن هذه الإجراءات، معتبرة أن الترهيب والعقاب موجهان إلى مبادئ القانون الدولي نفسها وفق المفوضية السامية لحقوق الإنسان.
كما أطلقت منظمات حقوق الإنسان مثل هيومن رايتس ووتش والعفو الدولية تحذيرات من أن هذه العقوبات تؤدي إلى حرمان مئات الآلاف من ضحايا الجرائم الدولية من ملف المساءلة، خصوصاً في أوضاع مثل أفغانستان أو فلسطين أو السودان.
المحكمة الجنائية الدولية
تأسست المحكمة الجنائية الدولية بموجب معاهدة روما الأساسية عام 1998 ودخلت حيز التنفيذ عام 2002، بهدف أن تكون محكمة الملاذ الأخير لضحايا أبشع الجرائم عندما تعجز أو ترفض الدول محاسبة مرتكبيها.
على مر العقود، واجهت تحديات جمّة منها غياب تعاون بعض الدول الكبرى، صعوبات تنفيذ أوامر الاعتقال، واتهامات بتحيّز جيوسياسي، ومع ذلك، إنها رغم قصورها حققت إنجازات، فقد شارك أكثر من 18 ألف ضحية في قضايا أمامها حتى أغسطس من العام الجاري 2025، كما أشار بيان المحكمة إلى أن صندوقا استئمانيا للضحايا وفر تعويضات ملموسة في أوغندا تصل إلى نحو 50 ألف ضحية.
لكنّ العقوبات الأمريكية الجديدة تشكّل نقطة تحوّل محتملة في مسار المساءلة الدولية، إذ إن محاولات التحجيم للمحكمة قد تُعيد السيناريو القديم من الإفلات من العقاب على نطاق أوسع.
لماذا هذا الأمر بات أولوية؟
إن العدالة الدولية ليست رفاهية قانونية بل ضرورة إنسانية: الجرائم التي تندرج تحت اختصاص المحكمة -الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب– تركت آثاراً دموية مروّعة على المجتمعات، وتعطّل الرقابة الدولية المتخصصة يعني أن الضحايا، غالباً من الفئات الهشة والمهمشة، قد يُحرمون من حقهم في الحقيقة والعدالة.
وأيضاً، إذ تنهار ثقة الضحايا والمجتمع المدني في قدرة المنظومة الدولية على مساءلة الجلّادين، فإن ذلك يعزز إفلات مرتكبي الجرائم من العقاب، ما يؤدي إلى تفاقم دورته وتكرارها.
سيكون التصدي للعقوبات أمراً حاسماً فالدول الأطراف في روما ستواجه اختباراً وجوبياً لموقفها من استقلال المحكمة، في الأثناء، يحتاج المدافعون عن العدالة الدولية إلى حشد أكبر للدعم السياسي والمالي وضمان أن تدابير الحماية للموظفين والشهود والمحققين تكون في أولوية العمل.
من جهة أخرى، يظهر أن مسار العقوبات الأمريكية لن يكون محدوداً بأفراد فقط، بل بات يُفكر فيه على مستوى عقوبات مؤسسية تشمل المحكمة ككل، ما قد يعصف بجدوى عملها بالكامل.
بفرضها عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، تقوم الولايات المتحدة بخطوة ليس فقط استهدافاً لمؤسسة قضائية دولية، بل بتوجيه ضربة إلى فكرة أنه لا أحد فوق القانون، ما يُحصل اليوم ليس مجرد صراع بل معركة مصيرية لفكرة العدالة الدولية نفسها.











