لدينا قدرات بشرية من كل الأعمار ومعارف وثروات تحتاج إلى نهج حضاري وسياسات تنموية فاعلة..

رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان لـ«جسور بوست»: غياب الديمقراطية وانتهاك الحريات ليسا قدر الشعوب العربية

رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان لـ«جسور بوست»: غياب الديمقراطية وانتهاك الحريات ليسا قدر الشعوب العربية
عبدالباسط بن حسن

عبد الباسط بن حسن: عدم تفكيك الاستبداد والفساد عرقل التحول الديمقراطي في المنطقة

الحروب والنزاعات سوف تترك آثاراً مدمرة على التنمية والأمن في المستقبل

نحتاج لعقد اجتماعي يقوم فيه صناع القرار بجمع الناس والانتقال لمثال حضاري جديد

لا يوجد اعتراف مستدام بالفضاء المدني على مستوى القرار السياسي في بلداننا العربية

 

أجرى الحوار: سلمان إسماعيل

تعيش المنطقة العربية على صفيح ساخن منذ انطلاق موجة ثورات الربيع العربي، التي رفعت شعارات تطالب بالعدالة الاجتماعية والعيش الكريم وتعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، جنبا إلى جنب مع الحقوق المدنية والسياسية، وإنهاء الديكتاتوريات والاستبداد والحيلولة دون مشاريع توريث الحكم في بعض الدول، وكذلك مواجهة جماعات المصالح المنتفعة من الأنظمة السابقة والتي أدت إلى أزمات اقتصادية واجتماعية كبيرة.

وعلى عكس توقعات الذين شاركوا في ثورات الربيع العربي، انعكس الحال إلى الأسوأ، ودخلت بعض دول الربيع موجات اقتتال داخلي دمر البنية التحتية وأدى إلى موجات كبيرة من الهجرة غير النظامية واللجوء، ما يهدد ليس فقط حقوق مواطني هذه البلدان في الوقت الحالي، لكن يقطع الطريق على تمتع الأجيال القادمة بالتنمية والحياة الكريمة والحقوق الأساسية.

ووسط الانتكاسات التي تعيشها عديد البلدان في المنطقة العربية، تشهد أوروبا تصاعدا مقلقا لأحزاب اليمين المتطرف العنصرية، والمعادية للهجرة واللاجئين، ولا تضع حقوق الإنسان كمثال أساسي في بناء علاقاتها مع دول العالم، فضلا عن تقارير دولية تتحدث عن ارتداد في الدفاع عن حقوق النساء وشرائح أخرى من مكونات المجتمع البشري في العالم.

رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان، عبدالباسط بن حسن، تحدث إلى «جسور بوست»، حول عملية التحول الديمقراطي المتعثرة في منطقتنا العربية، وتقلص الفضاء المدني الذي يتحرك فيه الناشطون ومنظمات المجتمع المدني، وأسباب تنامي خطاب الكراهية ضد طالبي اللجوء والمهاجرين، وسبل إنقاذ المجتمعات العربية من مستقبل مظلم تغيب عنه التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان.

لماذا تعثرت عملية التحول الديمقراطي في دول الربيع العربي؟

بعد موجة الثورات العربية وتلك الحركية الكبيرة التي وقعت في عدد من البلدان مطالبة بالديمقراطية والتداول السلمي للسلطة والكرامة وتحقيق عدد كبير من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وغيرها من الحقوق، دخلنا مرحلة من الشك والريبة في عدد كبير من البلدان العربية وذلك لأسباب متعددة؛ من بينها سوء إدارة هذه المراحل التي أعقبت هذه الحركات الشعبية الكبيرة، ومن الناحية السياسية لم تنجح النخب الحاكمة في بناء منظومة حكم تقوم على المشاركة والتداول السلمي للسلطة واحترام الإرادة الشعبية والتعامل السلمي بين مختلف الأطراف السياسية، ولم تنجح في تحقيق مطلب أساسي يساهم في تنقية الأجواء وهو العدالة الانتقالية، وكيفية التعامل النقدي مع الماضي وتفكيك أسس الاستبداد والفساد.

إذا كان هذا حال الحقوق المدنية والسياسية.. فماذا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟

كان هناك فشل في الاستجابة للمطالب الأساسية التي من أجلها تحركت الشعوب، وهي الحياة الكريمة، والعمل، والتعليم، والصحة، وغيرها من الحقوق الأساسية، فضلا عن مطالب المساواة والعدالة الاجتماعية.

والأمر لم يتوقف عند عدم تحقيق مطالب الناس، فقد شهدت المنطقة نزاعات داخلية وخارجية رهيبة، أدت إلى تفكيك الدول، وضرب استقرارها، وإلى مآسٍ كبرى جعلت عددا من البلدان العربية تعيش أزمات أمنية كبرى أدت للنزوح والهجرة واللجوء، ورأينا ضحايا من كل فئات المجتمع.

وهذا الفشل يعود إلى عوامل متعددة، جانب منها يعود إلى مسألة حوكمة وإدارة الشأن العام، وجانب آخر هو عدم اقتراح مثال جديد لتنمية إنسانية يمكن أن تقطع مع الماضي، وكل هذه العوامل زادت من حدة إشكاليتها ضعف الثقافة الديمقراطية والحقوقية في المجتمعات العربية.

هناك قول بأن الديمقراطية لا تناسب الشعوب العربية مع انتشار الأمية والتحيزات الطائفية.. ما رأيك؟

الحقيقة أن هذه الاعتبارات خطيرة جدا، لأنها تحتوي -إضافة إلى جانبها المخادع والتبسيطي- على شحنة داخلية فيها ازدراء للذات، واحتقار لمجتمعاتنا، فلا يوجد في الكون شعوب ديمقراطية على الفطرة أو مستبدة على الفطرة، وهذه قضايا معقدة تقوم على عديد الاعتبارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وإذا اعتبرنا أن شعوبنا وبلداننا لا تستحق الديمقراطية والحريات والتنمية وغيرها من المبادئ، فإننا بذلك ننزع عن أنفسنا صفة بشرية هامة، وهي أن لكل الشعوب القدرة على أن يكون لها قيم ومبادئ وأخلاق سياسية.

وعلى مدى العقود الماضية في بلداننا، حتى في فترات الاستعمار، كانت مجتمعاتنا تطالب بالدساتير والبرلمانات المنتخبة والحقوق السياسية والمدنية، وإلى اليوم تتواصل هذه المطالبات.

هناك إنكار لأحقيتنا في التمتع بالديمقراطية وحقوق الإنسان، وهي مبررات لمواصلة الاستبداد، لكن بلداننا يمكن أن تتمتع بالديمقراطية وحقوق الإنسان إذا أصبحت لنا سياسات تدمج قضايا الحريات والديمقراطية داخلها، وإذا عممنا ثقافة حقوق الإنسان وربينا عليها الأجيال. فغياب الديمقراطية وانتهاك الحريات ليسا قدرنا.

وهل التعليم الجيد شرط للتمتع بحقوق الإنسان العالمية؟

التعليم هو المصعد الاجتماعي، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هو ضمانة حقيقية لبناء الوعي بالمبادئ والقيم، ويدخلنا إلى عالم المساواة والعدالة واحترام التنوع والتعدد والاختلاف، ويعطينا قدرة على فهم أوسع، أن نسعى للعيش مع الآخرين في عقد اجتماعي يقوم على المدنية والتعايش السلمي بدلا عن العنف.

وعندما تخلينا عن عدد من أوجه هذا التعليم الجيد، أصبحت منطقتنا تعيش أزمات عديدة في إنتاج المعرفة والتشغيل، وضعفا للفكر النقدي، ومشاكل على مستوى العنف وقبول الآخر، والنهوض بالتعليم باب أساسي من أبواب أنسنة مجتمعاتنا.

وهناك حاجة إلى الاستثمار في إصلاح التعليم الرسمي الابتدائي وحتى الجامعي، ونحتاج أيضا إلى الاستثمار في التعلم مدى الحياة، وهناك ضرورة للاستثمار في التدريب المهني ومحو الأمية وتعليم الكبار.

تعاني عديد من دول منطقتنا حروباً ونزاعات مسلحة.. كيف تؤثر هذه البيئة على تمتع الأجيال القادمة بحقوق الإنسان؟

منطقتنا تعيش وضعا استثنائيا، فأكثر الحروب والنزاعات تنتج عنها مآسٍ عديدة من تهجير ونزوح وتقتيل للمدنيين وتدمير للبنية التحتية، ما يقع في فلسطين من إبادة والحرب المتوحشة في السودان، وما تعيشه بلدان مثل سوريا وليبيا والعراق واليمن من آثار النزاعات والحروب، لها انعكاسات في الحاضر على مجتمعاتنا، لأنها تحد من الأمن وإمكانيات التنمية والتطور والتقدم، وسيكون لها كذلك تأثير على المستقبل، وسوف تترك آثارا مدمرة على المستويات التنموية والمجتمعية والأمنية.

وضع حد اليوم لهذه النزاعات بسرعة هو الشيء الوحيد الذي يمكن أن يوقف هذا النزيف الكبير، ثم يفسح المجال إلى نيات صادقة تعمل على إعادة إعمار بلداننا.

وكيف يمكن تحويل بوصلة هذه الدول نحو التعليم والديمقراطية والتنمية؟

هناك مستويين من التطلعات، البلدان التي تعيش على آثار النزاعات والحروب لا مخرج لها سوى تحمل الدول في إطار الأمم المتحدة لإيقاف الحروب، ولو أخذنا مثال السودان، فمنظمات الإغاثة أو كشف الانتهاكات والفظائع تعمل، لكن الحل هو دولي إقليمي بأن تتحمل الدول جميعها مسؤوليتها لإيقاف هذه النزاعات والذهاب نحو إعادة الإعمار، والمجموعة الدولية مطالبة أيضا بوقف جريمة الإبادة في غزة.

وبالنسبة للدول التي لا تعيش حروبا، فإن المسؤولية تقع على الحكومات بأن تختار نهجا حضاريا وسياسات تنموية تستجيب لتطلعات الشعوب، وتكريس مشاركة المواطنين في الشأن العام، وبناء منظومات قادرة أن تقطع مع السياسات التي أبرز التاريخ أنها لم تعد تصلح لزماننا.

ولدينا قدرات بشرية من كل الأعمار، ومعارف وثروات وتطلعات كبيرة، ونحتاج إلى عقد اجتماعي يقوم فيه صناع القرار بجمع القوى الحية في المجتمع من أجل الانتقال إلى مثال حضاري جديد.

وكيف ترى الفضاء المدني الذي يتحرك فيه النشطاء والمعارضون في منطقتنا العربية؟

هناك خشية على الفضاء المدني والمجتمع المدني رغم كل التطورات التي شهدتها العقود الماضية بنوع من الهوامش التي سمحت بممارسة نسبية للحق في التعبير والتجمع والتنظيم، ورغم ظهور عدد هام من منظمات المجتمع المدني العاملة في التنمية، نلاحظ أنه لا يوجد اعتراف نهائي بالفضاء المدني على مستوى القرار السياسي، وأعني اعترافا مستداما، وكذلك غياب التشريعات والموارد التي تسمح لهذا الفضاء المدني بأن ينمو بكل حرية وباستقلالية، ونلاحظ تضييقا على مجموعة من الحريات، وتجريما لهذا العمل المدني، ونقصا في الإطار القانوني الذي يمكن أن يسمح بتطور هذا الفضاء. 

وما خطورة تنامي خطاب الكراهية ضد طالبي اللجوء والمهاجرين في عدد من البلدان العربية خصوصاً مع موجة اللجوء السوداني؟

تنامي خطاب العنصرية والكراهية في كل الحالات لا يخدم استقرار أي مجتمع، ولا يخدم التمثيل الإنساني للمجتمع، ولا يخدم التنمية، وهناك تنامٍ كبير لظاهرة الهجرة واللجوء لعدة اعتبارات، أو تدفقات كبيرة للاجئين والمهاجرين نظرا لظروف عالمية تتمثل في الحروب والنزاعات والتغيرات المناخية والفقر والتصحر، وغيرها من القضايا، وهي ظاهرة قديمة تشهد تطورات ملفتة بسبب الأزمات التي تؤدي إلى الهجرة والنزوح.

وكيف تنظر إلى حالات الترحيل الجماعي للمهاجرين إلى بلدانهم الأصلية أو إلى بلدان أخرى؟

حسب رأيي، يمكن مواجهة مسألة موجات اللجوء والهجرة بخطة وطنية داخلية، ثم تعاون إقليمي، وكل دولة تبلور قوانينها الداخلية حسب الاتفاقيات الدولية في هذا المجال، وتجمع السياسات بين البعد الأمني والاقتصادي والثقافي والمقاربة الحقوقية، وهي مقاربة شاملة ستؤدي للربط بين المعالجة الأمنية والإنسانية، ويمكن أن تبعدنا عن الارتباك والتردد وغياب السياسات التي تؤدي لتنامي مظاهر الخوف من الآخر وعدم فهم الظاهرة، وردود الفعل العنصرية التي تسيء إلينا، وتؤدي لزيادة تعميق هذه المشكلات.

في تقرير حديث لمفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان حذرت من الارتداد عن حقوق المرأة حول العالم.. كيف ترى الأمر؟

الحقيقة أن هناك مظاهر مفزعة ومقلقة في عديد أنحاء العالم، ومن بينها بلداننا العربية، وهو التراجع عن العمل على حقوق المرأة، وهناك ظاهرة العنف الذي يصل حد تقتيل النساء، وهي ظاهرة تستشري بقوة، وتثير قلقا كونيا، ولها أسباب عديدة؛ من بينها وجود أزمات يمر بها عالمنا ومجتمعاتنا، والدفاع عن حقوق النساء وحمايتهن من العنف، والتراجعات الكبيرة للحفاظ على إنسانية مجتمعاتنا وحماية النساء وهو استثمار في المستقبل.

والتراجعات في عديد المجالات الأخرى مثل حرية الرأي والتعبير والتضييق على الحريات أكثر من ذي قبل، فضلا عن تضييق الفضاء المدني.

وكيف يؤثر صعود أحزاب اليمين المتطرف على اهتمام أوروبا بحقوق الإنسان؟

صعود اليمين المتطرف وكذلك الخطاب الشعبوي بتنويعاته المختلفة يطرح أسئلة كبرى على كل مظاهر حياتنا، والعلاقات الجيوستراتيجية، وكل ما يمكن أن يؤسس لعلاقات شمال-جنوب، وكذلك التعاون متعدد الأطراف، أو الثنائي، وهناك عديد القضايا التي ستتأثر بهذا الصعود.

ومن بين هذه التأثيرات موضوع مهم مثل قضية الهجرة واللجوء، ونحن مجتمعات لدينا عدد كبير من بناتنا وأبنائنا يعيشون في بلدان الشمال، وهناك تخوفات من صعود الخطاب العنصري وخطاب الكراهية والإقصاء وتحوله إلى سياسات، وكذلك قضية التعاون من أجل التنمية، والتضييق على الحريات، هذه مخاوف جدية في عديد المستويات، وعالمنا يدخل تدريجيا في أسئلة كبرى حول مستقبله، والتطرف في جميع أشكاله لا يمكن أن يمثل حلا لأي بلد من البلدان، وهناك تجارب تاريخية أن التطرف يؤدي إلى النزعة العدائية والهيمنة والحرب.


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية