أمان مفقود ورعاية غائبة.. سكان طرابلس القديمة «أموات على قيد الحياة» في لبنان

أمان مفقود ورعاية غائبة.. سكان طرابلس القديمة «أموات على قيد الحياة» في لبنان

لبنان- بلال نور الدين

بينما يتمركز أثرى أثرياء لبنان في مدينة طرابلس شمال لبنان، يعيش الكثير من سكانها في أسوأ الظروف، فالمدينة التي يبلغ عدد سكانها 850 ألف نسمة تعد الأفقر على البحر المتوسط ولا تلقى الاهتمام اللازم من قبل الدولة اللبنانية منذ سنوات طويلة، وقد تفاقم الحال بعد الأزمة الاقتصادية التي يعيشها لبنان منذ عام 2019. 

ولعل أبرز أشكال الإهمال الذي يعيشه الفقراء، تتمثل في عيش الكثيرين من أبناء المدينة في أبنية متهالكة ومهددة بالسقوط، بل حتى في بيوت من صفيح وبين القبور في المقابر، حيث يقعون تحت تهديد سقوط تلك الأبنية على رؤوسهم في أي لحظة وهو ما يجعلهم "أموات على قيد الحياة".

أحزمة بؤس وفقر

من بين مناطق الفقر والبؤس تلك هي ثلاث مناطق: ضهر المغر، حي التنك، والغرباء. 

وفي هذا الإطار، تشير الصحفية والباحثة جودي الأسمر إلى أن طرابلس تعتبر مدينة التناقضات، إذ لا يوجد فيها الفقر فقط، بل "فيها قطبان. فالمدينة مقسمة بين طرابلس الشرقية وطرابلس الغربية.. طرابلس الشرقية، أو ما يعرف بطرابلس القديمة، هي الأكثر فقراً... حيث إن الفقر فيها صارخ ومأساوي، في حين أن طرابلس الغربية تعتبر طرابلس الجديدة، وهي التي تؤوي من يملكون الأموال".

وعن واقع تلك المناطق المتعبة، تقول الأسمر: "منطقتا الغرباء وضهر المغر هما من أفقر المناطق في طرابلس". 

وتتابع موضحة أنه “في الغرباء، التي يحيط بها الكثير من ورش النجارة والأثاث، يعيش الناس في أكشاك داخل القبور، ومن بينهم الكثير من السوريين وبعض العائلات اللبنانية وحتى مكتومو القيد والفقراء والشحاذون”.

وتضيف أن "الاكتظاظ السكاني والتمدد جعل الكثير من الناس يأتون من القرى لكي يعيشوا في هذه المناطق"، مشيرة إلى أن "قلما يوجد شخص طرابلسي الأصل يعيش هناك".

وبينما أظهر تقرير نشره البنك الدولي في مارس 2024 أن معدل الفقر في لبنان ارتفع من 12% إلى 44%، فإن تقارير إعلامية نشرت عام 2022 أشارت إلى أن 30% من سكان طرابلس يعانون من فقر مدقع، و67% عند خط الفقر، فيما 66% من اليد العاملة في المدينة تجني أقل من دولار واحد في اليوم. 

علماً أن تقارير صحفية -نُشرت عام 2024- ذكرت أن ما لا يقل عن 80% من رجال وشباب طرابلس الذين يقطنون الأحياء الفقيرة يعانون من البطالة الكاملة أو البطالة المقنعة.

عمال أطفال وتسرب من التعليم

وأشارت تقارير صحفية عام 2022 إلى أن نسبة عمالة الأطفال الطرابلسيين ما بين سن 5 و17 سنة تقدر بـ 31.8%، بينما سجلت نسبة التسرب الدراسي لنفس الفئة العمرية نحو 23.2%.

أما "ضهر المغر"، التي تقع على إحدى التلال ويقال إنها سميت كذلك بسبب وجود مغارة تحتها، فتشير الأسمر إلى أنه “عام 1955، وقع أكثر من طوفان في نهر ”أبو علي" المحاذي للمنطقة، ما أدى إلى وفاة الكثير من الأشخاص وجعل الناس تطالب بحل". 

وتوضح الأسمر -في تصريحات لـ"جسور بوست"- أنه "تمت توسعة مجرى نهر أبو علي، ما أدى إلى جفاف التربة، وبالتالي أصبحت الأبنية القائمة على ضفاف النهر معرضة للانهيار بسبب انزياحها".

وتتابع الأسمر شارحة واقع الأبنية في "ضهر المغر" قائلة: "البيوت هناك تراثية، يزيد عمرها على 100 سنة، ولا تخضع للصيانة، وإذا قرر أحد الأشخاص الانتقال من هذه المنطقة إلى مكان آخر، فإن بلدية طرابلس تحتج بأن ميزانيتها محدودة، ولا تعوّض الناس، كما أنه حتى الآن لا يوجد مسح علمي دقيق لهذه الأبنية".

وعن الوضع الاجتماعي في المنطقة، تشير الأسمر إلى "الكثير من السرقات والمخدرات"، وتذكر أنه في الفترات التي شهدت اشتباكات بين جبل محسن والتبانة في طرابلس، ظهر ما يعرف بقادة المحاور، الذين كانوا يوزعون المخدرات على شباب المنطقة.

ظروف بائسة

ويعيش في "ضهر المغر" ما لا يقل عن 50 ألف شخص في ظروف بائسة، ورغم ذلك تلاحظ أن الشوارع هناك نظيفة نسبياً بفضل الحرص على رمي النفايات في مناطق محددة.

أما "حي التنك"، فتشير الأسمر إلى أنها منطقة يسكن فيها نحو 1300 عائلة تعاني من ظروف سيئة، خاصة في فصل الشتاء، حيث تسقط أسقف التنك بسبب الرياح الشديدة وتتسرب المياه إلى داخل الغرف.

الخطط وإلا الكارثة

في محاولة لفهم مدى حجم الأزمة في طرابلس، قال عضو مجلس بلدية طرابلس ورئيس لجنة الآثار والتراث، المهندس الدكتور الجامعي خالد تدمري، إن "طرابلس تحيطها أحزمة من البؤس، ما جعل توسع المدينة محدوداً ضمن هذه الأحزمة التي تشوه مداخلها وتزيد الكثافة السكانية".

وأشار تدمري في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن "حي التنك هو أكثر أماناً في حال حدوث كارثة طبيعية، كون أن غالبية المساكن فيه مؤلفة من طابق أو طابقين، وهي مساكن خفيفة الوزن". 

وأضاف أن "الغرباء سميت بهذا الاسم لوجود مقابر تابعة للطائفة اليهودية وبعض الغرباء عن المدينة، ومع التوسع العمراني اتجه البناء نحو تلك المقابر".

ويؤكد تدمري أن "وضع المباني في ضهر المغر ليس أسوأ من مناطق أخرى، ولكن في حال وقوع كارثة طبيعية، فإن الأبنية المبنية على تربة ضحلة معرضة للانهيار".

وتابع تدمري أن هناك "تقريراً أعدته منظمة المدن العربية وبرنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية حول الوضع الاجتماعي والاكتظاظ السكاني في طرابلس ومشكلات المدينة.. جاءت الأرقام كارثية، إلا أن الدولة اللبنانية لم تحرك ساكناً باستثناء بعض القرارات الآنية لإحصاء الأبنية وإجراء دراسات".

وأضاف أن هناك حاجة لإنشاء هيئة إدارة الكوارث لأن لبنان يفتقد الخطط والإمكانات اللازمة لتدارك مثل هذه الأزمات.

البلدية تفعل ما عليها

يوضح رئيس بلدية طرابلس، رياض يمق، أن "طرابلس مدينة مهمة على البحر المتوسط، لكنها تأثرت بشدة بالحرب الأهلية والمعارك بين جبل محسن والتبانة، ما أثر سلباً على الإنماء فيها".

وأشار يمق -في تصريحات لـ"جسور بوست"- إلى أن "البلدية عندما تتلقى خبراً عن بناء مهدد تقوم بإزالة الخطر فوراً، ولكن الكم الهائل من المنازل يجعل البلدية غير قادرة على ترميم جميع الأبنية".

وأفاد يمق بأن هناك قراراً في المجلس البلدي بترميم الأبنية المهددة على حساب صاحب الملك، لكن هذا القرار صعب التنفيذ لعدم تعاون أصحاب المباني، مشيراً إلى أن البلدية تواجه نقصاً في الموارد المالية بسبب ارتفاع سعر الدولار وتراجع الإيرادات.

حقوق مفقودة وتفاوت اجتماعي

يؤكد المحامي والناشط الحقوقي نهاد سلمى، أن القانون اللبناني يضمن حقوق السكن اللائق ولكنه غير مفعّل بسبب الأزمات الاقتصادية. 

وأوضح أن سكان العشوائيات يحصلون على حقوق أقل من تلك التي يحصل عليها السكان في المناطق المنظمة، مشيراً إلى وجود تفاوت اجتماعي كبير بين تلك المناطق.

وأشار سلمى -في تصريحات لـ"جسور بوست"- إلى أن الحل يكمن في إنشاء مجمعات سكنية منظمة لسكان العشوائيات وتعديل قانون الإيجارات لمواجهة ارتفاع تكاليف السكن.

في الختام، ترى "منظمة العفو الدولية" أن الحكومة اللبنانية تخذل سكان المباني الآيلة للسقوط في طرابلس، مشيرة إلى أن الأزمة الاقتصادية أدت إلى تفاقم أوضاع المباني بسبب عدم قدرة السكان على إجراء الإصلاحات.

أزمة اقتصادية وسياسية

يشهد لبنان تفاقماً كبيراً في الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية إلى جانب أزمته السياسية القائمة في لبنان، بعد الانفجار المزدوج الذي وقع في مرفأ بيروت في 4 أغسطس 2020، الناجم عن تفجير مئات الأطنان من المواد شديدة الانفجار المخزنة في المرفأ، والذي أدى إلى مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة أكثر من 6000 بجروح جسدية وآخرين بضائقة نفسية وتشريد، كما تضررت منازل أكثر من 300 ألف شخص.

ويرى الخبراء أن لبنان تحول من بلد متوسط الدخل إلى منخفض الدخل لعدة أسباب، منها السياسة المالية والنقدية المتبعة منذ التسعينيات التي أثبتت أنها كارثية، بجانب سعر الصرف الثابت والفوائد المرتفعة والعجز المالي رغم تنبيهات صندوق النقد الدولي ويتزامن ذلك مع أزمة سيولة حادة وقيود مصرفية مشددة، لم يعد بإمكان المودعين معها الوصول إلى مدّخراتهم العالقة.

ولبنان الذي يعاني من فراغ في سدّة رئاسة الجمهورية يشهد منذ 2019 انهياراً اقتصادياً صنّفه البنك الدولي من بين الأسوأ في العالم منذ عام 1850.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية