بعد 75 عاماً.. اتفاقية جنيف: هل انتهت للأبد؟

بعد 75 عاماً.. اتفاقية جنيف: هل انتهت للأبد؟

نعيش هذه الأيام الذكرى الخامسة والسبعين لاعتماد اتفاقية جنيف التي تمت في 12 أغسطس عام 1949، ومن الناحية النظرية، فإن كل الدول تتفق على الاتفاقية وقواعدها على مستوى العالم. أما من الناحية العملية، فإنه يتم بشكل متواصل انتهاك هذه الاتفاقية بشكل روتيني، بل وفي كل مكان.

يوجد إلى اليوم ما يقدر بـ120 صراعًا مسلحًا في جميع أنحاء العالم، إلى جانب أكثر من 450 جماعة مسلحة يعيش تحت وطأتها حوالي 195 مليون إنسان في المناطق التي تسيطر عليها تلك الجماعات. إن حماية الضعفاء تمثل أهمية كبيرة اليوم أكثر من أي وقت سابق.

وتذكرنا عناوين الأخبار بشكل يومي بالكثير من المآسي نتيجة الحروب والصراعات التي يروح ضحيتها الإنسان الضعيف، فأين تطبيق القانون الإنساني الدولي؟ قد يبدو تطبيقه أقل مما ينبغي بكثير، بل إن تطبيقه لا زال متأخرًا للغاية لصد المواجهات العسكرية و«اللامبالاة السياسية».

كما يمثل هذا العام مناسبة سنوية أخرى، لكنها لا تمثل أي تفاؤل، أولها مرور عشر سنوات على القتل الجماعي الذي ارتكبه تنظيم داعش في سوريا، وعشر سنوات من المناوشات في أوكرانيا التي وصلت إلى الحرب، كما لا تزال المناوشات والتوترات الجيوسياسية قائمة في الشرق الأوسط وبحر الصين الجنوبي.

وفي ضوء كل ذلك، وإلى جانب وسائل الحرب الجديدة المتمثلة في الفضاء الإلكتروني، وتواصل انتهاكات أبسط أشكال حماية الإنسان، هل هناك الكثير من المآسي لنحتفل بها تزامنًا مع احتفالنا بالذكرى الـ75 لاتفاقية جنيف؟ الاتفاقية التي أتساءل: هل ما زالت صالحة للاستخدام في الحروب التي نشهدها اليوم، وهل ستصلح لحروب الغد؟

لدى كل المجتمعات في العالم قواعد ثقافية أو دينية أو قوانين تتصل أخلاقيًا بمسائل الحروب، وهي قواعد خاصة. وبعد الأهوال التي شهدها العالم والمآسي التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، جاء العالم ليتفق على مجموعة من القواعد المفصلة والمكتوبة لتكون قواعد عابرة للحدود وتشترك فيها عدد من الدول لتحكم مسألة الصراعات المسلحة.

وقد وافقت الكثير من الدول على تلك القواعد، وهي قواعد اتفاقية جنيف، وجاء الاتفاق رغم وجود اختلافات في وجهات النظر السياسية وتجارب الحرب في بعض الدول. ويرجع هذا الاتفاق إلى أن الاتفاقية تُوجد نوعًا من التوازن بين الاحتياجات العسكرية، وكذلك القيم الإنسانية، وأخلاقيات التعامل مع المدنيين والجنود والأسرى وجثامين القتلى.

لذلك، فمن الناحية النظرية، فإن اتفاقية جنيف، التي تكمل اليوم 75 عامًا، ما زالت تُشكل جوهر القانون الإنساني الدولي وقوانين النزاعات المسلحة. وخلال الأعوام الماضية زادت بنود الاتفاقية وتوسع نطاقها من خلال معاهدات جديدة وبروتوكولات وبنود ضمت الحروب الأهلية والأسلحة الكيميائية والألغام المخفية بالأرض، وكذلك مسألة التعذيب والاختفاء القسري. كل ذلك يهدف إلى الحد من فضائع الحروب التي ترتكبها بعض الدول أو بعض المنظمات أو الجماعات المسلحة. كما أن اتفاقية جنيف تحاول ضمان المنفعة المشتركة بين الأطراف المتحاربة. فهناك أشبه بقاعدة بين الأطراف المتقاتلة تقول: «عامل جنودنا بشكل جيد عندما تقوم بأسرهم، ونحن سنقوم بالشيء نفسه». إلى جانب ذلك، فإن الاتفاقية تطلب من الأطراف أن يتعاملوا بشكل إنساني مع الأشخاص المحاصرين في الحروب، حتى إن انتهك أحد الأطراف هذه القواعد تبقى مسألة الحماية هي الأولوية.

وتتضمن اتفاقيات جنيف أكثر من 400 مادة حول الحرب، وتحدد قواعد مفصلة بشأن معاملة الأسرى والمدنيين، وحماية المستشفيات والموظفين الطبيين، والسماح بالمساعدات الإنسانية لتصل إلى ضحايا الحروب، وحظر التعذيب والاغتصاب والعنف الجنسي.

وفي الواقع، تم اعتماد أربع اتفاقيات في عام 1949، وبنيت أحكام الثلاثة الأولى على القوانين القائمة التي تحمي الجنود الجرحى في ساحة المعركة وفي البحر وعند احتجازهم كأسرى. وسعت الاتفاقية الرابعة الرئيسية إلى حماية المدنيين الذين يعيشون تحت سلطة العدو، مثل الأراضي المحتلة، وقدمت مادة واحدة قواعد أساسية بشأن المعاملة الإنسانية للناس خلال حرب أهلية، وهي المرة الأولى التي تجرأ فيها القانون الدولي على تنظيم العنف الذي يحدث داخل بلد ما بدلا من الحروب المعتادة بين دولتين أو أكثر.

في ستينيات القرن التاسع عشر، أثار البعض الكثير من الجدل حول القانون الإنساني الدولي، مشيرين إلى أن هذا القانون ارتكب خطأ فادحًا. فعندما تم اعتماد اتفاقية جنيف الأولى، كانت الفكرة الأبرز هي قبول «الحروب» بدلًا من الإصرار على إحلال السلام.

ومن بين من أثار الجدل الباحث «صموئيل موين» الذي أشار إلى أن الاتفاقية أجبرتهم على الاختيار بين فكرة معارضة الحرب نهائيًا، وفكرة معارضة الجرائم التي تحدث أثناء الحروب.

ومما أثار الجدل أن القانون يضع حدًا أدنى من الضرر الذي قد يمس المدنيين، باعتبار هذا الحد «ضررًا جانبيًا» لا بد من حدوثه أثناء الهجمات على الأهداف العسكرية. وبشكل آخر، تقول الاتفاقية ليس كل القتلى المدنيين أثناء الحروب يُقتلون جراء جرائم حرب.

كما يبدو واضحًا أن بنود الاتفاقية ما زالت قديمة، إذ تذكر الاتفاقية من ضمن الحاجات الأساسية التي يجب توفيرها للأسرى أثناء الحرب هي التبغ إلى جانب الطعام والماء، وذلك مثال واحد.

ومن خلال تجربتي الشخصية، إذ عملت مع اللجنة الدولية للصليب الأحمر، لمست أثر القانون الدولي أثناء العمل. فإذا ما تم تطبيقه واحترامه فعلا، فإنه قادر على إنقاذ الأرواح وتحسين مستوى الحياة للناس.

لا تزال الأطراف المتحاربة في كل مكان تسمح لمنظمة الصليب الأحمر بزيارة الآلاف من المعتقلين والتفاوض بشأن تحسين معاملتهم، ويتفق المقاتلون على تبادل الأسرى وإطلاق سراح الرهائن وإعادة الجثث وتقديم الرعاية الطبية للجنود الأعداء الجرحى، وأحيانًا تحقق الدول في مزاعم جرائم الحرب، وتتيح الاتفاقيات للأطراف المتحاربة إمكانية عقد اتفاقيات أخرى للحصول على حماية أكبر.

وعلى الرغم من أن اتفاقيات جنيف والقانون الإنساني الدولي بشكل عام بعيد كل البعد عن الكمال، إلا أن هذه القواعد تسعى إلى وضع حد أدنى من أسوأ ما تقدمه الإنسانية، من خلال الإصرار على بعض الكرامة الإنسانية الأساسية.

ولضمان عدم خرقها على الأقل بشكل نشط، وبشكل مثالي توسيع نطاق حمايتها، فيجب على الدول القيام بثلاثة أمور رئيسية، أولها التركيز على المسؤولية الجماعية والامتثال للقانون بأنفسهم وضمان احترام الآخرين له، وثاني تلك الأمور التوقف عن استخدام الحجج القانونية التقنية لتبرير الدمار واسع النطاق بطرق تتجاهل الهدف الإنساني الأساسي للقواعد، وأخيرا مقاومة أي ادعاء من قبل دولة قومية بأن التهديدات الاستثنائية للأمن القومي، بما في ذلك الإرهاب أو التمرد أو التقنيات الجديدة، تبرر التخلي عن القواعد.

إنه في أشد المواقف خطورة، عندما تفشل السياسة والقوانين الأخرى في منع الحرب، تبرز الحاجة إلى هذه القواعد، وسيؤدي احترامها بشكل أكبر إلى إنقاذ العديد من الأرواح ومنع الفظائع التي نراها في حروب اليوم.


نقلاً عن آسيا تايمز


 


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية