«نما خلال عقود».. كيف أسهم خطاب الكراهية في اتساع رقعة الصراع السوداني؟

«نما خلال عقود».. كيف أسهم خطاب الكراهية في اتساع رقعة الصراع السوداني؟

ناشط مجتمعي: الأنظمة المتعاقبة تعمدت نثر بذور الكراهية لتقسيم السودانيين

أستاذ إعلام: خطاب التمييز العرقي ينمي الشعور بالعزلة والتهميش لدى المواطنين

ناشطة حقوقية: النظام البائد تعمّد صناعة المُكر وعاد إلى الواجهة ليؤجج الفتنة بين القبائل 

متحدث: النازحون يُعاملون على الدوام كما لو أنهم ليسوا بشراً

كاتب صحفي: خطاب الكراهية يغذي الاستقطاب الاجتماعي على أساس الانتماء العرقي أو القبلي

سكرتير نقابة الصحفيين: هناك غرف منظمة تلعب دوراً في تأجيج الكراهية

باحث أكاديمي: بعض وسائل الإعلام تسهم في نشر الكراهية بالتغطية المتحيزة أو تضخيم الأحداث

 

السودان– الفاتح وديدي

لم تمضِ ليالٍ معدودة على انتفاضة السودانيين ضد نظام البشير في عام 2019، حتى أزكمت أنوفهم مجدداً روائح الفتن القبلية والعنصرية التي عمّت فضاءهم السياسي والاجتماعي، بعدما ظنوا أنّ الصفاء عاد لسمائهم بنهاية حقبة الإخوان في السودان.

وفي غضون أسابيع، عقب الاعتصام المشهود للثوار السودانيين على أسوار القيادة العامة للجيش، كانت أطراف البلاد القصيّة تروي فصولاً من سيرة الصراعات العشائرية.

كانت البداية من إقليم دارفور، في غرب البلاد، حين نشب شجار بمدينة الجنينة بين شباب من قبيلة المساليت ونظرائهم من أبناء القبائل العربية في أحد أندية المشاهدة؛ وهي “مقاهٍ” محليّة مخصصة لمتابعة مباريات كرة القدم العالمية، وإثر المشادة لقي ثلاثة من منسوبي القبائل العربية حتفهم.

صبيحة اليوم التالي، وتحت وقع الطبول، كانت هناك تجريدة مضادة للثأر أودت بحياة عشرات القتلى وشرّدت المئات من معسكر (كريندينق) للاجئين.

بعيداً عن الغرب، وفي ذات التوقيت على وجه التقريب كان شرق البلاد يشهد هو الآخر اشتباكات مماثلة بين قبيلتي (الهدندوة) و(البني عامر)، في ولايات البحر الأحمر وكسلا، كما جرت أعمال حرق ونهب طائفية واسعة النطاق في بورتسودان، ضمن نزاعات قبيلتي (النوبة) و(البني عامر) وهي مواجهات متكررة تَكَبَّدَ جراءها الإقليم مئات القتلى والجرحى خلال السنوات القليلة الماضية.

تلاعب السياسيين

تلقي العديد من الفعاليات الثورية باللائمة على نظام الإخوان في السودان لكونه قد فاقم البعد القبلي للصراع في إقليم دارفور، وأوقد ضرام حربها القائمة منذ عام 2003، عندما استقوى بالقبائل العربية، وسلّحها، بغاية القضاء على المتمردين المناوئين لحكم البشير، والمنحدرين من إثنيات (الفور) و(الزغاوة) و(المساليت) الإفريقية.

ومن وجهة نظر الناشط المجتمعي آدم رُجَّالْ، الذي يشغل موقع الناطق الرسمي باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين في دارفور، فإنّ الأنظمة المتعاقبة تتعمد نثر بذور الكراهية لتقسيم المجتمعات حتى ولو أدّى ذلك إلى تمزيق النسيج الاجتماعي، فهذا ثمنٌ زهيد مقابل احتفاظها بالسلطة.

ويعضّد أستاذ الإعلام بالجامعة الخليجية في البحرين، الدكتور عبدالله إبراهيم الطاهر، شهادة المتحدث باسم منسقيّة النازحين، مشيراً إلى استخدام خطاب الكراهية أحياناً من قبل الحكّام لأغراض التلاعب السياسي، رغم الانقسامات المجتمعيّة الناجمة عنه.

ويترتّب على خطاب التمييز العرقي تبعات على السلم المجتمعي، كما يقول الطاهر في مقابلته مع (جسور بوست)، إذ يؤدي إلى تنامي الشعور بالعزلة والتهميش لدى أفراد الجماعات المستهدفة.

أدوات سيئة السمعة

ترى الناشطة والمدافعة الحقوقيّة رحاب سيد أحمد، أن خطاب الكراهية تنامى في الفترة الأخيرة بصورة مخيفة. 

وتقول رحاب خلال إفادتها لـ"جسور بوست" إنّ النظام البائد تعمّد صناعة المُكر والدسائس إبّان سنوات حكمه، مشيرةً إلى عودته مرّة أخرى إلى الواجهة ليؤجج نار الفتنة وسط القبائل وخطاب الكراهية عبر الإعلام المضلل ومن سمتهم (اللايفاتية)، وهم مؤثرون يعملون على نشر وجهات نظر مؤيدة للإخوان عبر منافذ البث المباشر في تطبيقات الهواتف النقالة.

وفي ذات المنحى يحاول المتحدث باسم النازحين آدم رُجَّالْ، ضمن مقابلته مع "جسور بوست" ربط السياق الحالي للحرب بين الجيش والدعم السريع مع خطاب الكراهية المسترسل منذ عشرات السنين، مشيراً إلى أن معركة أبريل 2023 تتغذّى بالفعل من خطابات الكراهية التي ظلت تعمل منذ أمد بعيد، وتنخر في المجتمعات المحلية عبر تقسيم الناس إلى فئتين؛ فئة تضم أهل البلد الحقيقيين وفريق آخر يشمل بقية المكونات.

ويشير الناطق باسم النازحين إلى أن تقسيم الناس يمكن أن يكون بناءً على القبيلة أو اللون أو الدين أو الانتماء السياسي، مشيراً إلى أن النازحين "ظلوا يُعاملون على الدوام كما لو أنهم ليسوا بشراً، وهذا أيضاً من أشكال الكراهية"، كما يقول… ويصف هذه الأدوات بأنها سيئة السمعة، ونتائجها تتراءى أمامنا اليوم.

محصّلة طبيعيّة

ويرى الكاتب الصحفي ومدقق المعلومات المتخصص في مكافحة خطاب الكراهية والتطرف العنيف محمد المختار محمد، أن خطاب الكراهية يغذي الاستقطاب الاجتماعي من خلال استخدام لغة ازدرائية وتمييزية ضد الأشخاص والمجموعات على أساس الانتماء الإثني والعرقي أو القبلي أو النوع الاجتماعي.

ويبدي المختار أسفه خلال مقابلته مع "جسور بوست" للمستويات الخطيرة التي وصل إليها خطاب الكراهية، معتبراً أنها محصلة طبيعية للاستقطاب الذي أحدثته الحرب، مؤكداً أن تصاعد خطاب الكراهية والخطاب العدائي يمثل أزمة حقيقية ستواجه المجتمع السوداني، وأن هناك أعباء مستقبلية ستظل في الانتظار، مشيراً إلى أن تداعيات إذكاء نيران الحرب ودعوات مواصلة الصراع ستبقى مستمرة حتى بعد توقف القصف وانقطاع صوت الدانات.

شبكات التحريض

ويتفق السكرتير التنفيذي لنقابة الصحفيين السودانيين، محمد عبدالعزيز، مع الرؤية التي تقول إن خطاب الكراهية وخطاب الحرب يتصلان ببعضهما.

ووفقا لعبدالعزيز، الصحفي والباحث المهتم بالشؤون الرقمية وشبكات التواصل فإنّ هناك غرفاً منظمة تلعب دوراً في تأجيج الكراهية وبث خطابها ونشره بشكل واسع، بالتزامن مع عمليات تضليل ممنهجة بهدف التعبئة وتحقيق انتصارات عسكرية، فالحرب حالياً -من وجهة نظر عبدالعزيز- تجري على مستويين؛ جبهة العمليات العسكرية على الأرض، وعبر منصات التواصل والشبكات الاجتماعية، التي باتت المحرك الأساسي للتحشيد وإثارة القلاقل بين المكونات الاجتماعية وتهويل الوقائع.

محركات الكراهية

يؤكد الباحث الأكاديمي وأستاذ الإعلام عبدالله الطاهر، أنّ بعض وسائل الإعلام تسهم في نشر خطاب الكراهية من خلال تقديم تغطية متحيزة أو تضخيم الأحداث التي تغذي الكراهية بين الجماعات، وهو ذات ما تقول به الناشطة الحقوقية والمهتمة بقضايا المرأة والنوع إخلاص نمر خلال حديثها إلى "جسور بوست، مشيرةً إلى أن فضاءات الإعلام الجديد ووسائط التواصل الاجتماعي باتت المكان الأمثل لممارسة هذا الخطاب، مؤكدة صعوبة السيطرة عليه.

الأيادي الخارجيّة

يعرب محمد عبدالعزيز عن أسفه لأنّ أدوات التضليل الإعلامي تعمل بشكل ممنهج ومؤثر وبإمكانيات أعلى من الإمكانيات المحلية، ما يؤكّد وجود أطراف خارجية تنفق بلا حدود على عمليات التلاعب في الخوارزميات وتبث ما ترغب فيه. 

في ذات المنحى، يقول أستاذ الإعلام بالجامعات البحرينيةّ، عبدالله الطاهر، إنّ شبهة التدخلات الأجنبية موجودة، وفي بعض الحالات، قد تكون هناك منظمات وجهات خارجية تعمل على استغلال الانقسامات العرقية والقبلية لتعزيز مصالحها في السودان، مشيراً إلى أن ذلك يتم من خلال دعم بعض الفصائل على حساب أخرى، أو من خلال تمويل حملات إعلامية أو دعائية تعزز الكراهية.

وينوه محمد المختار إلى أنّ جهات عديدة من مصلحتها تصعيد خطاب التمييز والانحياز منها الأطراف المنخرطة في النزاع وأنصارهم في وسائل التواصل، وأجهزة الأمن والاستخبارات العسكرية وغرف الدعاية الحربية وغرف التضليل، وغيرها. 

ويسترسل مختار منحيا باللائمة أيضاً على ما سماها "جهات دينية وأيديولوجية بغيضة، تنشر خطاب الكراهية وتشرعن للقتل وقصف المدنيين". 

وضمن تصنيفه كذلك للجهات التي تتعمّد نشر خطاب الكراهية والتطرف العنيف، يشير المختار إلى أن بعض واجهات الإعلام "تخلت عن أخلاقيات المهنة وأصبحت منحازة بشكل سافر لأحد طرفي الحرب"، بالإضافة إلى "بعض أهل الفن عبر تصريحاتهم أو أغنياتهم".

ما العمل؟

تأمل الناشطة إخلاص نمر، أن يضطلع المجتمع المدني بدوره للمساعدة في محاصرة خطاب الكراهية عبر تعزيز المبادرات الإيجابية وتمكين التدابير التعليمية لتوعية المجتمعات بغية بناء جيل متشرب بقيم التسامح والمحبة.

وطبقاً لإخلاص نمر فإنّ العبء الأكبر يقع على مزوّدي خدمات الإنترنت والشركات الكبيرة التي ينبغي أن تتخذ خطوات إيجابية لتحجيم خطاب الكراهية، وتعزيز تدابير السلامة للحد من المعلومات المغلوطة والمضللة، والعنف الذي ينهمر عبر وسائط التواصل الاجتماعي وصولاً لتكنولوجيا آمنة وأخلاقية.

التعليم وصرامة القوانين

ولا يبدي عبدالله الطاهر اختلافاً كبيراً مع رؤية نمر، حيث يعوّل على الدور الكبير والأساسي للتعليم في تغيير الأفكار والمفاهيم المسبقة، مشيراً إلى أنه بالإمكان مواجهة خطاب الكراهية والتمييز العرقي والقبلي عبر نشر الوعي حول مخاطره والتعريف بأهمية التعايش السلمي، داعياً في السياق إلى إشراك المجتمع المدني، عبر المنظمات غير الحكومية التي لها دور مهم في مراقبة خطاب الكراهية والعمل على تعزيز التفاهم والتسامح بين الجماعات المختلفة. 

ودعا الطاهر إلى وضع وتنفيذ قوانين صارمة تجرم خطاب التمييز، كخطوة ضرورية لحماية السلم المجتمعي، وهو التمييز الذي يدعو كذلك آدم رُجَّال لمحاربته بكل الأشكال الممكنة، كونه لا يؤدي إلا تراكم الغبن، "والغبن لا يبني الأوطان"، كما يقول، "بل تُبنى بالتسامح ونشر ثقافة السلام المجتمعي وتعزيز لغة الحوار".


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية