العرب واللغة الواحدة

العرب واللغة الواحدة

 

إذا التقى عراقي صديقه المغربي كانت اللغة هي الوسيط الأساس في العلاقة بينهما، وإذا زار مصري موريتانيا لا يرى حاجز اللغة يفصله عن أبناء أمته، فالعروبة لغته الأساس وهي المعيار الأدق لفهم طبيعة النظرية القومية الحديثة، فالقوميات تقوم على عامل اللغة وليس عاملاً آخر، فالأصول والأعراق والجذور والأنساب لا تخلق التجانس وحدها إنما يأتي الانصهار السكاني من وحدة اللسان.

لقد أعجبني في مطلع شبابي تعريف جامع مانع لمعنى كلمة "العربي"، فهو كل من تكون لغته الأولى هي العربية ولكني راجعت نفسي بعد ذلك لكي أضيف أو ذلك الذي اختارها لغة للتعبير المباشر عن الذات في المواقف الصعبة والظروف الحرجة، إذ يعتبر ضيفاً مقبولاً على العروبة ينصهر في السبيكة الواحدة للأمة العربية.

وهناك في التاريخ العربي المعاصر من أقحموا بعض العوامل التي لا تشكل بالضرورة أساساً للوحدة القومية مثل الحديث عن العامل الديني أو العصبية القبلية أو التوظيف العشائري، فقيمة وحدة الديانة تأتي من اعتبارها ثقافة ورؤية، إلى جانب أنها شريعة وفقه، إذ إن من مقاصد الشريعة الإسلامية جمع الكلمة ووحدة الصف، والكل يدرك معي أن رواد الحركة القومية كانوا من مسيحيي الشام بالدرجة الأولى، كما أن قيادة الأحزاب القومية وحركات التحرير الفلسطينية كانت فيهما أعداد واضحة من العرب المسيحيين، ومصر كأكبر دولة عربية سكاناً تضم ما يزيد على 10 في المئة من سكانها من المسيحيين المصريين على الامتداد الطبيعي للتاريخ القبطي في المنطقة.

يتعين علينا أن نستبعد العوامل المتصلة بالعقيدة الدينية أو الأصول العرقية عندما نتحدث عن العناصر الرئيسة للحركة القومية للعالم العربي، ولا شك في أن هناك قوميات مجاورة للعروبة تأثرت بها إلى حد كبير مثل الأكراد والأمازيغ وغيرهما ممن ارتبطوا بالتاريخ العربي وأصبحوا جزءاً لا يتجزأ منه، والبحث في الأصول والأعراق أمر محفوف بالأخطار ولا يؤدي إلى نتائج إيجابية على مر التاريخ، بل ربما يزرع أسباب الفتنة وعوامل التفرقة.

نحن نفاخر دائماً، إقليمياً ودولياً، بأن معظم الدول العربية دول متجانسة السكان، لا فارق فيها بين كردي وعربي ولا بين نوبي أسمر أو ساحلي أبيض على شاطئ المتوسط ما دام اللسان العربي يجمع بينهم، فسكان مصر مثلاً يمثلون نسيجاً موحداً حتى إن الاختبارات المعملية الحديثة أكدت أن 97 في المئة من جينات المصريين مشتركة، مما يعني أن درجة التجانس السكاني في مصر كنموذج انتقائي بحكم الزيادة السكانية فيها، توضح سلامة ذلك التكوين وتقارب عناصره.

ولا بأس أن يكون هناك اتحاد للقبائل العربية في مصر شأن جمعيات أبناء الصعيد أو عربان الصحراء أو الحديث عن العرب والهوارة أو حتى الإشادة بالعنصر النوبي المتميز بين سكان جنوب الوادي، ونذكر الجميع بأنه في واحة سيوة عند أطراف الصحراء الغربية للدولة المصرية يتحدثون الأمازيغية في قطاعات منهم، إلى جانب اللغة العربية من دون حساسية أو تعصب.

لكن الذي نحذر منه ونخشاه أن يكون في ذلك ولو من بعيد إثارة لنعرات انتهى زمانها ومضى وقتها، فلا تمييز ولا إقصاء بل اندماج كامل وانصهار حقيقي في بوتقة الوطن، ولذلك فإنني أؤكد المعاني السابقة لإثبات وحدة النسيج القومي بين الدول العربية، مع تسليمي بما قاله الصحافي المصري مصطفى بكري إن "هناك فارقاً بين اتحاد القبائل العربية واتحاد قبائل سيناء"، وكتبت مقالة منذ أكثر من 15 عاماً أبديت فيها انتقادي للتفاخر بالأنساب والأعراق بين المصريين تحت مسمى "الأشراف"، معترضاً عليه كمظهر للتمييز بين السادة وبقية السكان داخل الدولة الواحدة وكانت مقالتي واضحة ومباشرة، واتصل بي يومها المهندس أحمد عز أبرز قيادات الحزب الوطني حينذاك وقال لي إن نقيب الأشراف وجمعاً غفيراً منهم غير سعداء بهذه المقالة لأنها تطعن في أصولهم وتساوي بين الجميع أشرافاً وغير أشراف، وشرحت له حينها وجهة نظري في الموضوع وكان الرجل مهذباً كعادته، فقبل ما قلت وإن كان يختلف معه انطلاقاً من مبدأ حرية الرأي وليبرالية الفكر، ولعلي أسجل هنا ما يلي:

أولاً: لا اعتراض لدينا على وجود هذا التجمع البشري تحت مظلة الوطنية المصرية لأن مضمونه تحصيل حاصل، فنحن جميعاً سواء انحدرنا من قبائل عربية وافدة أو جئنا من أصول فرعونية قديمة، فالأمر يستوي في النهاية من خلال السبيكة الوطنية المشتركة بلا تفرقة أو تمييز، فالفتوحات العربية حولت الأمصار والأقطار إلى جزء لا يتجزأ من الضفيرة البشرية للمجتمع العربي، ويُذكر في هذا الصدد أن القائد العام السابق للقوات المسلحة المصرية على امتداد ربع قرن مضت كان ضابطاً باسلاً من أصول نوبية، بل تمكن من قيادة البلاد في ظروف معقدة وصعبة.

 ثانياً: إن القبائل العربية في سيناء مصرية الأصول والجذور وجزء لا يتجزأ من الكيان المصري الواحد، حاربت للدفاع عن أرضها حتى برزت لبدو سيناء بطولات مشهودة وأدوار وطنية ستبقى خالدة على صفحة سيناء المصرية في كل العهود، لذلك فإن دور قبائلها دور يعتز به الوطن ويراه جزءاً لا يتجزأ من النضال المصري الطويل للحفاظ على تراب مصر وحماية حدودها، وكان لتلك القبائل العربية المصرية دور لا ينسى في تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي تارة ومن الحشود الإجرامية للإرهاب الذي استهدف سيناء لأعوام عدة تارة أخرى. إن عرب سيناء جزء لا ينفصل عن النسيج العربي الواحد في مصر شأنهم في ذلك شأن كل الأقطار العربية الشقيقة حتى تلك التي تقف على التخوم حارسة للأمن القومي العربي ومدافعة عنه.

ثالثاً: إننا نظن بحق أننا في لحظة فارقة من تاريخ المنطقة العربية وندرك الأخطار التي تستهدفنا من كل اتجاه ونعلم جيداً، على سبيل المثال، أن تماسك الشعب المصري ووحدة عناصره هما السند الحقيقي للدولة المصرية أمام كل التحديات الخارجية والمخططات الأجنبية والأطماع الإقليمية، وستمضي الأمة في طريقها وهي يقظة تماماً لكل ما يحاك ضدها وما يستهدف شعبها في إطار الصراع العربي- الإسرائيلي والتطورات الدامية في مواجهة العدوان على شعب غزة الذي يواجه الرصاص والقتل بصدور عارية ويدفع أغلى فاتورة للدم في العصر الحديث، وندرك جميعاً أننا نسيج واحد لا يتمزق أبداً!.

دعنا نسجل هنا أن الاندماج السكاني العربي هو واحد من مفاخر العروبة الحديثة والعنصر الأساس في التكوين العربي المعاصر، فكم عربي يعرف أن صلاح الدين كان كردي الأصل، أو أن أمير شعراء العرب أحمد شوقي ينحدر هو الآخر من أصول غير عربية، إذ إن أجدادنا لم يكونوا معنيين بهذه الفوارق والتقسيمات ولا ينظرون بارتياح إلى حالات التشرذم وصناعة التكتلات التي لا مبرر لها ولا سند من التاريخ الحضاري يدعمها وحدها، بل تبقى الوحدة بينهم جزءاً لا يتجزأ من منظومة مشتركة تقوم فيها اللغة العربية بدور رئيس يمهد الطريق دائماً لوحدة مماثلة في الفكر، بخاصة أن الإنسان يفكر باللغة التي يبدأ حياته بها، وقيل علمياً إن المريض في لحظة الموت ينطق بكلمات الوداع الأخيرة ويكرر الشهادتين باللغة ذاتها التي بدأ بها في طفولته، إذ يصبح خالي الوفاض من أي مؤثرات أخرى، فتبقى معه لغته القومية الأولى هي شهادته أمام الله والتاريخ.


نقلاً عن "إندبندنت عربية"


 


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية