اليوم الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة.. حماية الإنسان في مواجهة اقتصاد المفسدين
يحتفى به 15 نوفمبر من كل عام
لم يعد العالم يتعامل مع الجريمة المنظمة بوصفها ظاهرة هامشية أو نشاطًا معزولًا يدور في الأزقة الخلفية، بل باتت جزءًا من واقع ينساب بين الحدود كما لو كانت بلا خرائط، وفي الخامس عشر من نوفمبر من كل عام يقف العالم أمام مرآته ليواجه الحقيقة التي كثيرًا ما يحاول تجاهلها: الجريمة المنظمة العابرة للحدود ليست مجرد نشاط إجرامي، بل منظومة كاملة تسعى لابتلاع ما تبقى من أمن المجتمعات وحقوق الناس.
هذا اليوم الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة في مارس 2024، لم يأتِ صدفة، ولم يُستحدث لإضافة مناسبة دولية جديدة إلى الروزنامة الأممية، بل جاء محمولًا على تاريخ طويل من العنف والاتجار بالبشر وتزوير الدواء وتهريب الأسلحة، وعلى وجوه ضحايا لم يكن ذنبهم سوى أنهم وقعوا في مسار شبكات تعرف كيف تتحرك في الظلام.
كان العالم بحاجة إلى يوم يروي قصته مع الجريمة المنظمة، ليس من باب الرصد الأمني فحسب، بل من باب الحق والعدالة والذاكرة، فحين تُنتزع كرامة إنسان على يد شبكة تتربح من ضعفه، أو تُخطف حياة مهاجر على يد مهرّبين لا يعترفون بالإنسان إلا بوصفه حمولة، تصبح المواجهة واجبًا حقوقيًا قبل أن تكون واجباً أمنيًا.
جذور ممتدة في السياسة والاقتصاد والمجتمع
من هنا يبدأ الحديث عن هذا اليوم، كيوم يعيد التذكير بأن الجريمة المنظمة ليست مجرد تجارة غير مشروعة، بل منظومة تمتد جذورها في السياسة والاقتصاد والمجتمع، فهذه الشبكات لا تعمل في فراغ، بل تنمو حين تتراجع العدالة، وحين تضطرب المجتمعات بفعل الكوارث الطبيعية والركود الاقتصادي والنزاعات المسلحة.
جعلت أزمات مثل جائحة كوفيد-19 العالم أكثر هشاشة، فوجدت هذه الجماعات في الفوضى فرصة لتوسيع أنشطتها، من الاتجار بالمخدرات إلى تهريب البشر إلى استغلال الاحتياجات الطبية بترويج منتجات مزيفة.
ولم تعد الجريمة المنظمة اليوم ذلك النموذج الكلاسيكي للعصابات التي تسيطر على أحياء معينة، لقد تطورت، تفككت النماذج القديمة لتحل محلها شبكات صغرى أكثر مرونة، شبكات تمتد عبر حدود عدة دول، بحيث يمكن أن يوجد الجناة والمتورطون والضحايا وعائدات الجريمة في دول مختلفة.
لم يعد بالإمكان التعامل مع هذه الظاهرة ضمن الحدود الوطنية، ولا يمكن لأي دولة مواجهتها وحدها، وهنا تكمن أهمية اليوم الدولي: إعادة صياغة المفهوم الجماعي للتعاون الدولي، ليس بوصفه خيارًا، بل ضرورة حتمية.
تشكل الاتفاقية الأممية لمكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، التي تُعد واحدة من أكثر الصكوك الدولية تصديقًا منذ اعتمادها قبل أكثر من عقدين، تُشكّل حجر الأساس في هذا الجهد العالمي، ومع بروتوكولاتها الثلاثة، ظلت الاتفاقية آلية عالمية رئيسية للتعامل مع طيف واسع من الأنشطة الإجرامية.
ورغم قوتها القانونية، فإن الواقع المتغير والتطور الرقمي يفرضان تحديات جديدة، فالجماعات الإجرامية لم تعد تعتمد على المال الورقي والطرق التقليدية، بل أدخلت الأصول الافتراضية في شبكاتها، ما جعل تعقّب الأموال أصعب، وزاد من قدرة الجريمة على التسلل دون أن تترك أثرًا.
مكافحة الجريمة والتنمية المستدامة
وحين أعلنت الأمم المتحدة عن يوم 15 نوفمبر يومًا دوليًا لمكافحة الجريمة المنظمة، كانت تعلن في الوقت ذاته عن لحظة اعتراف عالمية بأن القضية أصبحت جزءًا من جدول أعمال التنمية المستدامة، وأن تحقيق أهداف 2030 لن يكون ممكنًا إلا بوقف النزيف الذي تُحدثه هذه الشبكات في الموارد والتنمية والاستقرار.
ولهذا، لم يقتصر الإعلان على رفع الوعي العالمي، بل تضمن تكريمًا لضحايا هذه الجريمة، خصوصًا أولئك الذين فقدوا حياتهم في سبيل مكافحتها: من أفراد أجهزة إنفاذ القانون إلى القضاة الذين أصرت الجماعات الإجرامية على إسكاتهم.
وخصّت الأمم المتحدة القاضي جيوفاني فالكوني بتحية خاصة، اعترافًا بدوره في تمهيد الطريق لاعتماد الاتفاقية التي تُعد اليوم درعًا قانونيًا عالميًا.
ويواصل المكتب المعني بالمخدرات والجريمة الذي يقود الجهد الأممي في هذا الملف منذ عقود، دعم الدول والمجتمعات لمواجهة هذه التهديدات، فطوال عشرين عامًا، ظل المكتب يعمل على تعزيز الأمن والسلام والعدالة، ويُعد اليوم هيئة مركزية في نشر السياسات الوقائية وبناء القدرات والتعاون الدولي.
ولا يتوقف دوره عند مكافحة الجريمة فحسب، بل يشمل العمل على مكافحة الفساد والإرهاب بوصفها ظواهر متشابكة في بنية واحدة.
مراجعة جماعية
يأتي إحياء اليوم الدولي في عام 2025 من خلال فعالية رفيعة المستوى ستُعقد في فيينا في الحادي عشر من نوفمبر، هذا التجمع العالمي ليس مجرد فعالية بروتوكولية، بل لحظة مراجعة جماعية: ما الذي حققته الدول؟ وما الذي يحتاج العالم إلى فعله في السنوات المقبلة؟ إنها مناسبة لتبادل الخبرات، وتقييم فجوات التعاون، والنظر في كيفية مواجهة التحولات الجديدة في الجريمة الرقمية، وسُبل حماية الأشخاص من الاتجار والاستغلال.
وبينما يتناول العالم هذه الظاهرة من منظور أمني، يبقى البعد الحقوقي جوهر القصة، فالجريمة المنظمة تمزّق النسيج الاجتماعي بطرق مباشرة وغير مباشرة، حين يُتاجر بالأشخاص، تُنتهك حقوقهم الأساسية في الحرية والكرامة، وحين تُهرّب المخدرات، يُصاب الشباب في حقهم في الصحة والحياة، وحين تُزوّر الأدوية، تُهدد حياة المرضى، وحين تُنهب الممتلكات الثقافية، تُسلَب الشعوب ذاكرتها، وحين تُغسَل الأموال، يُنهب اقتصاد الدول ويُلتف على إرادتها، حتى تهريب الأنواع المحمية له أثر حقوقي، لأنه يُضعف قدرة المجتمعات على العيش في بيئة مستقرة وصحية.
ويضيف البعد الرقمي للجريمة المنظمة طبقة جديدة من التعقيد، فالدول اليوم ليست مطالبة فقط بملاحقة مهربين ومجرمين على الأرض، بل بمراقبة تدفقات مالية افتراضية، وحماية شبكاتها الرقمية، وتعقب منصات تُستخدم لتسهيل الجريمة، وهذا التحول يفرض على الدول أن تطور من أدواتها القانونية والتقنية، وأن تُدخل خبراء التكنولوجيا إلى طاولة الأمن والعدالة.
مسؤولية مشتركة
في هذا اليوم، لا يحتفي العالم بالإنجازات بقدر ما يضع يده على الجرح، إنه يذكّر بأن الجريمة المنظمة لا تزال سببًا لعدم الاستقرار، وأن الحماية لا تتحقق إلا حين تُحاصر هذه الشبكات على مستوى عالمي، ومن دون هذا التعاون، تبقى الدول معرضة، ويبقى المواطن رهينة شبكات الظل التي تتحرك في المساحات الفارغة بين القوانين والحدود.
اليوم الدولي لمكافحة الجريمة المنظمة ليس يومًا يخاطب الحكومات وحدها، بل كل فرد، إنه يوم يدعو إلى الوعي، إلى فهم أن ما يحدث في دولة ما له أثر في أخرى، وأن الجريمة في بلد قد تنعكس على أمن مجتمع آخر عبر الاقتصاد أو الهجرة أو الصحة أو البيئة، إنه يوم لإعادة الاعتبار لفكرة العدالة بوصفها مسؤولية مشتركة.
وفي النهاية، يبقى هذا اليوم علامة فارقة في الذاكرة الأممية: لحظة تتلاقى فيها الأنظمة القانونية والجهود الحقوقية والآمال الإنسانية في مستقبل أكثر أمانًا، يوم يروي حكاية عالم قرر ألا يقف مكتوف اليدين أمام شبكات لا تعترف بحدود ولا بسيادة ولا بكرامة الإنسان.











