زينب بنت محمد.. صاحبة أول قصة حب في الإسلام شهدها الرسول وباركها الصحابة
حقوقيات في زمن النبوة (9)
يوجد مفهوم شائع يربط بين الطاعة لله والحرمان من متطلبات النوازع الإنسانية وما فطر الله الناس عليه، ولا تزال قضية العلاقة بين الرجل والمرأة من المحاور التي تمت على مسرحها معالجة وبناء هذه الصورة القاتمة عن الدين الإسلامي السمح وتعاليمه.
ففي حين اعتبر الإسلام الحب قيمة عالية وهدفًا ساميًا من أهدافه، يسعى بشتى الوسائل لتحقيقه وإشاعته في المجتمع، اعتبره البعض فعلًا محرمًا وجريمة تشين مرتكبها يستوجب الخزي في الدنيا والآخرة.
وتبرز سيرة زينب بنت محمد بن عبدالله رسول الإسلام وقصة حبها لأبي العاص بن الربيع زوجها وابن خالتها هالة بنت خويلد رضي الله عنهم جميعًا، قيمة الحب في الإسلام وتنفي ما يشاع من حرمانيته، فلو كان حرامًا لمنعه رسول الله ولما أحب عائشة من باب أولى، بل إن الوارد من مصادر التشريع يثبت بدلالة قاطعة حل الحب.
ولسيرة أول بنات النبي صلى الله عليه وسلم أهمية وعبرة لا يمكن تجاهلها لشدة ما يحتاج إليه الواقع الحالي، يكفي القارئ وضع كلمة "حب" في خانة البحث "جوجل"، ليرى بنفسه سيلاً من الأسئلة أغرقت بها المواقع الإلكترونية والسوشيال ميديا عن حكم الحب والاحتفال بيومه في الشرع، حد تصدي دار الإفتاء المصرية للأمر والخروج بفتاوى عديدة تفتي بحل “الحب” تواجه نقدًا وتوبيخًا عادة، وكأن دار الإفتاء التي يشغلها علماء يفقهون من دين الله ما لا يفقهه من يحرمون الحب، معتمدين في حكمهم على كُتيبات تطبع وتهدى مجانًا أو تباع على الأرصفة بأسعار توحي بحملة ممنهجة لتسطيح الدين ونشر التشدد والغلو لأهداف لا يتسع المقام لذكرها.
زاد الصورة قتامة، عصر التسليع وبرجماتية معممة تحظى بها المجتمعات بغالبية ساحقة، حيث كل شيء بات يقاس بمردوده المادي ونفعه وما يدره من أرباح ومكاسب، لم يعد للقيم المتعالية والمتسامية على الربح والنفع من قيمة.
ولذا فهذا الحديث من باب الدفاع عن الحب المحاصر بين تسليع خلّفته الرأسمالية، وبين التطرف الفكري والإنساني ومن يرتدون عباءة الدين وأسفلها مِئزر تشدد وأفكار لمذاهب بعضها يتصف بالإرهابية، وبغير تفريط أو إفراط، وفي مواجهة هذه الصورة:
الرسول يشهد على قصة حب ابنته زينب
الحب ليس قيمة فلسفية مجردة، بل جسّدها الإسلام منهجًا عمليًا يستوعب قلب الإنسان وروحه وعقله وحسّه ونشاطه وغرائزه، ولا أدل على ذلك من قصة حب جمعت بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابن خالتها أبي العاص بن ربيع، الشاهد عليها سيد البشر.
تبدأ القصة بنزول الوحي على أبِيها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتكليفه من الله عزّ وجل بدعوة الناس إلى الإسلام، فآمنت زينب مع أمها وأخواتها، وتمنت زينب أن يشاركها زوجها أبو العاص بن الربيع الحبيب وابن خالتها هذه النعمة، فعرضت عليه الإسلام، فلم يقبل، ومع ذلك لم يحاول أن يُجبرها على ترْك دينها الجديد، هذه مروءة فارس عربي أصيل إلى جانب أنه كان يحبها حبًّا عظيمًا، كما كان يحترم أباها الذي لم يكذب يومًا، واستمرت حياة زينب مع أبي العاص، هي على إيمانها، وهو على كفره، هي تؤدي واجباتها الزوجية وتدعو له أن يهديه الله إلى الحق والهُدى، وهو يعاملها بكل احترام وتقدير.
تبرز قوة الحب الكائن بينهما وكما ذكرت كتب السيرة، حينما رفض اقتراح قبيلته قريش أن يفارق زينب ويُطلقها، مقابل أن يزوجوه بمن يشاء، رغبةً منهم أن يكيدوا بذلك النبي ويُضايقوه، ثم هاجر النبي وبناته والمسلمون إلى المدينة، فرارًا من بطش قريش ومؤامراتها، وبقيت زينب في مكة في حماية زوجها، وتمر الأيام على هذا الوضع بعد هجرة النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة وتسير قريش إلى "بدر" لحرب الرسول ويسير فيهم أبو العاص بن الربيع لا ليعلن إسلامه ولكن ليحارب الرسول عليه الصلاة والسلام في جيش المشركين.
ويتأزم الموقف حين يقع أبو العاص أسيراً في يد المسلمين عند الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالمدينة، وتبعث قريش في فداء أسراها وتبعث زينب أغلى ما تمتلكه وهو "قلادة" ذهبية -أهدتها إليها أمها يوم زفافها- لتفتدي زوجها من الأَسْر، وما أن يرَى النبي القلادة، حتى يتذكر زوجته الراحلة السيدة خديجة -رضي الله عنها- وتفيض عيناه بالدموع فهي المرأة التي ساندته في أصعب الأوقات وأشد الأزمات، فيتأثر الصحابة، ويتمنوا أن يفعلوا شيئًا يُدخلون به السرور عليه، وإذ بالنبي ينظر إليهم ويقول: "إن رأيتم أن تُطلِقوا لها أسيرها وتردوا عليها الذي لها" (رواه أبو داود)، أي تُفرجوا عن زوجها بلا فِداء، وتُعيدوا إليها قِلادتها.
فيقولون في صوت واحد: قد فعلنا يا رسول الله، وهنا يأخذ الرسول وعدًا من أبي العاص بأن يُخلي سبيل زينب ويُعيدها إليه بالمدينة، ويصدق أبو العاص بعهده مع رسول الله ويأذن لزوجته المخلصة الوفية بالهجرة إلى المدينة، ومضت الأيام، ويخرج أبو العاص في تجارة له إلى الشام، وفي طريق العودة تلقاه سرّية لرسول الله فتأخذ ما معه من أموال ولكنه يهرب من أيديهم، ولم يجد من يحتمي به في المدينة سوى زينب التي بادلته الحب والوفاء، فدخل المدينة ليلاً وطلب منها أن تجيره وتعينه على رد ماله فأجارته.
وأوصى المصطفى ابنته قائلا: "أي بُنية أكرمي مثواه، ولا يخلص إليكِ فإنكِ لا تحلين له مادام مشركاً"، ثم بعث عليه الصلاة والسلام إلى السرية الذين أصابوا مال أبي العاص وسألهم أن يردوا إليه المال فاستجابوا لطلب النبي، وعاد أبو العاص إلى مكة بماله ومال الناس، فلما أدى لكل ذي مال ماله وقف ثم قال: "يا معشر قريش هل بقى لأحد منكم عندي مال؟ قالوا: لا، جزاك الله خيراً قد وجدناك وفياً كريماً، قال: فأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، والله ما منعني من الإسلام عند رسول الله إلا تخوّفي أن تظنوا أني إنما أردت أن آكل أموالكم"، ثم خرج من مكة إلى المدينة مهاجراً فأسلم بين يدي النبي، فأخبر النبي أبا العاص وزينب أنهما عادا زوجين كما كانا، فالتأم شملُ الأسرة في سعادة من جديد بفضل الله وتلاقى الزوجان المتحابان مرة ثانية بعد فراق طويل.
وتسرد كتب السيرة تأثر زوجها أبي العاص بوفاتها تأثرًا شديدًا، فبكى عليها وأبكى مَن حوله، يخبرهم أن الحياة بغير زينب هباء، ولحقها إلى جوار ربه بعدها بعام.
الدين الإسلامي يؤمن بالحُب أيضًا
عندما طرحت دار الإفتاء سؤال "هل الحُب حرام؟"، جاءت الإجابة أن الحب معنى نبيل جاء به الإسلام ودعا إليه، فقال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ [البقرة: 165].
وقال عز وجل: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾.
وأثبتت "الإفتاء" أهمية الحُب، وأوردت: "المسلم محب لكل خلق الله تعالى، يرى الجمال أينما كان، ويعمل على نشر الحب حيثما حلَّ، فهو رحمة للناس يحسن إليهم ويرفق بهم ويتمنى الخير لهم.. فليس الحب حرامًا في أي حال من الأحوال، جعل الله الزواج هو باب الحلال في العلاقة والحب بين الجنسين، فمن ابتُلي بشيء من ذلك فليكتمه إن لم يستطع الزواج بمن يحب، لما ورد في الحديث: "مَنْ عَشِقَ فَعَفَّ فَكَتَمَ فَمَاتَ مَاتَ شَهِيدًا".
رأي العلماء في يوم الحب
الأمر تناولته “الإفتاء” أيضًا، وقال مدير إدارة الأبحاث الشرعية وأمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية الشيخ أحمد ممدوح، إن الشرع لا يمنع تخصيص يوم والاحتفال فيه بالحب واعتباره مُناسبة سنوية، طالما أنها لا تتعارض مع تعاليم الدين الحنيف.
وأضاف خلال إجابته عن سؤال "ما حكم تخصيص يوم للاحتفال بعيد الحب؟": «كما أنه لا مانع من أن نخصص يومًا للاحتفال بالأم وإظهار مدى الحب، فكذلك لا مانع شرعًا أن نخصص يومًا في كل عام لكي يعبر كل شخص عن مشاعره تجاه الآخر»، لافتًا إلى أنه لا يشترط أن يكون هذا اليوم خاصًا بالشاب والفتاة، فقد يكون خاصًا بين الرجل وزوجته أو الرجل وأبنائه وأشقائه وأقاربه.
وتابع: "هناك آراء تنادي ببدعة أو حرمة هذه المناسبات، معللين ذلك بأنها ليس لها أصول إسلامية، بل إنها من ابتكار غير المسلمين، وهذا من باب التشبه بغير المسلمين"، مؤكدًا أنه اعتراض غير صحيح لأن التشبه لا يكون إلا بنية التشبه فعلًا.
الكبار يحللونه أيضًا
لأهمية الحب تناوله الإمام ابن حزم في مؤلفه" طوق اليمامة"، وابن القيم في كتابه "نزهة المشتاقين"، وقبل هذا وذاك لخصه النبي في قوله" لا أرى للمتحابين سوى النكاح".
أما دلالته من الكتاب والسنة والأثر فهي كثيرة نسوق بعضها، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: “كان رسول صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني في ما تملك ولا أملك” (رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه).
وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إذا خطب أحدكم المرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل” (رواه أبو داود والطحاوي وأحمد وابن ماجة).
وعن سهل بن أبي حثمة أنه قال: “رأيت محمد بن مسلمة يطارد بثينة بنت الضحال فوق أجران لها ببصره طردًا شديدًا، فقلت: أتفعل هذا وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا أُلقيَ في قلب امرئٍ خطبة المرأة فلا بأس أن ينظر إليها” (الحديث رواه أحمد وابن ماجة والطحاوي).
وفي الصحيح كان مغيث يمضي خلف زوجته بريرة بعد فراقها له، وقد صارت أجنبية عنه، ودموعه تسيل على خديه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "يا ابن عباس ألّا تعجب من حب مغيث بريرة، ومن بغض بريرة مغيثًا، ثم قال لها لو راجعته، فقالت: أتأمرني؟ فقال: إنما أنا شافع، قالت: لا حاجة لي فيه” (رواه البخاري).
وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا أمير المؤمنين إني رأيت امرأة فعشقتها، فقال عمر: ذاك مما لا يملك” (رواه ابن حزم بسنده في طوق الحمامة).
وقال عمر بن الخطاب أيضًا: “لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بينهما” (رواه ابن الجوزي بسنده)، وعروة عاشق عذري وعده عمه بالزواج من ابنته عفراء بعد عودته من سفر للتجارة، ثم زوجها لرجل من الأثرياء.
وقال هشام بن عروة عن أبيه: "مات عاشق، فصلى عليه زيد بن ثابت، وأحد كتاب الوحي، وجامع القرآن الكريم، فقيل له في ذلك، فقال: إني رحمته” (رواه ابن القيم في روضة المحبين ونزهة العاشقين).
ويروي ابن حزم في طوق الحمامة أنه قد جاء من فتيا ابن عباس في العشق ما لا يُحتاج معه إلى غيره حين يقول: هذا قتيل الهوى لا عقل ولا قود.
ذكر أحد أتباع الإمام الظاهري أن الإمام محمد بن داود الظاهري كان يدخل الجامع دومًا من باب الوراقين، فعدل عن ذلك، وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئًا عليه فسألته عن ذلك، فقال: يا بني، السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب عاشقين يتحدثان فلما رأياني قالا: “أبو بكر قد جاء” فتفرقا فجعلت في نفسي ألا أدخل من باب فرقت فيه بين عاشقين.
وقال ابن القيم عنه في كتابه “الداء والدواء”: "وهذا أبو بكر محمد بن داود الظاهري العالم المشهور في فنون العلم من الفقه والحديث والتفسير والأدب، وله قوله في الفقه وهو من أكابر العلماء وعشقه مشهور".
الصبر وتحمّل الأذى
بالعود إلى زينب رضي الله عنها وأرضاها، فمن مناقبها العديدة الصبر وتحمل الأذى، فيروى أنها أرادت اللَّحاق بأبيها والهجرة إليه نحو المدينة وكان ذلك بعد غزوة بدر، وعندما عزمت على الرحيل تعرّض لها رجال من قريش بُغية إرجاعها ومنعها من الهجرة، حيث أخذ هبار بن الأسود يطعن ناقتها برماحه حتى ماتت، فسقطت -رضي الله عنها- وكانت حينئذ حاملاً فبدأت تنزف، فأسرعت إليها هند لإنقاذها من أيدي رجال قريش، وضمّتها إليها، وبعد ذلك أخذتها عندها.
وكان رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- قد أمر زيد بن حارثة -رضي الله عنه- بالذهاب إلى مكة ليأتيه بزينب، وأعطاه خاتمه ليُعطيه إليها، فانطلق زيد -رضي الله عنه- نحو مكة حتى وجد راعياً عند غنم زينب -رضي الله عنها- فأعطاه الخاتم وطلب إليه أن يُعطيه لزينب دون أن يعلم أحد بذلك، ففعل الراعي ما طُلب منه، فما كان من زينب سوى أن تسأل الراعي عن مكان الرجل الذي أعطاه الخاتم فأخبرها، وعندما جنّ الليل خرجت نحو زيد وركبت معه حتى أوصلها إلى المدينة عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وفاتها
استكملت زينب مهمتها في إسعاد زوجها وتربية أبنائها، حتى إذا كانت السنة الثامنة من الهجرة توفيت رضي الله عنها متأثرة بالنـزف الذي لازمها منذ محاولة هجرتها، وفارقت الدنيا تاركة سيرتها العطرة ومواقفها الجليلة في إخلاص الزوجة ووفائها لزوجها، وفي الإيمان والثبات عليه، فجزاها الله خيرًا، ورضي عنها وأرضاها.