هند بنت عتبة.. أول خبيرة للعلاقات الأسرية في الإسلام

حقوقيات في زمن النبوة "18"

هند بنت عتبة.. أول خبيرة للعلاقات الأسرية في الإسلام

"خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا".. قول محمدي يعني أن أكرم الناس من حيث النسب والمعادن والأصول، هم الخيار في الجاهلية، لكن بشرط إذا فقهوا.

وللمُطَّلع على سيرة هند بنت عتبة رضي الله عنها وأرضاها، سيجد أن هذا الحديث ينطبق عليها، فهي من حيث النسب ابنة عتبة بن ربيعة القائد القرشي المشهور وسيد من أسياد قريش، ومن حيث المعدن والأصالة فليس هناك من كان أشد انتماء لقريش، حارب بضراوة الرسالة المحمدية الجديدة مثلما فعلت حبًا وإخلاصًا للقبيلة وعقائدها، وليس هذا بعيب حتى يتبين للشخص هدي الرسالة المحمدية.

ولذا حينما تحرر قلب هند من الشرك وأفكار القبيلة، كانت بنفس القوة والوضوح والشجاعة في الجهاد والسؤال عن الحق وطلبه لأهله، مثل التي كانت عليها قبل دخولها الإسلام من قوة، أرست من خلالها حرية اختيار الزوج والطلاق ومبادئ تربية الأبناء والتصرف في مال الزوج وأخذ بعضه للإنفاق إذا كان شحيحًا وغيرها.

ففي الجاهلية أبت هند أن يشك فيها زوجها، وهي التي عُرفت بالأنفة وعزة النفس، ترى أن الشك إذا دخل حياة الأزواج تحولت الحياة إلى جحيم واستحالت الحياة بينهما، فعلى الزوجين أن يكونا على قدر من الوضوح والصراحة بينهما حتى لا يدعا مجالاً للشيطان ليفسد العلاقة بسوء الظن، ولتكون الثقة المتبادلة هي الداعمة لاستمرار الحياة الأسرية. 

وفي الإسلام قال لها أحد المتفرسين من العرب يوما: إنني أتوسم في ابنك أن يسود قومه، قالت هند: ثكلته إن لم يسد إلا قومه، أي: فقدته إن لم يسد إلا قومه. 

انظر إلى علو همتها في تربية ابنها وكيف ساد العرب وحكمهم، بثقتها فيه وفي إمكانياته.. كم من أم دمرت ولدها بإهانتها له والتحقير من شأنه فخرج إلى المجتمع بشخصية مهتزة.

وسبحان مقلِّب القلوب، لقد حسن إسلام هند بنت عتبة رضي الله عنها، وكما كانت تخرج مع جيوش الكفار لتُحَمِّسَهَا لحرب المسلمين، خرجت مع جيوش المسلمين لتحمِّسَهُمْ لحرب الكفار، وكان من أشهر مواقفها يوم اليرموك عندما بدأت تشجِّع المسلمين على القتال في سبيل الله، وعلى خوض غمار المعركة الهائلة ضد مئتي ألف رومي، فكانت من أسباب النصر العظيمة في ذلك اليوم المجيد.

وفي ذلك دلالة قاطعة على جواز خروج المرأة وسط الجموع، فإذا خرجت هند تحمس الجنود للحرب فهذا يقتضي أن تكون على مسافة قريبة منهم، بحيث يصلهم صوتها، وإذا خرجت المرأة في الجهاد وكانت منهن أم عمارة وهند، فمن باب أولى كان خروج المرأة للعمل على عكس ما ينادي بعض المتشددين. 

لقد أصبحت هند بنت عتبة رضي الله عنها إضافة قوية للأمة الإسلامية، وكانت البداية موقفًا بديعًا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما أكثر الأعداء الذين تحوَّلُوا إلى أخلص الأصدقاء بموقف منه صلى الله عليه وسلم.

فساهمت في إرساء بعض الأحكام الإسلامية للأسرة، منها أن نفقة الزوجة لا تسقط بغناها، ولا بعملها، ولو منعها إياها واستطاعت الوصول إليها دون علمه فلها أخذ مقدار نفقتها بالمعروف، لما روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: دخلت هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بني، إلا ما أخذت من ماله بغير علمه، فهل علي في ذلك من جناح؟ 

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك"، وفي رواية لها: "إن أبا سفيان رجل شحيح، فهل عليَّ جناح أن آخذ من ماله سرًا؟".

وفى هذا دليل على أن نفقة الزوجةِ والأولادِ واجبة على الزوج بقدر الكفاية، مع مراعاة حال المنفق، فإن كان الزوج بخيلاً لا إثم عليها أن تأخذ منه بدون علمه ما يكفيها بلا إسراف.

ويؤخذ من موقف هند مبدأ إسلامي رفيع، وهو جواز ذكر العيب  للشكوى أو الاستفتاء فهي من مباحات الغيبة، وكذا يُعلم منه أيضا مدى حرصها رضي الله عنها على الحلال، وخوفها أن يكون هذا التصرف لا يرضي الله فجاءت تستفتي فيه، فأين الزوجة الصالحة التي تنفق بالمعروف ولا تتعمد أن تُرهق زوجها.

ومن محاسن هند أنها لم تترك ساحة الجهاد في سبيل الله، فقد شهدت معركة اليرموك وحرضت على قتال الروم وجعلت تقول "عضدوا الغلفان بسيوفكم معشر المسلمين"، حرصًا على رفع الروح المعنوية للمسلمين وتحفيزهم لملاقاة العدو، وذلك من أهم دعائم النصر، فكم من حروب نفسية دمرت الشعوب بغير أن يخسر أصحابها ماديًا أو بشريًا، فكما كانت جريئة ومقدامة في محاربة الحق هي الآن تستخدم شجاعتها وجرأتها في الحق.

وتعد بيعة هند للنبي ضمن بيعة النساء من أقوى المواقف التي فعلتها والعاكسة أيضًا لشخصيتها، فبعدما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وأقبل أهلها من كل مكان يبايعون على الإسلام، ومما أورده المباركفوري في الرحيق المختوم ص351، أن هند بنت عتبة جاءت وهي منتقبة متنكِّرة لا يعرفها -صلى الله عليه وسلم- تريد أن تبايع كما يبايع الناس، وكانت بيعة النساء على: ألّا يُشْرِكْنَ بالله شيئًا، ولا يسرقن، ولا يزنين، ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصينه -صلى الله عليه وسلم- في معروف.

هنا أي مُطلع على الأمور لن يفترض في قدوم هند بنت عتبة للبيعة إلا محاولة منها للهروب من حكم بالقتل هو لا محالة صادر، ولكن الموقف كان شديد البُعد عن توقعات الناس، لقد تدخلت هند مستفسرة ومستعلمة بقوة ولم تسمح بمرور بند من المبايعة حتى تعرف كل شروطه وأحكامه مستعجبة من بديهيات بعضه كقولها "أو تزني الحرة".

هند والإسلام

وهند زوجة أبي سفيان رضي الله عنه، وابنة عتبة بن ربيعة، كانت من أشد الناس حقدًا على المسلمين، وكان هذا الحقد كبيرًا أول أيام الإسلام، ولكنه زاد بشدة وتضاعف بعد غزوة بدر، بعد أن قُتل في ذلك اليوم أبوها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة بن ربيعة، وابنها حنظلة بن أبي سفيان، وأخوها الوليد بن عتبة.

فهؤلاء أربعة من أقرب الأقربين إليها، وهم جميعًا من سادة قريش، فأورث ذلك في قلبها كراهية لا يماثلها فيها أحد، وظلت على هذا العداء منذ بدر وحتى فتح مكة، وكانت من اللائي خرجن مع جيش الكفار في موقعة أحد، فكانت تُحمِّس الجيش القرشيَّ قدر ما تستطيع لقتال المسلمين، ولما فرَّ الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تقذف في وجوههم التراب، وتدفعهم دفعًا لحرب المسلمين، ولم تفرَّ كما فرَّ الرجال.

وبعد أن فتح الله لرسوله مكة المكرمة، دخلت هند الإسلام وبايعت الرسول -صلى الله عليه وسلم-، فمما ورد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال لهن: "بَايِعْنَنِي عَلَى أَلاَّ تُشْرِكْنَ بِاللهِ شَيْئًا".

فقالت هند وهي منتقبة، والرسول -صلى الله عليه وسلم- لا يعرفها: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال، أي: أن هناك تفصيلات كثيرة للنساء، والرجال قد بايعوا بيعة واحدة، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يلتفت إلى اعتراضها، وأكمل: «وَلاَ تَسْرِقْنَ». 

فوقفت هند وقالت: يا رسول الله، إنَّ أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني، ويكفي بَنِيّ، فهل عليَّ من حرجٍ إذا أخذت من ماله بغير علمه؟! 

فقال-صلى الله عليه وسلم: «خُذِي أَنْتِ وَبَنُوكِ مَا يَكْفِيكِ بِالْمَعْرُوفِ». 

ثم انتبه -صلى الله عليه وسلم- إلى أن هذه التي تتكلم هي هند بنت عتبة زوج أبي سفيان، فقال صلى الله عليه وسلم: «وَإِنَّكَ لَهُنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ»؟! 

قالت: نعم، هند بنت عتبة، فاعفُ عمَّا سلف، عفا الله عنك.

 

 إنها لحظة فاصلة في حياة هند بنت عتبة رضي الله عنها! تُرى ماذا سيفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عندما يتذكر تاريخها الطويل من حرب الإسلام.

لكن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كعادته وطبيعته يعفو ويصفح، فلم يُعَلِّقْ بكلمةٍ واحدة على كل ذكرياته المحزنة، بل تنازل عن كل الحقوق، وقَبِل إسلامها ببساطة، وأكمل البيعة مع النساء وكأنه لم يتأثر أبدًا.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَزْنِينَ»، واستمرت هند في اعتراضاتها، فقالت: يا رسول الله، وهل تزني الحرة؟!

فلم يتوقف الرسول صلى الله عليه وسلم، بل أكمل: "وَلا تَقْتُلْنَ أَوْلاَدَكُنَّ". 

فقالت هند: قد ربيناهم صغارًا، وقتلتهم كبارًا، هل تركت لنا ولدًا إلا قتلته يوم بدر؟! أنت قتلت آباءهم يوم بدر، وتوصينا الآن بأولادهم!! 

فلم ينفعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل لها: ولماذا قاتلناهم في بدر؟! 

أفلم يكن ذلك لأن المشركين -ومنهم أبوك وعمك وأخوك وابنك- حاربونا ليل نهار ليفتنونا عن ديننا، وقهرونا وعذبونا، وصادروا ديارنا وأموالنا؟! 

لم يقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- شيئًا من ذلك، وإنما كان ردُّ فعله عجيبًا، لقد تبَسَّم -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل شيئًا، وأخذ الموضوع بشيء من البساطة، وقدَّر موقف هند بنت عتبة -رضي الله عنها- ومدى صعوبة الإسلام عليها، ثم قال صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ تَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيِدِيكُنَّ وَأَرْجُلِكُنَّ». 

فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح. 

فقال صلى الله عليه وسلم: «وَلا تَعْصِينَنِي فِي مَعْرُوفٍ». 

فقالت هند: والله ما جلسنا هنا وفي أنفسنا أن نعصيك في معروف. 

وهكذا بايعت نساء مكة جميعًا، بمن فيهن هند بنت عتبة هذه البيعة المباركة. 

موقفها مع السيدة زينب بنت محمد 

المروءة صفة لا يقتضي بصاحبها أن يكون مسلمًا، فهي صفة عربية أصيلة بدت على هند وموقفها من زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فمما روت كتب السيرة، أن زينب رضى الله عنها قالت: لما قدم أبوالعاص مكة، قال لي: تجهزي فالحقي بأبيك، فخرجت أتجهز، فلقيتني هند بنت عتبة فقالت: يا بنت محمد، ألم يبلغني أنك تريدين اللحوق بأبيك؟ فقلت لها: ما أردت ذلك، فقالت: أيْ بنت عم، لا تفعلي، إني امرأة موسرة وعندي سلع من حاجتك، فإن أردت سلعة بعتكها، أو قرضًا من نفقة أقرضتك، فإنه لا يدخل بين النساء ما بين الرجال.

قالت: فوالله ما أراها قالت ذلك إلا لتفعل، فخفتها فكتمتها، وقلت: ما أريد ذلك.

أظهرت هند بنت عتبة مروءتها مع زينب رضى الله عنها برغم بغضها الشديد للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين، فلم تكن أسلمت بعد لكن لم يمنعها ذلك من إعانة الناس وقضاء حوائجهم، وهذا يعطينا درساً أن الفطرة السليمة تدعو إلى الخير والفضيلة والتي تقود بدورها إلى معرفة الحق والإسلام، كما تعلمنا أن مهما كانت درجة العداء بينك وبين الآخر فلا يمنع من مساعدته إن احتاج للمساعدة، فالمبادئ والأخلاق لا تتجزأ، وإن هناك أناسا جبلوا على الأخلاق الحميدة، فعندما يسلمون يوما ينطبق عليهم "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام"، وقد يهدي الله بك رجلا من مجرد موقف لبّيت فيه نداءه وأجبت حاجته فكان سبباً في حبه للدين ودخوله الإسلام، فإذا كان أهل الجاهلية عرفوا المروءة فنحن أهل الإسلام أولى بها. 

طلاقها

ولطلاقها قصة تروى كيف تكون قوة المرأة وعزتها، فيروى أن الفاكه من فتيان قريش وكان له بيت ضيافة خارجا عن البيوت تغشاه الناس من غير إذن، فحدث ذات يوم أن البيت خلا من الناس واضطجع فيه هو وهند، ثم نهض لحاجة فأقبل رجل ممن كان يغشى البيت فدخله.

فلما رأى هندا رجع هاربا، فلما نظره الفاكه دخل عليها فضربها برجله وقال لها: من هذا الذي خرج من عندك؟ قالت: ما رأيت أحدا قط وما انتبهت حتى أنبهتني، قال: فارجعي إلى بيت أبيك وتكلم الناس فيها. 

فقال أبوها: يا بنية إن الناس قد أكثروا فيك الكلام فإن يكن الرجل صادقا دسيت عليه من يقتله لينقطع كلام الناس، وإن يك كاذبا حاكمته إلى بعض كهان اليمن. 

فقالت له: لا والله ما هو علي بصادق، فقال له: يا فاكه إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فحاكمني إلى بعض كهان اليمن. 

فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم وخرج أبوها في جماعة من بني عبد مناف ومعهم هند ونسوة، فلما شارفوا البلاد قالوا: غدا نرد على هذا الرجل فتغيرت حالة هند فقال لها أبوها: إني أرى حالك قد تغير وما هذا إلا لمكروه عندك. 

فقالت: لا والله، ولكن أعرف أنكم تأتون بشرا يخطئ ويصيب ولا آمنه أن يصفني بوصف تكون عليّ سبّة، فقال لها: لا تخشي فسوف أختبره، فصفّر لفرسه حتى أدلى ثم أدخل حبة بر في إحليله وربطه فلما أصبحوا قدموا على الرجل فأكرمهم، ونحر لهم فلما تغدوا قال له عتبة: قد جئناك في أمر وقد خبأنا لك خبيئة نختبرك بها، قال: خبأتم لي ثمرة في كَمرة. 

قال: إني أريد أبين من هذا.

قال: حبة بر في إحليل مهر، قال: فانظر في أمر هؤلاء النسوة، فجعل يأتي إلى كل واحدة منهن ويضرب بيده على كتفها ويقول لها: انهضي.

فلما جاء دور هند قال: انهضي غير متهمة بشيء وستلدين ملكا اسمه معاوية، وعندما تبين براءتها نهض إليها الفاكه فأخذ بيدها، فجذبت يدها من يده وقالت: إليك عني فو الله إني لأحرص أن يكون ذلك من غيرك، فتزوجها أبوسفيان فولدت منه أمير المؤمنين معاوية رضي الله تعالى عنه. 

وفاتها

إنما الأعمال بخواتيمها، درس علمته لنا هند بنت عتبة حين توفيت على الإسلام في ولاية عمر بن الخطاب، في اليوم الذي مات فيه أبوقحافة سنة 14 من الهجرة. 

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية