الطب الشرعي ينتصر للعدالة.. "حفيد الدجوي" نموذجاً لرحلة البحث عن الحقيقة في مصر
الطب الشرعي ينتصر للعدالة.. "حفيد الدجوي" نموذجاً لرحلة البحث عن الحقيقة في مصر
دوّت في مساء أحد أيام شهر مايو الجاري رصاصة واحدة داخل إحدى الفيلات بمدينة السادس من أكتوبر المصرية قاطعةً سكونًا ثقيلًا يسود الحي الراقي، الرصاصة لم تقتل أحمد الدجوي فحسب، حفيد رائدة التعليم الخاص في مصر، الدكتورة نوال الدجوي، بل فتحت أبوابًا واسعة للشك، والتساؤل، والتكهنات.
وتعددت الروايات بين من اعتبر الحادث انتحارًا مأساويًا لشابٍ أنهكته ضغوط الحياة، ومن ألمح إلى احتمال وقوع جريمة قتل تقف خلفها صراعات عائلية محتدمة على مليارات الجنيهات، وبين الرصاص والثراء، المال والنفوذ، تقف الحقيقة عالقة تنتظر تفكيك "شفرة الموت".
وفي مصلحة الطب الشرعي، لا مجال للمجاز أو الانطباعات، فهنا يتحول الجسد إلى سجل علمي صامت، تُفك رموزه عبر معاينة دقيقة لمكان الحادث، لموضع الإصابة، لاتجاه الرصاصة، ولمخلفات البارود على اليد أو الملابس.
وفي حالات الانتحار بالسلاح الناري، غالبًا ما تكون الإصابة موجهة إلى الرأس أو الصدر من جهة اليد المسيطرة، وغالبًا ما تترك آثارًا لمخلفات البارود على الكف أو الأصابع، أما وجود الإصابة في أماكن غير تقليدية –كالظهر أو الرقبة من الخلف– فغالبًا ما يثير الشكوك حول فرضية القتل أو التلاعب بمسرح الجريمة.
ووفقًا لمصادر أمنية، تخضع الجثة حاليًا لتحاليل موسعة، تشمل فحص السموم لاحتمالية تناول مواد مهدئة، بالإضافة إلى تحليل هاتف الضحية بحثًا عن رسائل أو إشارات تكشف حالته النفسية أو تعرضه لأي تهديدات قبل الحادث.
خلفية عائلية متوترة
وفاة الشاب لم تحدث في فراغ، بل ضمن سياق عائلي مشحون بصراعات الإرث، فالدكتورة نوال الدجوي، التي يُنسب إليها الفضل في تأسيس واحدة من أضخم الجامعات الخاصة في مصر، تُعد من أبرز الوجوه النسائية في مجال الاستثمار التعليمي.
وتشير تقديرات إلى أن قيمة هذا السوق تجاوزت 180 مليار جنيه سنويًا حتى عام 2024.
بحسب مصادر إعلامية، تدور منذ شهور نزاعات داخل عائلة الدجوي حول توزيع الثروة، وصلت إلى حد القطيعة والملاحقات القضائية بين بعض الأحفاد وجدّتهم المؤسسة.
وتؤكد روايات مقرّبة من العائلة أن أحمد كان قد عاد مؤخرًا من الخارج بعد غياب، ما يطرح علامات استفهام حول طبيعة علاقته بعائلته في الفترة الأخيرة.
ويشير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن معدل الانتحار في مصر بلغ نحو 7.9 حالة لكل 100 ألف نسمة عام 2023، غير أن هذه النسبة لا تشرح تعقيدات الطبقات الثرية، التي غالبًا ما تحيط موتاها بجدران من السرية والشكوك.
وأظهرت تقارير مصلحة الطب الشرعي لعام 2023 أن 78% من حالات إطلاق النار المصنفة كـ"انتحار" توافقت مع معايير الطب الجنائي، فيما أُعيد فتح 6% من القضايا بعد ظهور دلائل على القتل.. ما يعني أن الروايات الجنائية تحتاج دائمًا إلى دعم بالسياق الاجتماعي والنفسي.
ويؤكد الباحث الحقوقي محمد زارع، أن "القضايا المرتبطة بعائلات نافذة لا يجب التعامل معها كقضايا عادية، لأن احتمالات التسوية أو التلاعب واردة بنسبة عالية"، مطالبًا بأقصى درجات الشفافية في التحقيقات.
وتشير مؤشرات "مشروع العدالة العالمية" إلى تراجع ترتيب مصر إلى المركز الـ135 من أصل 142 دولة في مؤشر سيادة القانون لعام 2023، ما يعزز مشاعر الشك لدى الرأي العام، خاصة حين تكون أطراف القضايا من أصحاب النفوذ.
وفي هذا الإطار، لا تكفي تقارير فنية أو تحاليل جنائية لتحديد مسار القضية. بل يجب تفريغ كاميرات المراقبة، تحليل الحسابات البنكية، الاستماع لإفادات الشهود، وفحص محتويات الهاتف المحمول، خصوصًا مع الحديث المتداول عن تلقي الضحية تهديدًا مباشرًا قبل الحادث بـ72 ساعة.
وفي نهاية المطاف، تقف الجهات القضائية أمام مسؤولية ضخمة، ليس فقط في الكشف عن الحقيقة، بل في استعادة ثقة المجتمع.. هل قُتل حفيد واحدة من أبرز سيدات الأعمال في مصر؟ أم انتحر؟ أم أُجبر على الانتحار في سياق نفسي واجتماعي مضطرب؟
مفتاح كشف الحقيقة
قال رئيس المجالس الطبية حيدر سليمان، إن الطب الشرعي يمتلك اليوم أدوات دقيقة وقراءات طبية متقدمة تمكنه من التفريق بشكل واضح وحاسم بين حالات الانتحار والقتل.
وأوضح أن الفارق الأساسي يكمن في تحديد مسافة الطلقة النارية واتجاهها، بالإضافة إلى وجود دلائل مميزة تتيح للطب الشرعي إصدار تقرير دقيق يعكس حقيقة ما حدث، سواء كان انتحارًا أو جريمة قتل مخططة.
وأضاف سليمان، في تصريحات لـ"جسور بوست": هذا التحديد يعتمد على تحليل شامل لمسرح الجريمة والجسد نفسه، حيث تفيد مواضع الجروح وبصمات الأيدي بشكل كبير في توضيح طبيعة الحادث، وجود إصابات أو علامات دفاعية على الجسم، مثل الخدوش أو تمزقات الملابس، بالإضافة إلى تحليل السموم وتحاليل المواد التي قد تكون دخلت إلى جسم الضحية، تلعب دورًا لا يقل أهمية في الكشف عن ملابسات الحادث. هذه الأدلة المادية -بحسب سليمان- هي الأساس الذي لا يمكن إغفاله أو التقليل من شأنه، فهي بمثابة الشاهد الصامت الذي يحكي تفاصيل الحادث دون حاجة إلى أقوال أو شهادات قد تتغير.
وأكد سليمان أن الأدلة الجنائية وحدها لا تكفي لإغلاق ملف أي قضية، خاصة تلك التي تحمل خلفيات معقدة أو تثار حولها تساؤلات، فالسياق النفسي والاجتماعي والعائلي للضحية يلعب دورًا جوهريًا في فهم ملابسات الحادث وتفسير الدوافع التي قد تكون وراءه.
وأضاف أن جهات التحقيق ملزمة بأخذ هذه الملابسات بعين الاعتبار، وتحليل مدى توافقها مع الأدلة المادية المتاحة، ما يساعد في بناء صورة متكاملة عن الحادث.
وأوضح أن فهم الخلفية النفسية والاجتماعية لا يقل أهمية عن تحليل الأدلة المادية، لأن القضايا الجنائية في كثير من الأحيان تكون ناتجة عن تراكمات داخلية وخارجية، وليس فقط لحظة وقوع الحادث، ومن هنا تأتي أهمية التنسيق بين الطب الشرعي والجهات الأمنية وعلم النفس الجنائي، لضمان تحقيق العدالة بشكل شامل.
واختتم سليمان تصريحه بالتأكيد على أن عملية التحقيق في مثل هذه القضايا تتطلب دقة عالية وشفافية كاملة، وأن الطب الشرعي ليس مجرد أداة تقنية، بل هو عنصر رئيس في كشف الحقيقة وتحقيق العدالة، ولا يمكن الاستغناء عن دوره في أي ملف جنائي مهما كانت تعقيداته، مشيرا إلى أن دمج الأدلة المادية مع فهم السياقات الاجتماعية والنفسية يعزز من مصداقية التحقيقات ويمنع التلاعب أو التسييس، الأمر الذي يصب في مصلحة المجتمع بأكمله ويضمن احترام حقوق جميع الأطراف.
الطب الشرعي يضمن العدالة
قال المحامي المصري ياسر محمد، إن القرار الوزاري رقم 187 لسنة 2001 الصادر عن وزير الصحة، يشكّل الإطار التنظيمي الأساسي لعمل التقارير الطبية وتقارير الطب الشرعي في مصر، ويحدّد بوضوح الضوابط والمعايير التي يجب اتباعها في إعداد وإصدار هذه التقارير.
وأشار محمد، في تصريحات لـ"جسور بوست"، إلى أن هذا القرار، إلى جانب قانوني الإجراءات الجنائية والإثبات، يُمثل الهيكل التشريعي الحاكم لاستخدام الطب الشرعي كوسيلة من وسائل الإثبات في القضايا الجنائية، وهو ما يُفترض أن يضمن العدالة ويوفر أرضية قانونية نزيهة للتحقيق والتقاضي.
وأكد أن مصر تُعد متقدمة نسبيًا في مجال الطب الشرعي، وضرب مثالًا واضحًا بقضية اغتيال الناشطة شيماء الصباغ، حيث لعب الطب الشرعي دورًا حاسمًا في كشف ملابسات القضية، وتحديد القاتل، وطريقة القتل، في وقت لم يكن فيه المتهم معروفًا، ولم يكن سبب الوفاة محسومًا.
وأضاف أن العديد من قضايا القتل والتزوير والتزييف في مصر تعتمد في جوهرها على تقارير الطب الشرعي، بوصفه علمًا دقيقًا ذا قواعد وأسس علمية، وغالبًا ما تكون نتائجه قاطعة أو شبه قاطعة، ومن ثمّ، فإن من الواجب على النيابة العامة، ثم المحكمة، أن تتعامل مع هذه التقارير كأدلة فاصلة في الدعوى، لا كقرائن تحتمل التأويل.