بين العمل ورعاية الأطفال.. انسحاب النساء من السوق الأمريكية يكشف فجوة عدالة

بين العمل ورعاية الأطفال.. انسحاب النساء من السوق الأمريكية يكشف فجوة عدالة
رعاية الأطفال - أرشيف

كشفت أحدث بيانات مكتب إحصاءات العمل الأمريكي عن مفارقة لافتة في سوق العمل: بعد عقود من التقدّم النسبي، حيث بدأت النساء تغادر مواقع العمل بوتيرة تُنذر بتحول هيكلي جديد.

تُظهر الأرقام أن معدل مشاركة النساء في القوى العاملة الذي بلغ ذروته بعد جائحة كوفيد-19 عند 57.7% في أغسطس 2024، انخفض إلى 56.9% بحلول منتصف 2025. هذا التراجع بنقطة مئوية واحدة يعني عمليًا خروج أكثر من 600 ألف امرأة من سوق العمل خلال أقل من عام، وهو ما وصفته مجلة "الإيكونوميست" بأنه "أكبر ارتفاع في الفجوة بين الجنسين منذ خمسينيات القرن الماضي".

ترتفع المؤشرات لتشير إلى أن هذه الموجة لا ترتبط بتقلبات عابرة، بل بتغيّر في البنية الاجتماعية والاقتصادية يعيد طرح سؤال العدالة الجندرية من جديد، فبينما تظل معدلات مشاركة الرجال ثابتة، يتراجع حضور النساء رغم ارتفاع الطلب على العمالة في قطاعاتٍ نسائية تقليدية كالتعليم والرعاية الصحية.

العدالة الاقتصادية

وفي وقت سابق، تربط مجلة "نيوزويك" بين هذه الظاهرة وبين هشاشة البنية الداعمة لحقوق المرأة العاملة في الولايات المتحدة.

وفقًا لتحليلها المبني على بيانات مكتب إحصاءات العمل، في يوليو، فقد غادرت أكثر من 212 ألف امرأة سوق العمل منذ بداية عام 2025، مقابل دخول نحو 44 ألف رجل فقط خلال الفترة نفسها.

يرى الباحثون أن هذا الخلل في الاتجاهات يكشف عن عدم تكافؤ الفرص في سوق العمل الأمريكي، إذ تتحمل النساء العبء الأكبر من الأزمات الاقتصادية والقرارات المؤسسية التي تقيد المرونة المهنية.

ويعيد هذا المشهد إلى الأذهان مبدأ "الحق في العمل" الوارد في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي يضمن للنساء والرجال على حد سواء الحق في كسب الرزق في ظروف عادلة ومنصفة.

غير أن ما يحدث اليوم يعكس فجوة حقيقية بين النصوص القانونية والواقع العملي، حيث تدفع النساء ثمن السياسات التي تفرض العودة الإلزامية إلى المكاتب، دون مراعاة احتياجات الأمومة أو الرعاية الأسرية.

الأمهات في قلب المعادلة

من جانبها تركّز صحيفة "واشنطن بوست" على البعد الاجتماعي للمسألة، موضحة أن الأمهات الأمريكيات -خصوصًا الفئة العمرية من 25 إلى 44 عامًا- هنّ الأكثر تأثرًا، فقد انخفضت مشاركتهن في سوق العمل بنحو 3 نقاط مئوية بين يناير ويونيو 2025، بعد أن أجبرتهن سياسات "العودة إلى المكتب" على ترك وظائفهن.

تُبرز الصحيفة أن الأمهات اللاتي استفدن من مرونة العمل عن بُعد خلال الجائحة كنّ قادرات على التوفيق بين العمل ورعاية الأطفال، لكن تشديد القيود مؤخرًا جعل هذا التوازن شبه مستحيل.

تقول الباحثة ميستي هيجينيس من جامعة كانساس إن النساء الحوامل خلال مارس 2020، واللاتي لم يكنّ على علم بتداعيات الجائحة، احتفظن بمعدلات مشاركة أعلى من اللواتي أنجبن قبلها بعام، لأن العمل من المنزل مكّنهن من أداء دورهن المزدوج: عاملات وأمهات، أما اليوم، ومع اختفاء هذا الخيار المرن، تواجه الأمهات صعوبة حقيقية في الحفاظ على وظائفهن دون التضحية بدورهن الأسري.

عبء الرعاية وارتفاع التكاليف

تضيف صحيفة "الغارديان" زاوية اقتصادية أكثر حدة، مشيرة إلى أن ارتفاع تكاليف المعيشة ورعاية الأطفال شكّل عاملاً حاسمًا في انسحاب كثير من النساء.

تقول الصحيفة إن الأمهات في الولايات المتحدة "يُتركن وحيدات في مواجهة الأسعار المتصاعدة"، إذ تضاعفت تكلفة حضانات الأطفال في بعض الولايات خلال السنوات الأخيرة، في حين لم تشهد الأجور النسائية نموًا مماثلًا.

تحمل هذه الظروف دلالات حقوقية مباشرة، فغياب الدعم المؤسسي لرعاية الأطفال يعني عمليًا انتهاك مبدأ تكافؤ الفرص في العمل.

وتُطالب منظمات العمل الدولية الدول الأعضاء بتوفير أنظمة رعاية عامة تمكّن العاملات من التوفيق بين الأدوار الأسرية والمهنية، لكن الواقع الأمريكي يكشف عن فجوة واسعة بين السياسات الرسمية ومتطلبات العدالة الاجتماعية.

التمييز الهيكلي

يُبرز هذا التحول في المشاركة النسائية أشكالًا جديدة من التمييز غير المباشر، فحين تؤدي سياسات تبدو محايدة -مثل العودة الإلزامية إلى المكتب- إلى نتائج تؤثر في النساء أكثر من الرجال، يصبح الأمر تمييزًا مؤسسيًا وفقًا لتعريف اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو).

ولم يعد التمييز قائمًا على النصوص أو التصريحات، بل على البنى التنظيمية التي تعيد إنتاج الفجوة الجندرية في توزيع الفرص والوظائف.

وتوضح "الإيكونوميست" أن القطاعات التي فقدت معظم الوظائف خلال العام الماضي -مثل البيع بالتجزئة والنقل والتصنيع- ليست نسائية في الأساس، بل يغلب عليها الطابع الذكوري.

بمعنى آخر، لم يكن الانسحاب النسائي نتيجة مباشرة لضعف القطاعات التي تعمل فيها النساء، بل نتاجًا لسياسات اجتماعية واقتصادية تدفع النساء خارج النظام الإنتاجي حين تتغير قواعد اللعبة المؤسسية.

وتسلط الإيكونوميست الضوء أيضًا على الجانب الثقافي للظاهرة، حيث تصعد موجة "الزوجات التقليديات" عبر منصة تيك توك، مروّجة لصورة مثالية للمرأة التي تتفرغ للمنزل وتتباهى برفضها للعمل.

ورغم أن هذه الظاهرة تبدو اختيارًا شخصيًا، فإن انتشارها يطرح سؤالًا جوهريًا حول حرية الاختيار في ظل الضغط الثقافي، حين يُعاد تقديم الأدوار التقليدية بوصفها "طبيعية" أو "مثالية"، تُختزل حرية النساء في أطر اجتماعية مسبقة تُضعف حقهن في تقرير مصيرهن المهني والاقتصادي.

يُعد الخطاب الذي يعيد تعريف دور المرأة في المجال العام مسألة تمسّ الحق في المساواة والتمكين، لأن الثقافة -شأنها شأن القانون- تُسهم في تشكيل مسارات الحرية أو تقييدها.

العودة الآمنة إلى العمل

تؤكد "واشنطن بوست" أن كثيرًا من النساء اللاتي غادرن سوق العمل مؤقتًا سيسعين للعودة بعد انتهاء إجازات الأمومة أو استقرار أوضاع الأسرة.

لكن السؤال الحقوقي الذي يطرح نفسه هو: هل ستتوفر لهن فرص متكافئة عند العودة؟ فغياب سياسات مؤسسية مرنة قد يجعل العودة أصعب، ولا سيما مع استمرار بعض الشركات في تقليص ساعات العمل المرن أو رفض العمل الهجين.

من منظور العدالة الاقتصادية، يُعد ضمان العودة الآمنة إلى العمل التزامًا على الدولة وأصحاب العمل، لأنه يمسّ مبدأ المساواة في الفرص والأجور، كما ورد في اتفاقيات منظمة العمل الدولية.

تعيد هذه الموجة من الانسحاب النسائي فتح النقاش حول الفجوة بين الالتزامات الحقوقية والواقع الاقتصادي في الولايات المتحدة، فرغم أن القوانين الأمريكية تحظر التمييز بين الجنسين في الأجور والتوظيف، فإن التطبيق العملي ما زال يسمح بهوامش واسعة من التفاوت.

وتُظهر الأرقام أن النساء ما زلن يتقاضين أجورًا أقل بنسبة تتراوح بين 15 و20% من الرجال في القطاعات ذاتها، في حين يتحملن أعباءً غير مدفوعة الأجر في الرعاية المنزلية تفوق ما يتحمله الرجال بثلاثة أضعاف.

وينبّه الخبراء إلى أن تراجع مشاركة النساء لا يؤثر فقط في التوازن الاجتماعي، بل في الحق الجماعي في التنمية، فكلما تراجعت الإسهامات النسائية في القوى العاملة، تراجع الناتج الاقتصادي العام، وانكمشت العدالة في توزيع الثروة والإنتاج.

وتوضح "نيوزويك" أن الاقتصاد الأمريكي الذي استفاد لعقود من صعود النساء إلى سوق العمل قد يواجه تباطؤًا طويل المدى إن استمر هذا الاتجاه.

 

 

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية