بين العلم والسياسة.. كيف حاصرت حرب غزة الأكاديميون الإسرائيليون دولياً؟

بين العلم والسياسة.. كيف حاصرت حرب غزة الأكاديميون الإسرائيليون دولياً؟
احتجاجات مؤيدة لفلسطين ورافضة للحرب بين طلبة الجامعات- أرشيف

يواجه الأكاديميون والجامعات الإسرائيلية عزلة متزايدة وغير مسبوقة في الأوساط العلمية حول العالم، خصوصاً في أوروبا، حيث تتزايد المقاطعات الأكاديمية والمؤسسية رغم إعلان وقف إطلاق النار الأخير في غزة.

وفي تقرير لها أشارت صحيفة "نيويورك تايمز" إلى حادثة استثنائية تضمنت تلقي 23 باحثاً إسرائيلياً دعوة للمشاركة في مؤتمر علمي أوروبي بشرط إخفاء انتمائهم المهني، ما أثار غضب المجلس الإسرائيلي للآثار واعتبره شكلاً من "غسل الضمير الأوروبي".

ورغم تراجع الجمعية عن القرار لاحقاً، فإن هذه الواقعة كشفت حجم التحول في المزاج الأكاديمي الأوروبي تجاه إسرائيل منذ اندلاع الحرب على غزة قبل عامين.

المقاطعات الأكاديمية الأوروبية

أوضحت الصحيفة أن جامعات في بلجيكا وهولندا وإسبانيا وإيطاليا تقود حملة لمقاطعة المؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية، متذرعة باتهامات الإبادة الجماعية التي وجهتها لجنة أممية ومنظمات حقوقية إلى إسرائيل، وبالفعل، أعلنت جامعات مثل غِنت وأمستردام وقف جميع التعاون مع الجامعات الإسرائيلية، معتبرة أن "السكوت لم يعد ممكناً"، مع الحفاظ على قنوات التواصل مع الباحثين الأفراد.

وفق إحصاءات فريق حكومي إسرائيلي، تم توثيق أكثر من ألف حالة مقاطعة تشمل إنهاء برامج التبادل ووقف المنح البحثية، بينما أشار التقرير إلى أن نحو خمسين جامعة أوروبية أنهت تعاونها كلياً أو جزئياً مع مؤسسات إسرائيلية، وهذا التصعيد يعكس تحولاً في السياسات الأكاديمية الأوروبية، إذ بدأت الجامعات تتخذ مواقف مباشرة ضد المؤسسات التي تُرتبط بسياسات إسرائيل العسكرية في غزة.

يؤكد الأكاديميون الإسرائيليون أن المقاطعة تستهدف نزع الشرعية عن إسرائيل أكثر من كونها تعبيراً عن تضامن إنساني، مشيرين إلى استقلال الجامعات الإسرائيلية عن الحكومة، وأن كثيراً منها انتقد سياسات رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو العسكرية في غزة، ومع ذلك، يوضح التقرير أن المقاطعة الأوروبية لا تضر باليهود الإسرائيليين وحدهم، بل تشمل أيضاً الطلاب والباحثين العرب الإسرائيليين، الذين يشكلون نحو خمسة في المئة من طلاب الجامعات في إسرائيل، واصفاً رئيس جامعة بن غوريون المقاطعة بأنها مؤلمة لأنها جاءت كعقاب جماعي بعد هجمات السابع من أكتوبر 2023، التي فقدت فيها جامعته عشرات الطلبة والأساتذة.

ردود الأفعال المحلية والدولية

تباينت ردود الأفعال على المقاطعات الأكاديمية، ففي داخل إسرائيل، أعربت وزارة التعليم العالي عن قلقها من تراجع مكانة البحث العلمي على الساحة الدولية، معتبرة أن هذه المقاطعات تمثل تهديداً للمشاريع البحثية المشتركة والعلاقات الأكاديمية الطويلة الأمد، على الصعيد الدولي، أصدرت منظمات حقوقية محلية ودولية بيانات أكدت على أن المقاطعة يجب أن تلتزم بالقانون الدولي وحقوق الإنسان، مع تحذير من أثرها على حرية البحث العلمي، لكنها دعت في الوقت ذاته إلى مساءلة إسرائيل عن انتهاكات حقوق الإنسان في غزة، بما يشمل تقارير من مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان ولجنة التحقيق الدولية.

كما أصدرت منظمة العفو الدولية و"هيومن رايتس ووتش" تصريحات أكدت أن مقاطعة المؤسسات الأكاديمية يجب أن تركز على السياسات وليس على الأفراد، مشيرة إلى ضرورة التمييز بين الأكاديميين الذين يمارسون البحث العلمي والهيئات الحكومية أو العسكرية المرتبطة بصراعات، بينما دعت الأمم المتحدة إلى احترام حرية التعليم والبحث العلمي، مؤكدة أن أي مقاطعة لا يجب أن تفضي إلى حرمان الطلاب أو الباحثين من فرص التعلم والتعاون الدولي.

انعكاسات على البحث العلمي

تشير تحليلات إلى أن المقاطعة الأوروبية بدأت تؤثر على مجالات عدة، أبرزها تبادل المنشورات العلمية، المشاريع المشتركة في مجالات التكنولوجيا والهندسة والطب، وبرامج المنح والمنح الدراسية، ويشير التقرير إلى أن بعض الجامعات الأوروبية أوقفت تمويل مشاريع بحثية مشتركة مع مؤسسات إسرائيلية، ما أدى إلى تأجيل أو إلغاء برامج مهمة، بينما استمر التعاون مع الباحثين الأفراد كاستثناء، وهو ما يعكس محاولة الحفاظ على حوار علمي مفتوح رغم المقاطعات المؤسسية.

وفي الولايات المتحدة، لم تتخذ مؤسسات أكاديمية قرارات مماثلة على مستوى المؤسسات، لكنها شهدت احتجاجات طلابية واسعة عام 2024 ضد الحرب في غزة، فيما ظل ضغط الحكومة على الجامعات لمنع أي موقف يُنظر إليه على أنه معادٍ لإسرائيل عاملاً مؤثراً في صياغة السياسات الجامعية.

يعود التأثير الدولي على الجامعات الإسرائيلية إلى سلسلة من الأحداث التاريخية والسياسية، أبرزها النزاعات المستمرة في غزة منذ عام 2008، وعمليات الجيش الإسرائيلي في القطاع، وما رافقها من انتقادات دولية متكررة بشأن حقوق الإنسان، وقد حافظت إسرائيل على مكانة قوية في العلوم والبحث منذ تأسيس الدولة عام 1948، حيث تصدرت دولاً عدة في مجالات التكنولوجيا والطب والهندسة، ومع ذلك فإن الأزمة الحالية تمثل تحولاً نوعياً، إذ تمتد التداعيات من السياسة والدبلوماسية إلى قلب النظام الأكاديمي الإسرائيلي، ما يهدد ما يعرف بـ"القوة الناعمة" لإسرائيل، المتمثلة في البحث العلمي والابتكار.

استثناءات وحالات تعاون مستمرة

رغم المقاطعات، يظل التعاون الأكاديمي مع بعض الدول استثناءً لافتاً، خصوصاً ألمانيا، حيث استمر تبادل البحوث العلمية بين الجامعات الإسرائيلية والألمانية، في إطار تقليد المصالحة العلمية بعد الحرب العالمية الثانية، وهذا التعاون يعكس قدرة بعض المؤسسات على الفصل بين السياسة والأكاديميا، مع الحفاظ على قنوات التعاون البحثي والتبادل العلمي.

يؤكد التقرير أن المقاطعات الحالية تؤثر بشكل مباشر على الطلاب والباحثين الذين قد يجدون أنفسهم معزولين عن الشبكات الأكاديمية العالمية، ما يهدد مسارهم العلمي وفرص الابتكار والنشر، ويشير إلى أن استمرار هذه العزلة قد يؤدي إلى انخفاض في عدد الباحثين الشباب، وتأخر المشاريع البحثية الحيوية في مجالات التكنولوجيا الحيوية والطب والعلوم الطبيعية، كما حذرت منظمات حقوقية من أن المقاطعات قد تؤدي إلى "عقاب جماعي" يطول الأكاديميين بغض النظر عن مواقفهم الشخصية، وهو ما يمثل تحدياً أخلاقياً وإنسانياً على مستوى التعاون الدولي.

يعكس المشهد الحالي تراجع مكانة إسرائيل الأكاديمية والدبلوماسية على الساحة الدولية، إذ امتدت الانتقادات والاتهامات بانتهاكات غزة لتطول قلب منظومة البحث العلمي، أحد أهم مصادر قوتها الناعمة، وتمثل المقاطعات الأكاديمية الأوروبية تحركاً ملموساً على مستوى المؤسسات، في حين يظل المجتمع العلمي في الولايات المتحدة أكثر تحفظاً بسبب العوامل السياسية الداخلية.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية