مؤتمر الأطراف "كوب 30".. التكيّف شرط البقاء في مواجهة خطر التأجيل
مؤتمر الأطراف "كوب 30".. التكيّف شرط البقاء في مواجهة خطر التأجيل
يضع مؤتمر الأطراف الثلاثين (كوب30) العالم أمام اختبار حقيقي بين القانون والواقع، فبينما تتراكم النصوص والاتفاقيات والالتزامات حول خفض الانبعاثات وتحقيق العدالة المناخية، يكشف مسار السنوات الأخيرة أن المعركة لم تعد حول حماية الكوكب فحسب، بل حول ضمان حق الإنسان في البقاء ذاته.
في البرازيل، حيث ينعقد المؤتمر هذا العام، تتقاطع الأرقام والتحذيرات مع قصص البشر الذين يواجهون يوميًا تهديدًا متزايدًا للحياة والأمن والغذاء والسكن والصحة، في ظل مناخ يزداد قسوة وسرعة في التغير، وفقا لصحيفة "فايننشيال تايمز".
تكشف مدينة فينيكس الأمريكية، الواقعة في قلب صحراء سونوران، الوجه الأوضح لمعنى التكيّف القسري مع المناخ، حيث تسجل درجات الحرارة مستويات غير مسبوقة، متجاوزة 118 فهرنهايت هذا العام، بينما سجلت المدينة العام الماضي 113 يومًا متتاليًا بحرارة تفوق المئة، لم تعد فصول الصيف تُحتمل، ولم تعد الحياة اليومية تسير كما كانت.
تقول العمدة كيت جاليغو، لـ"فايننشيال تايمز" إن "الفصول الأخيرة كانت صعبة وطويلة"، وتروي كيف ذاب قرع الهالوين في أكتوبر الماضي بفعل حرارةٍ لا تعرف نهاية.
يُجسّد مشهد فينيكس تحوّل المناخ إلى أزمة حقوق إنسان بامتياز، فحق السكان في السكن الآمن والعمل والصحة أصبح مرتبطًا بقدرتهم على التكيف مع مناخ لم يصنعوه، ووراء كل رقم قياسي في درجات الحرارة، تظهر معاناة الفقراء والعاملين في الهواء الطلق والمسنين الذين لا يجدون مأوى مكيفًا، يترسخ هنا معنى "الحق في البقاء"، حين تصبح الحياة اليومية نفسها معركة ضد الحرارة.
تعثر جهود خفض الانبعاثات
تتصدر مسألة "التكيف" جدول أعمال مؤتمر الأطراف الثلاثين مع تعثر جهود خفض الانبعاثات، فبينما تتوالى الكوارث من فيضانات وأعاصير وحرائق، يتسابق قادة العالم على وضع مؤشرات تقيس المرونة أكثر مما تقيس الالتزام بالعدالة.
يقول سيمون ستيل، رئيس قسم تغير المناخ في الأمم المتحدة، للصحيفة البريطانية إن التكيف بات "ضروريًا لحماية المجتمعات والاقتصادات" ويضيف أن "سلاسل التوريد والغذاء والطاقة والرعاية الصحية تعتمد جميعها على القدرة على التكيّف".
لكن العدالة المناخية لا يمكن أن تُختزل في القدرة على التأقلم، فالتكيّف لا يعفي من المسؤولية القانونية والأخلاقية للدول الصناعية التي تسببت تاريخيًا في ارتفاع الانبعاثات، وبينما يزداد إنفاق العالم الغني على بناء السدود وأنظمة الإنذار المبكر، تظل الدول النامية تواجه وحدها الفيضانات والتصحر ونقص المياه، وهنا تتبدى الفجوة الحقوقية: من يملك الموارد يشتري الوقت، ومن لا يملك يواجه المصير.
تأجيل الخطر
يُعاد في مؤتمر الأطراف النقاش الأبدي حول التمويل، تُطالب الدول النامية بتعويضات عادلة، فيما تتحدث الدول المتقدمة عن شراكات واستثمارات.
تقول إنغر أندرسن، المديرة التنفيذية لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، إن "الواقع بسيط: إذا لم نستثمر في التكيّف الآن، فسنواجه تكاليف متصاعدة كل عام"، ومع ذلك، لا يتجاوز الإنفاق العالمي على التكيف 69 مليار دولار، وهو رقم ضئيل أمام الحاجة الفعلية التي تصل إلى 365 مليار دولار سنويًا بحلول 2035.
يتحوّل التمويل المناخي إلى سؤال أخلاقي، فهل يمكن أن يكون الحق في الحماية من آثار الكوارث خاضعًا لمن يدفع أكثر؟ تدفع المجتمعات الصغيرة في الجزر والمناطق الجافة الثمن الأكبر، بينما يناقش العالم في القاعات المكيفة من يستحق المساعدة، وهنا يتقاطع الحق في التنمية مع الحق في العدالة المناخية، حين يُصبح التمويل معيارًا للبقاء
تتحدث النصوص عن التزامات قانونية، وعن مبدأ "المسؤوليات المشتركة ولكن المتباينة"، وعن تعهدات خفض الانبعاثات التي وُقّعت في باريس وغلاسكو وشرم الشيخ، لكن الواقع لا يُنصف القانون، فوفقا لـ"فايننشيال تايمز" لم تُقدّم سوى 11 دولة متقدمة و67 دولة نامية خططًا وطنية للتكيّف، ومع ذلك، تستمر درجات الحرارة في الارتفاع، وتتسع فجوة التنفيذ بين الخطاب والممارسة.
يقول اللورد نيكولاس ستيرن إن "آثار المناخ تظهر أسرع مما توقعنا، وبحدةٍ أكبر"، وتؤكد البارونة براون أن "العالم لم يتكيف بعد مع تغيرات الطقس الحالية، فكيف بالغد القريب؟"، تتزايد الكوارث وتتكاثر الخسائر، ويتجاوز الضرر الاقتصادي 1.4 تريليون دولار سنويًا، فيما تغلق الشركات الصغيرة أبوابها بعد العواصف والفيضانات.
المدن في الصف الأول
تتقدم المدن الصفوف الأولى في مواجهة الخطر.. تستثمر فينيكس ملايين الدولارات في "الاستعداد للحرارة" عبر تشجير الشوارع وإنشاء مراكز تبريد عامة، وتزرع باريس وأثينا الأشجار لتخفيف أثر الجزر الحرارية، وتحوّل كوبنهاغن الحدائق إلى خزانات مؤقتة لمياه الأمطار، بينما تبني نيويورك دفاعات جديدة ضد العواصف.
تعكس هذه المبادرات وجهًا جديدًا للحق في المدينة، حيث تُعاد صياغة علاقة الإنسان بالمكان استجابةً لمناخ متغير، وتُظهر التجارب أن الاستدامة لم تعد ترفًا بيئيًا، بل واجبًا حقوقيًا مرتبطًا بحماية الأرواح، غير أن هذه الإجراءات تظل جزئية ومحدودة أمام التسارع الكارثي لتغير المناخ، كما تُحذّر الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالمناخ من "حدود التكيف"، مؤكدة أن كل جهد بلا خفض فعلي للانبعاثات سيصل حتمًا إلى سقف عجزه
يفتح التكيّف سوقًا جديدة للاستثمار، تتنافس الشركات على تطوير تقنيات مقاومة للكوارث، ومحاصيل تتحمل الجفاف، ومنتجات مالية جديدة مثل "سندات مرونة المناخ"، يُعيد هذا التحول السؤال الجوهري: هل يمكن تحويل الحق في الأمان البيئي إلى فرصة اقتصادية؟
بينما ترى بعض الحكومات أن التكيّف فرصة للنمو، كما تفعل إيطاليا في مشاريعها لحماية البندقية، يبقى جوهر القضية في غياب آلية مساءلة عادلة تضمن ألا تتحول الكوارث إلى أرباح. تُحذّر فريدريك أوتو من أن "المرونة دون تخفيض الانبعاثات ليست حلًا، بل تأجيل للمشكلة" ، فحين يُختزل التكيّف في الربح، تُفقد العدالة معناها، ويتحول الحق في البقاء إلى معادلة مالية.
في البرازيل، حيث ينعقد مؤتمر الأطراف الثلاثين، يتحدث كوريا دو لاغو عن "نتائج ملموسة بشأن التكيّف"، يصف نفسه بأنه غيّر رأيه بعد عقدين من حضور مؤتمرات المناخ، قائلاً: "ظننت أن التركيز على التكيّف هو استسلام، لكنني أدركت أنه النصف الأول من بقائنا".
القانون والعدالة المناخية
في يوليو 2025، أصدرت محكمة العدل الدولية قرارًا تاريخيًا أوضحت فيه أن جميع الدول مُلزمة بموجب القانون الدولي بمعالجة أزمة المناخ التي تسبب فيها الإنسان، والتي تُشكل "تهديدًا عاجلًا ووجوديًا" للبشرية، وفقا لصحيفة "الغارديان"، استند الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية إلى أحكام مئات الدعاوى القضائية المتعلقة بالمناخ عالميًا، وأضفى ثقلًا قانونيًا إضافيًا على قرارات محكمة البلدان الأمريكية لحقوق الإنسان والمحكمة الدولية لقانون البحار.
وأكدت المحكمة أن لكل شخص حقاً إنسانياً في بيئة "نظيفة وصحية ومستدامة"، وهو شرط أساسي للتمتع بالحقوق الأساسية كالحياة والصحة والغذاء والماء والسكن.
ووفقا للصحيفة البريطانية، يُصادق هذا الحكم على مطالبات التعويض عن الأضرار التي لحقت بأنظمة المناخ الداعمة للحياة من قِبل الدول والشركات التي تُلزمها قانونًا بتنظيمها، ويدعمها، لكنه يترك الأمر للمجتمعات أو الدول الفردية لطلب الإنصاف القانوني من خلال التقاضي.










