"فورين بوليسي": التاريخ يخبرنا بالسقوط الحتمي لإمبراطورية بوتين الروسية

"فورين بوليسي": التاريخ يخبرنا بالسقوط الحتمي لإمبراطورية بوتين الروسية
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

يعد الاتحاد الروسي نتاج انهيار الإمبراطورية السوفيتية، تماما كما كان الاتحاد السوفيتي نتاج انهيار الإمبراطورية الروسية، بالنظر إلى التاريخ الطويل للإمبراطوريات، ليس من المستغرب على الإطلاق أن روسيا اليوم قد شرعت في مشروع إعادة الإمبريالية، ومحاولة إعادة أكبر قدر ممكن من إمبراطوريتها السابقة، ومن غير المستغرب أيضا أن تفشل جهود روسيا، وفقا لمجلة "فورين بوليسي" الأمريكية.

تتحلل الغالبية العظمى من الإمبراطوريات التي تبدو مستقرة بمرور الوقت، وتعد الإمبراطوريتان البيزنطية والعثمانية مثالين مثاليين على هذه الديناميكية: فقد كل منهما المزيد والمزيد من الأراضي حتى كان كل ما تبقى من الأولى هو القسطنطينية الكبرى، ومن الأخيرة الأراضي التي أصبحت تركيا، ولم تحاول أي من الدولتين إعادة الإمبريالية.

وينطبق الشيء نفسه على الإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية في الخارج: انسحب البريطانيون من معظم ممتلكاتهم طواعية إلى حد ما ودون إطلاق الكثير من الطلقات، في حين حاول الهولنديون والفرنسيون والبرتغاليون والإسبان جاهدين التمسك لكنهم خسروا أمام حركات التحرر الوطني، وامتنع الجميع في وقت لاحق عن إعادة الإمبريالية.

تقع روسيا في فئة مختلفة وأكثر تقلبا من الانحدار الإمبريالي، في ذروة قوتها، تنهار بعض الإمبراطوريات فجأة وبشكل شامل، عادة نتيجة للكوارث التي تمزق الروابط الرسمية بين القلب والأطراف.

واجهت الإمبراطورية الروسية وألمانيا فيلهلمينا والاتحاد السوفيتي هذا المصير، وحتى لحظة الانهيار المفاجئ، كانت الروابط الهيكلية والمؤسسية بين القلب والأطراف لا تزال نابضة بالحياة.

والأهم من ذلك، ظلت الأيديولوجية الإمبريالية حية بعد الانهيار، ما أدى إلى محاولات من قبل نخب المركز الإمبراطوري لإعادة إنشاء كل أو أجزاء من إمبراطورياتهم السابقة، من ناحية أخرى، حاول النازيون استعادة أراضي ألمانيا المفقودة وبناء رايخ أكبر لكنهم فشلوا.

يعتمد نجاح أو فشل إعادة الإمبريالية بشكل عام على توازن القوى بين الدول الأساسية والأطراف وأي دول متدخلة، كان البلاشفة أقوى عسكريا واقتصاديا من معظم جيرانهم ويمكنهم إحياء الإمبراطورية الروسية، وواجه النازيون الكثير من المعارضين وفشلوا.

هنا، يشبه مسار روسيا ما بعد الاتحاد السوفيتي إلى حد كبير مسار ألمانيا ما بين الحربين: أعقب انهيار ألمانيا في عام 1918 والانهيار السوفيتي في عام 1991 حالة فوضى اقتصادية، ونزع الشرعية عن ديمقراطية جديدة، وتعبئة القوى الراديكالية، والتي بدورها أدت إلى ظهور زعيم قوي أعاد تنشيط الأيديولوجية الإمبريالية، ووعد باستعادة الإمبراطورية، وشرعت في ضم أجزاء وقطع من الإمبراطورية السابقة قبل شن حرب واسعة النطاق.

على الرغم من أن البولنديين كانوا يفتقرون إلى دولة مستقلة بعد آخر ثلاثة أقسام في عام 1795، فإن الأيديولوجية الإمبريالية للكومنولث البولندي الليتواني القديم ازدهرت، ما حفز النخب البولندية على محاولة إعادة تأسيس الكومنولث في العديد من التمردات الفاشلة في أواخر القرن الثامن عشر، بمجرد استعادة الاستقلال البولندي بعد الحرب العالمية الأولى، انطلقت الدولة الجديدة لاستعادة بعض الأراضي الإمبراطورية الليتوانية والبيلاروسية والأوكرانية سابقا.

تمتع البولنديون بدعم قوى الوفاق، وخاصة فرنسا، ونجحوا.. فقط هزيمة كارثية من قبل ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي أنهت أخيرا الأحلام الإمبراطورية البولندية.

تمزقت النمسا-المجر إلى أشلاء في هزيمة كارثية لكنها لم تحاول إعادة الإمبريالية مثل الحالات الأخرى في هذه الفئة، وكانت الإمبراطورية تتحلل بشكل لا رجعة فيه لمدة نصف قرن.

نجح المجريون -ولاحقا التشيك والبولنديون، بمساعدة الحركات الوطنية للقوميات المضطربة الأخرى- في جعل فيينا تنقل السلطة إليهم لدرجة أن كبار صانعي السياسة النمساويين المجريين ناقشوا تحويل الإمبراطورية إلى اتحاد من الدول شبه المستقلة.

قطعت الهزيمة في الحرب العالمية الأولى علاقات فيينا مع أطرافها، والتي سعى الكثير منها على الفور إلى الاستقلال، لم تبذل النمسا أي محاولة لإعادة الإمبريالية، لأنها كانت تفتقر إلى أيديولوجية إمبريالية خبيثة وجيش قوي واقتصاد قوي، كانت حكومتها أيضا في حالة من الفوضى.

وبالمثل، لم يكن لدى النخب المجرية خطط إمبريالية، وقصرت طموحاتها على الانتقام من الأراضي المجرية التي قدمها الحلفاء الغربيون إلى تشيكوسلوفاكيا ورومانيا والمملكة الجديدة للصرب والكروات والسلوفينيين.

بدأت مهنة روسيا كإمبراطورية -في أشكال روسيا الإمبراطورية والاتحاد السوفيتي والاتحاد الروسي- في القرن الـ14 مع التوسع المستمر لدوقية موسكو الكبرى، ووصلت إلى ذروتها الشمولية في القرن الـ20 مع إخضاع أوروبا الوسطى والشرقية، وذهبت إلى انخفاض حاد نحو عام 1990، عندما تحررت دول أوروبا الشرقية وأصبحت الجمهوريات السوفيتية غير الروسية مستقلة.

حتى في شكله المتضائل، فإن الاتحاد الروسي، أولا شبه ديمقراطي، ثم استبدادي، فاشي اليوم، هو وريث إمبراطورية داخلية واسعة، مع عشرات الشعوب غير الروسية المحتلة والمستعمرة التي لا تزال مسجونة داخل حدودها.

وليس من المستغرب أن تشبه الرسوم البيانية القطع المكافئ: الإمبراطوريات ترتفع وتستمر ثم تسقط، ومما لا يثير الدهشة أيضا أن الإمبراطوريات التي تمكنت من البقاء على قيد الحياة في مرحلة الثبات تستمر عموما لعدة قرون، وتلك التي تسقط بسرعة عادة ما تفعل ذلك بعد أن يتمتع مؤسسوها بنجاح عسكري سريع ثم يموتون، ما يلقي بالإمبراطورية الوليدة في أزمة، ويعد عالم الإسكندر الأكبر المترامي الأطراف وغير الموحد هو المثال الكلاسيكي لهذه الديناميكية.

انهارت الإمبراطورية الروسية قرب نهاية الحرب العالمية الأولى، فقط ليتم إحياؤها بسرعة من قبل البلاشفة، في المقابل، وصل الاتحاد السوفيتي إلى نهايته في عام 1991 ولم يتم إحياؤه بعد، وإن لم يكن بسبب عدم المحاولة.

تحتل القوات الروسية أجزاء من مولدوفا وجورجيا وبالطبع أوكرانيا، وفي الوقت نفسه، تم امتصاص بيلاروسيا تدريجيا إلى روسيا لدرجة أنها لا تزال موجودة اسميا ولكنها محرومة إلى حد كبير من السيادة، بعد أن تحولت إلى تقاطع بين دولة تابعة ومستعمرة.

والسؤال الذي يواجه الروس وجيرانهم والعالم هو ما إذا كانت مملكة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قادرة على النجاح في التمسك بالأراضي التي استولت عليها فعليا، وربما توسيعها، أم أن بقايا الإمبراطورية الروسية السوفييتية ستستمر في مسارها الهابط إلى أن يتصدع الاتحاد الروسي ذاته؟ إن إلقاء نظرة على العوامل التي تسببت في صعود وسقوط الإمبراطوريات الأخرى سيساعد في الإجابة عن هذا السؤال.

الشروط الضرورية لإعادة الإمبريالية هي جيش قوي واقتصاد قوي وحكومة فعالة، وتشمل الظروف الميسرة الروابط المؤسسية الموجودة مسبقا بين القلب الإمبريالي والأطراف، والقوى الخارجية التي إما غير مبالية أو متقبلة للتوسع الإمبريالي، والحكم الاستبدادي في الصميم، الدفعة الأخيرة للعمل هي أيديولوجية إمبريالية تحفز الرغبة في الإمبراطورية.

لكن ضع في اعتبارك ما سيحدث للإمبراطورية التي ستولد من جديد إذا لم يتم استيفاء الشروط الثلاثة الضرورية، حتى لو كانت العوامل المساعدة والأيديولوجية الإمبريالية موجودة، إذا تمت محاولة التوسع دون جيش قوي بما فيه الكفاية واقتصاد قادر على الحفاظ عليه، فإن النتيجة ستكون تجاوزا وفشلا.

وفي غياب حكومة فعالة، لا يمكن الحفاظ على الجهود المستمرة اللازمة للتوسع، ويصبح التوسع المفرط والهزيمة -وربما تغيير النظام أو انهيار الدولة- محتملا.

ستوضح بعض الأمثلة من التاريخ فشل روسيا الحتمي في إعادة الإمبريالية، لم تستوفِ روما الغربية الشروط الثلاثة، واضمحلت وانهارت أخيرا في مواجهة انخفاض الفعالية العسكرية، واقتصاد غير قادر على إنتاج فائض مستدام بينما يتعرض لهجمات بربرية مستمرة، وحكم غير فعال بشكل متزايد.

كان النصف الشرقي للإمبراطورية بعيدا عن طرق الغزو البربري الرئيسية، ولكن كانت هناك أسباب أخرى لبقائها لمدة 1000 عام أخرى.

باستثناء استعادة الإمبراطور البيزنطي جستنيان لمناطق كبيرة في القرن السادس -الأراضي التي فقدت بسرعة مرة أخرى بعد وفاته- امتنعت الإمبراطورية الشرقية عن محاولة الوصول إلى حدودها القديمة، وكان ذلك سيتطلب مواجهة خصوم أقوى عسكريا، بمن في ذلك العرب والأتراك السلاجقة والبلغار والروس. 

ولا يقل أهمية عن ذلك، أن بيزنطة كانت مدمرة باستمرار بسبب الصراعات الداخلية على السلطة وتفتقر إلى أيديولوجية إمبريالية عدوانية، مفضلة أن ترى نفسها حاملة المسيحية الأرثوذكسية، لذلك أدارت بيزنطة ممتلكاتها المتبقية وامتنعت في الغالب عن التجاوز، نتيجة لذلك، استغرق انخفاضها عدة قرون.

امتنعت تركيا ما بعد العثمانية عن إعادة الإمبريالية لأن أيديولوجيتها تحولت من الولاء للإمبراطورية إلى الولاء للدولة القومية، قام كمال أتاتورك بتطهير عرقي لآسيا الصغرى من السكان اليونانيين، لكنه تجنب توسيع حدود تركيا لتشمل اليونان، وركز بدلا من ذلك على نقل الأتراك من الإمبراطورية السابقة إلى البلد الجديد، كما طوقت قوى خارجية قوية في الدولة الجديدة.

تشترك جميع القوى الاستعمارية الأوروبية في الخارج في أيديولوجية إمبريالية أثناء توسعها، لكنها تخلت عنها لأنها واجهت نقاط ضعفها العسكرية والاقتصادية في أعقاب حربين عالميتين، ونضالات التحرير الوطني، وإدانة المجتمع الدولي المتزايدة، لم يتخلوا جميعا عن إمبراطورياتهم دون قتال، لكنهم لم يحاولوا إحياءها.

احتفظت ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى بالأيديولوجية الإمبراطورية العدوانية التي حفزت سياسات الإمبراطور فيلهلم الثاني التوسعية، وعلى الرغم من الانهيار الاقتصادي بعد الحرب، انتعش الاقتصاد بسرعة بعد أن تولى النازيون السلطة في عام 1933.. أعاد أدولف هتلر إحياء الجيش وأنشأ حكومة قوية، مع وجود الظروف والأيديولوجية اللازمة، شرعت ألمانيا النازية بشكل غير مفاجئ في إعادة الإمبريالية.

كان من الممكن أن تنجح لو حصر هتلر طموحاته في مساحات شاسعة من أوروبا سيطر عليها بحلول عام 1941… بعد غزو الاتحاد السوفيتي وإعلان الحرب على الولايات المتحدة، خلق اختلالا في توازن القوى جعل الهزيمة حتمية.

مثل ألمانيا النازية، سيفشل الاتحاد الروسي في إعادة الإمبريالية، فجيشها متواضع بشكل واضح، واقتصادها كبير مثل اقتصاد إيطاليا أو تكساس، وأصبح حكمها غير فعال وغير مستقر على نحو متزايد مع بدء النخب في التنافس على السلطة في ما يعتبرونه حقبة ما بعد بوتين التي تقترب بسرعة، وقد يكون المستقبل القريب أسوأ، خاصة إذا ظل النظام يسترشد بأهواء مستبد واحد واستمر في تثبيط الابتكار التكنولوجي والنمو الاقتصادي.

باختصار، لقد ماتت طموحات روسيا الإمبريالية، حتى ولو كان الكرملين يعتقد خلاف ذلك، والرجل الذي أشرف على تدميرها هو بوتين.

ماذا يتعين على الغرب أن يفعل؟ بما أن مشروع إعادة الإمبريالية للاتحاد الروسي محكوم عليه بالفشل، فإن كل ما يمكن لأي شخص القيام به بشكل واقعي هو إطالة أمد العملية أو تسريعها، وليس إيقافها، إن إطالة أمدها يعني إطالة أمد البؤس الذي يعاني منه غير الروس المستهدفين بإعادة الضم والروس المكلفين بجلب البؤس إلى هذه الأهداف.. أي شيء يعجل بالنهاية الحتمية لإعادة الإمبريالية من شأنه أن يقلل من الموت والدمار.

على وجه التحديد، لأن تاريخ الإمبراطوريات يقودنا إلى توقع زوال الإمبريالية الروسية، فمن المنطقي أن يأخذ الغرب صفحة من الفيلسوف كارل ماركس و"يعجل بآلام ولادة التاريخ".

ولحسن حظ الغرب، الذي تستحوذ الأزمة في الشرق الأوسط على اهتمامه حاليا، فإن الولايات المتحدة وحلفاءها لا يحتاجون إلّا إلى القيام بأكثر قليلا مما يفعلونه بالفعل: دعم أوكرانيا في تحرير أراضيها من الاحتلال الروسي من خلال تزويدها بالأسلحة التي تحتاج إليها، عاجلا وليس آجلا إذا استمر الغرب في إبطاء عمليات التسليم العسكرية -أو حتى تقليلها- فلن يؤدي ذلك إلّا إلى إطالة أمد عملية لا مفر منها وزيادة المعاناة.. وفي كلتا الحالتين، فإن إعادة الإمبريالية الروسية محكوم عليها بالفشل.

بما أن بوتين قد ألقى بكل موارده ورأس ماله السياسي في الحرب ضد أوكرانيا، فإن إيقافه هناك يعني إيقافه ومشروع إعادة الإمبريالية في كل مكان.

وبقدر ما ستحفز الهزيمة البعض في النخبة الروسية وعامة السكان على إعادة النظر في مسائل الإمبراطورية، فليس هناك -للأسف- أي سبب للاعتقاد بأن أيديولوجية روسيا الإمبريالية ستواجه نهاية سريعة.

 بدلا من ذلك، سيكون الاضمحلال طويل الأجل هو الذي يضمن هذه النتيجة، لن تصبح روسيا دولة قومية طبيعية وغير إمبريالية إلا إذا استمرت في فقدان الأراضي التي احتلتها، وليس فقط في أوكرانيا، وهو احتمال يبدو ممكنا تماما إذا خسرت روسيا في أوكرانيا، وانهار نظام بوتين، وقررت جورجيا ومولدوفا وبيلاروسيا وحتى بعض الشعوب غير الروسية في الاتحاد الروسي الهروب من الفوضى الناتجة عن ذلك عن طريق استعادة أراضيها المحتلة أو قطع العلاقات مع موسكو.

في غياب الهزيمة، ستبقى روسيا الضعيفة عسكريا واقتصاديا وسيئة الحكم خاضعة للأيديولوجية والمحاولة، مرة أخرى، لإعادة الإمبريالية، كل ذلك ولكن بالتأكيد مع النتائج نفسها: الفشل والموت والدمار.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية