المدنيون في النزاعات المسلحة بين مطرقة الصراع وسندان الإهمال

المدنيون في النزاعات المسلحة بين مطرقة الصراع وسندان الإهمال

في قلب المعارك وأزيز الرصاص، يتحول المدنيون إلى وقود للنزاعات المسلحة، كأنهم شموع تحترق لتضيء لغيرها، بينما تغرق هي في الظلام.

عام 2023 شهد تفاقماً مريعاً لهذه المأساة، حيث وصفت مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، جويس مسويا، وضع المدنيين بأنه "رهيب للغاية، فقد سجلت وفاة أكثر من 33 ألف مدني في الصراعات المسلحة على مدار العام الماضي، وفقاً للأمم المتحدة.

هذا الرقم الهائل، كما وصفته مسويا، لا يعبر عن الحقيقة كاملة، الأعداد الفعلية قد تكون أعلى بكثير، ما يشير إلى زيادة مروعة بنسبة 72% مقارنة بالعام السابق، هذه الزيادة المخيفة جاءت كنتيجة مباشرة لهجمات شرسة في مناطق مثل إسرائيل وغزة والسودان، حيث لم تقتصر الخسائر على الأرواح فقط، بل تجاوزتها إلى دمار شامل للبنية التحتية ونزوح الملايين من مساكنهم. 

المعاناة التي تكبدها المدنيون المتضررون من النزاعات في عام 2023 تؤكد بصورة مقلقة عدم الامتثال للقانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان. 

تصريحات مسويا جاءت خلال جلسة لمجلس الأمن بشأن حماية المدنيين في النزاعات المسلحة، بمناسبة مرور 25 عاماً على تبني قرار مجلس الأمن رقم 1265 لعام 1999، الذي يهدف إلى حماية المدنيين في الصراعات المسلحة، وكان 2023 عاماً مليئاً بالفظائع، من بينها الهجوم الذي شنته حماس والجماعات الفلسطينية المسلحة على إسرائيل في 7 أكتوبر، والرد العسكري الإسرائيلي المكثف في غزة، الذي أدى إلى موت ودمار ومعاناة بحجم لم يسبق له مثيل في الماضي القريب. 

كما شهد السودان صراعاً وحشياً أودى بحياة عشرات الآلاف من المدنيين، وأدى إلى جرح ونزوح الملايين، مع تفاقم انعدام الأمن الغذائي الحاد.  

ولم يكن استخدام الأسلحة المتفجرة في المناطق المأهولة بالسكان أقل تأثيراً، هذه الأسلحة تسببت في دمار واسع النطاق للبنية التحتية الحيوية، ما زاد من معاناة المدنيين الذين كانوا بالفعل يعانون من آثار النزاعات، والتهجير القسري أصبح سمة مميزة لهذه النزاعات، تاركاً وراءه آثاراً طويلة الأمد على المجتمعات المتضررة.  

تؤكد مسويا أن الضرر والمعاناة اللذين لحقا بالمدنيين في 2023 يشيران إلى أن قرارات مجلس الأمن المتعلقة بحماية المدنيين خلال السنوات الخمس والعشرين الماضية لم يتم الاهتمام بها إلى حد كبير، وأننا بحاجة إلى نهج أكثر شمولية يأخذ في الاعتبار منظور المدنيين والطبيعة المعقدة والتراكمية وطويلة الأجل لكل الأضرار التي تلحق بهم. 

ووفقاً للبيانات، فإن أكثر من 33 ألف مدني فقدوا حياتهم في النزاعات المسلحة في عام 2023، هذه الخسائر البشرية الفادحة تأتي على خلفية انتهاكات متكررة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وإن عدم الامتثال لهذه القوانين يؤدي إلى تصاعد وتيرة العنف وتفاقم الأزمة الإنسانية، ما يضع المدنيين في مواقف لا يحسدون عليها، بين مطرقة الصراع وسندان الإهمال الدولي. 

وتؤكد تقارير الأمم المتحدة والمراقبين الدوليين أن الحلول الحقيقية تكمن في الالتزام الجاد بتطبيق قوانين حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، وأن عدم الالتزام بهذه القوانين يعمق جراح النزاعات ويطيل أمدها، ما يضاعف معاناة المدنيين ويزيد أعداد الضحايا. 

المدنيون في مناطق النزاعات.. مشهد لم يغب عنه الغرب وأمريكا | القاهرة  الاخبارية

أسباب وتداعيات 

وقال خبير القانون الدولي نبيل حلمي: تعتبر حماية المدنيين في النزاعات المسلحة من المبادئ الأساسية للقانون الدولي الإنساني، ومع ذلك يشهد الواقع الميداني ترديًا ملحوظًا في أوضاع المدنيين، ما يؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من القتلى والجرحى، ويشير القانون الدولي الإنساني إلى ضرورة التمييز بين الأهداف العسكرية والمدنيين، ومع ذلك تواصل بعض الأطراف المتحاربة استهداف المدنيين بشكل متعمد لتحقيق أهداف سياسية أو عسكرية، وتقرير منظمة العفو الدولية لعام 2023 يوثق حالات متعددة في سوريا واليمن وليبيا، حيث تم استهداف المدارس والمستشفيات والأسواق. 

وتابع حلمي في تصريحات لـ"جسور بوست": أيضًا هناك استخدام للأسلحة المحظورة، مثل الأسلحة الكيميائية والبيولوجية، أسفر عن وقوع مئات الضحايا المدنيين، وأفادت منظمة حظر الأسلحة الكيميائية بوجود حالات موثقة لاستخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا، كذلك تستخدم الذخائر العنقودية في مناطق مكتظة بالسكان، وتبقى قنابلها غير المنفجرة كألغام أرضية تهدد حياة المدنيين لفترات طويلة بعد انتهاء النزاع.. وتقرير هيومن رايتس ووتش لعام 2022 يؤكد انتشار استخدام هذه الذخائر في أوكرانيا واليمن. 

ولفت الخبير القانوني إلى أن العمليات العسكرية في المناطق الحضرية تؤدي إلى ارتفاع عدد الضحايا المدنيين، حيث تزداد صعوبة التمييز بين المقاتلين والمدنيين، كذلك الحصار واستخدام التجويع كسلاح يؤديان إلى نقص حاد في الغذاء والدواء والخدمات الأساسية، والهجمات على البنية التحتية المدنية، مثل محطات المياه والكهرباء، تؤدي إلى تدهور الأوضاع المعيشية وزيادة معاناة المدنيين، فمنظمة الصحة العالمية وثقت في تقريرها لعام 2023 تدمير 60% من المنشآت الصحية في اليمن، ما زاد من انتشار الأمراض والأوبئة، ولا ننسى استخدام العنف الجنسي كسلاح حرب يُستخدم لإرهاب وإذلال المجتمعات المحلية، حيث تُرتكب هذه الجرائم بشكل منهجي. 

 نبيل حلمي

وأتم: يتعين على جميع الأطراف المتحاربة الالتزام الصارم بقواعد القانون الدولي الإنساني، بما في ذلك التمييز بين المدنيين والمقاتلين وحظر استخدام الأسلحة المحظورة، ويجب على المجتمع الدولي تعزيز آليات حماية المدنيين، بما في ذلك نشر قوات حفظ السلام وتفعيل أنظمة الإنذار المبكر لتفادي الهجمات على المدنيين. 

ليسوا مجرد أرقام

وبدوره، قال الحقوقي الفلسطيني محمود الحنفي: المدنيون في النزاعات المسلحة ليسوا مجرد أرقام في التقارير، بل هم أفراد لهم حقوق وآمال وطموحات، إن فشل المجتمع الدولي في حمايتهم ليس مجرد إخفاق سياسي، بل هو مأساة إنسانية تستدعي من الجميع وقفة جادة للتأمل والعمل على تغيير الواقع نحو مستقبل أكثر إنسانية وعدلاً.

وتابع في تصريحاته لـ"جسور بوست": ينبغي تسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة من النزاع وضمان توزيعها بشكل عادل دون تمييز، كذلك تعزيز آليات المحاسبة والمساءلة لملاحقة مرتكبي الجرائم ضد المدنيين وتقديمهم للعدالة، من خلال التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية والهيئات القضائية الدولية الأخرى. 

وأضاف: تردي وضع المدنيين وقتلهم في النزاعات المسلحة يمثل انتهاكًا صارخًا لحقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، ويتطلب الأمر تضافر الجهود الدولية والمحلية لضمان حماية المدنيين ومعاقبة المسؤولين عن الجرائم المرتكبة ضدهم، من خلال الالتزام بتطبيق القانون وتعزيز آليات الحماية، يمكننا الحد من معاناة المدنيين وتوفير بيئة أكثر أمانًا للعيش.

مدينة القدس - المؤسسة الفلسطينية لحقوق الإنسان (شاهد) – جهدٌ حقوقي لنصرة  القدس وفلسطين

محمود الحنفي

كيف نحمي المدنيين في النزاعات؟

بدورها، قالت الحقوقية الكويتية مها برجس: تعتبر حماية المدنيين في الصراعات المسلحة من القضايا الحيوية التي تشغل اهتمام المجتمع الدولي، وتتعرض العديد من المجتمعات لمخاطر جسيمة نتيجة النزاعات المسلحة، ما يستدعي وضع استراتيجيات وآليات فعالة لحماية المدنيين وضمان سلامتهم، وتعد اتفاقيات جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية لها الركيزة الأساسية للقانون الدولي الإنساني، وتتضمن هذه الاتفاقيات مجموعة من القواعد التي تهدف إلى حماية الأشخاص غير المشاركين في القتال، مثل المدنيين والجرحى وأسرى الحرب، لافتة إلى أن القانون الدولي لحقوق الإنسان يشتمل على معاهدات واتفاقيات تضمن حقوق المدنيين الأساسية، مثل العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. 

وتابعت في تصريحات لـ"جسور بوست": تأسست محكمة الجنايات الدولية لمحاسبة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية، وهي تلعب دوراً مهماً في تعزيز المساءلة والردع، ويعد الرصد المستمر للنزاعات والتدخل الدبلوماسي السريع من أهم الإجراءات الوقائية، ويمكن للمجتمع الدولي، من خلال الأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية، أن يمارس ضغوطاً على الأطراف المتنازعة لوقف العنف واحترام القانون الدولي الإنساني، كذلك إقامة ممرات إنسانية ومناطق آمنة يمكن أن توفر للمدنيين ملاذاً مؤقتاً من القتال، وبالطبع تتطلب هذه الإجراءات تعاوناً وتنسيقاً دقيقاً بين الأطراف المتنازعة والمنظمات الدولية. 

واستطردت: يمكننا أيضًا تدريب القوات المسلحة والمجموعات المسلحة على القانون الدولي الإنساني ما يمكن أن يسهم في تقليل الانتهاكات ضد المدنيين، ويمكن للمنظمات الدولية تقديم برامج تدريبية لهذا الغرض، وتلعب المنظمات الدولية مثل اللجنة الدولية للصليب الأحمر والأمم المتحدة دوراً حيوياً في تقديم المساعدة الإنسانية والرعاية الطبية للمدنيين المتضررين، كما تعمل هذه المنظمات على توثيق الانتهاكات والمساهمة في الجهود الدبلوماسية لحل النزاعات، ويعتبر المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية شركاء أساسيين في حماية المدنيين، حيث تقوم بتقديم المساعدة المباشرة، وتوثيق الانتهاكات، ورفع الوعي حول حقوق الإنسان.  

وأردفت: غالباً ما يكون الوصول إلى المناطق المتضررة من النزاعات المسلحة صعبا بسبب القتال العنيف أو القيود التي تفرضها الأطراف المتنازعة، وهذا يعيق تقديم المساعدة الإنسانية الضرورية، في بعض النزاعات يتم استهداف المدنيين كوسيلة لتحقيق أهداف عسكرية أو سياسية، ما يزيد من تعقيد الجهود الرامية لحمايتهم، وتواجه جهود حماية المدنيين نقصاً في التمويل والموارد، ما يحد من قدرة المنظمات على تنفيذ برامجها بفاعلية، أيضًا تعزيز التعاون بين الدول والمنظمات الدولية يمكن أن يسهم في تحسين حماية المدنيين، يشمل هذا التعاون تبادل المعلومات، وتنسيق الجهود الإنسانية، وتقديم الدعم المالي والفني، وتعزيز آليات المساءلة لمحاسبة مرتكبي الانتهاكات ضد المدنيين يمكن أن يشكل رادعاً فعالاً... يشمل ذلك دعم محكمة الجنايات الدولية والأنظمة القضائية الوطنية. 

ديوان حقوق الإنسان» مهنئا مها البرجس: انتخابها في إدارة «الصليب الأحمر  والهلال الأحمر» ترجمة لمساهمات الكويت الإنسانية - الراي

 مها برجس

وأتمت: تشجيع مشاركة المجتمعات المحلية في جهود حماية المدنيين يمكن أن يعزز فاعلية هذه الجهود، ويمكن تحقيق ذلك من خلال بناء القدرات المحلية وتوفير الدعم اللازم للمبادرات المجتمعية، وبشكل عام تتطلب حماية المدنيين في الصراعات المسلحة جهوداً منسقة ومتعددة الأبعاد من قبل المجتمع الدولي، والحكومات، والمنظمات غير الحكومية والمجتمعات المحلية. 

ومن خلال الالتزام بالقانون الدولي، وتعزيز التعاون والمساءلة، يمكننا العمل نحو توفير بيئة أكثر أماناً للمدنيين المتضررين من النزاعات المسلحة.


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية