صدام بين ادعاء التنوير ودعوات التخوين.. لماذا أثار مركز تكوين كل هذا الجدل؟

صدام بين ادعاء التنوير ودعوات التخوين.. لماذا أثار مركز تكوين كل هذا الجدل؟

دور الدولة المصرية في صراع مركز تكوين بين الحياد والتدخل

هل يمكن تحقيق توازن بين حرية الفكر واحترام الثوابت الدينية في مجتمع متنوع؟

الصراع الفكري في مصر ليس مجرد معركة عابرة بل هو جزء من حوار طويل ومتجدد

أكاديمية بجامعة الأزهر: حرية التعبير المسؤولة يتم احترامها وحمايتها ومواجهة الفكر تكون بالفكر 

باحث إسلامي: حرية الفكر لا تعني الإساءة إلى المعتقدات الدينية أو الاستخفاف بها

 

في عالم تكتنفه الصراعات الفكرية وتتصارع فيه الأيديولوجيات، يظهر مركز "تكوين" كجوهرة براقة في ظاهرها، مثيرة للجدل ومشكوك في أهدافها في جوهرها. 

أُعلن عن المركز مؤخرًا في حفل باذخ أقيم في المتحف المصري الجديد، للدلالة على نيله القبول من الدولة المصرية، وكان الهدف المعلن للمركز هو تعزيز الفكر الحر وتشجيع النقاش المفتوح في المجتمع العربي. 

ومع ذلك، لم يكن استقبال المركز من قبل الجمهور على قدر التوقعات، بل واجه موجة عارمة من الانتقادات والرفض حتى تخلى عنه الدعم الرسمي متمثلًا في بيان أصدره الشيخ أسامة الأزهري مستشار الرئيس. 

ومع تنصل الدولة المصرية من دعمه واستمرار الجدل، يبقى السؤال الأهم: هل يمكن تحقيق توازن بين حرية الفكر واحترام الثوابت الدينية في مجتمع معقد ومتنوع مثل المجتمع المصري؟ هذا السؤال يبقى مفتوحًا، بانتظار أن يجيب عليه الزمن والتجارب القادمة.

ما الأزمة وأين المشكلة؟

تتلخص أزمة المركز، وفقًا للمنتقدين، في تكوينه لا في أهدافه، فمجلس أمنائه يتألف من 6 أسماء معروفة بإثارتها للجدل: الإعلامي إبراهيم عيسى، وإسلام بحيري، والدكتور يوسف زيدان، والكاتبة التونسية ألفة يوسف، والباحث السوري فراس السواح، والباحثة اللبنانية نايلة أبي نادر.

شخصيات مثيرة للجدل

هذه الأسماء لم تأتِ من فراغ، فقد عُرف كل منهم بمواقف وتصريحات هزت الرأي العام. إبراهيم عيسى سخر من قراءة صيدلي للقرآن في محل عمله، وألفة يوسف انتقدت شعيرة الأضحية باعتبارها غير إنسانية، فيما وصف يوسف زيدان نفسه بأنه أهم من عميد الأدب العربي طه حسين. 

هذه التصريحات أثارت استياءً واسعًا وجعلت المركز يبدو وكأنه منصة لمهاجمة الثوابت الدينية والثقافية للمجتمع.

 ردود الفعل الشعبية والرسمية

 جاءت ردود الفعل الشعبية كطوفان جارف، تجسدت في وسم "أغلقوا مركز تكوين" الذي تصدر مواقع التواصل الاجتماعي، وعلى الصعيد الرسمي، أعرب علاء مبارك، نجل الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك، عن اعتراضه على مواقف أعضاء المركز، متسائلاً في تغريدة عن سبب وجود زجاجة خمر أمام صورة الأعضاء. 

كما تقدم عضو مجلس النواب هشام الجاهل بطلب إحاطة موجه لمجلس الوزراء ومشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء، مؤكداً أن تأسيس هذا المركز يعد إضفاءً لمشروعية مجموعة معروفة بتشكيكها في الثوابت الدينية. 

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد قدم محام بلاغًا للنيابة العامة ضد مجلس أمناء المركز، معتبرًا إياه مركزًا مشبوها يستهدف "ثوابت الإسلام". 

وفي خطوة تعكس مدى الجدل الذي أثاره المركز، أصدر الشيخ أسامة الأزهري، المستشار الديني لرئيس الجمهورية وأحد كبار شيوخ الأزهر، بيانًا دعا فيه إلى عقد مناظرة كبرى مع جميع أعضاء "مركز تكوين".

بيان أسامة الأزهري 

في بيانه، قال الأزهري إنه يعفي المؤسسة الأزهرية من خوض هذا الجدل، حتى تظل في مسارها الكريم دينيًا ووطنيا وعلميًا وإنسانيًا، لكنه سيقوم بالتصدي وحده لكل هذا الجدل بصفته أحد أبناء الأزهر. 

هذا البيان يعكس بوضوح موقف الدولة المصرية من المركز، حيث تسعى للحفاظ على التوازن بين تعزيز الفكر الحر واحترام الثوابت الدينية.

الشيخ أسامة الأزهري

محاولات سابقة مماثلة

الصراع الفكري في مصر ليس مجرد معركة عابرة، بل هو جزء من حوار طويل ومتجدد بين مدرستين فكريتين: مدرسة الإيمان الراسخ والثوابت الدينية، ومدرسة التنوير والفكر الحر، ومصر، عبر تاريخها، لم تكن بعيدة عن ميادين الجدل الفكري منذ فجر الحضارة.

ففي "دار الحكمة" ببغداد، تجسد حوار الأديان والثقافات، وارتفع صوت العقل والمنطق ومع مرور الزمن، شهدت مصر محاولات عديدة لإنشاء مراكز فكرية تعزز الفكر الحر والتفكير النقدي، بدءًا من "دار العلوم" في عهد المماليك إلى "الجامعة الأزهرية" التي اكتسبت مكانتها العلمية والدينية المرموقة. 

وفي العصر الحديث، برزت "معركة تكوين" كأحدث فصول هذا الصراع الفكري، حيث واجه مركز تكوين موجة من الانتقادات بسبب مواقف بعض أعضائه، واتهامه بتهديد القيم الدينية والثقافية.  

هذه المعارضة ليست جديدة، فمحاولات سابقة لإنشاء مراكز فكرية واجهت مقاومة شديدة، مثل "دار العلوم" التي عارضها بعض العلماء باعتبارها تهديدًا للتقاليد الإسلامية، و"الجامعة المصرية" التي واجهت معارضة من قوى سياسية رأت فيها خطرًا على النظام الملكي، حتى "جمعية التحرير الإسلامي" واجهت معارضة من الأزهر الشريف الذي اعتبرها بدعة، وكذلك "مركز ابن خلدون للدراسات الإنمائية والاجتماعية" الذي واجه معارضة من جهات رسمية رأت فيه تهديدًا للأمن القومي. 

وتتنوع أسباب معارضة هذه المراكز، ومنها الخوف من التغيير الذي قد يزعزع القيم الدينية والثقافية الراسخة، والصراع السياسي حيث قد تُستخدم مراكز الفكر الحر كأدوات سياسية، والاختلافات الفكرية التي قد تتعارض مع وجهات نظر القوى المحافظة في المجتمع. 

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل يمكن تحقيق التوازن بين الفكر الحر واحترام الثوابت الدينية؟ 

نعم، يمكن تحقيق هذا التوازن من خلال الحوار البنّاء الذي ينخرط فيه جميع أطراف المجتمع، مع احترام وجهات النظر المختلفة، والتعليم الهادف الذي يركز على تنمية مهارات التفكير النقدي والتحليل، مع تعزيز القيم الدينية والأخلاقية، والقوانين المنصفة التي تضمن حرية التعبير مع مراعاة مشاعر واحترام معتقدات جميع أفراد المجتمع. 

فالصراع الفكري في مصر ليس صراعًا بين الخير والشر، بل هو صراع بين فكرتين: فكرة الإيمان الراسخ والثوابت الدينية، وفكرة التنوير والفكر الحر، وتحقيق التوازن بين هاتين الفكرتين هو مسؤولية تقع على عاتق جميع أفراد المجتمع، من خلال الحوار البنّاء والتعليم الهادف والقوانين المنصفة. 

ففي رحلة الفكر الحر بين الإيمان والتنوير، تكمن إمكانية بناء مجتمع مصري متسامح ومتطور، يحترم قيمه الدينية والثقافية مع انفتاحه على الأفكار الجديدة.

الأهداف المعلنة لمركز تكوين.. نبل في الطرح ومشكلة في الشخصيات 

رغم أن الأهداف المعلنة لمركز تكوين تبدو نبيلة في مضمونها، فإن المشكلة تكمن في الشخصيات التي تقف خلف هذه الأهداف، حيث لا تتمتع بالمصداقية والثقة التي يتوقعها الناس من الجادين والمخلصين. 

هكذا وصفت الأكاديمية بجامعة الأزهر والتنويرية آمنة نصير، مضيفة، الشخصيات الرئيسة في تكوين هم شخصيات مكشوفة لنا منذ فترة طويلة، وجميعهم شخصيات لم تعد تستطيع العيش خارج وهج التريندات. 

وأشارت نصير إلى أن جميع هؤلاء الأشخاص "إقصائيون"، واعتبرت أنهم يمثلون الوجه المدني المتطرف المقابل للمتطرفين دينياً، فأولئك يمكنهم أن يقتلوك بالسلاح، وهؤلاء يمكنهم أن يقتلوك بالقلم وشحذ الشائعات".

وأكدت في تصريحاتها لـ"جسور بوست"، أن حرية التعبير المسؤولة يتم احترامها وحمايتها ومواجهة الفكر تكون بالفكر، ورغم الانتقادات الحادة لمركز تكوين، ترفض آمنة ردود الفعل العنيفة على مواقع التواصل الاجتماعي والوسم المطالب بإغلاق المركز. 

وأوضحت قائلة: "أرفض تدخل السلطة ضد من يعبرون عن آرائهم مهما كانت، بل أدعو إلى تمكينهم من تقديم طرحهم، وعلى الجهات التي تملك القدرة على مواجهة الفكرة بالفكرة أن تعمل".

وعن نبذ التطرف والتمسك بالسنة النبوية قالت آمنة: إن المجتمع المصري يرفض بشدة التطرف بشقيه، سواء كان تطرفاً دينياً أو مدنياً، ويُعتبر التمسك بالسنة النبوية الشريفة، كمصدر ثانٍ للتشريع بعد القرآن الكريم، جزءاً أساسياً من الهوية الدينية والثقافية للمصريين، وهذا التمسك يعزز من قيم التسامح والاعتدال في مواجهة الأفكار المتطرفة والدعوات التي تتجاوز حدود المعقول والمقبول في النقاشات الفكرية والدينية.

الدكتورة آمنة نصير

مفترق طرق بين حرية الفكر واحترام الثوابت الدينية

بدوره علق الباحث والمفكر الإسلامي أحمد إسماعيل، بقوله: في ظل مجتمع معقد ومتنوع كالمجتمع المصري، يمثل تنصل الدولة المصرية من دعم مركز تكوين قضية شائكة تتداخل فيها جوانب عديدة من حرية الفكر واحترام الثوابت الدينية بداية، لا بد من الإشارة إلى أن مصر، بتنوعها الثقافي والديني، تحمل على عاتقها مسؤولية كبيرة في تحقيق التوازن بين الحرية الفكرية والحفاظ على القيم الدينية التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من هوية المجتمع. 

وأضاف في تصريحات لـ"جسور بوست"، تنصل الدولة من دعم مركز تكوين، الذي جاء بعد إعلان المركز عن أهدافه، يشير إلى أن هناك تبايناً كبيراً بين الأهداف المعلنة والشخصيات التي تمثل هذه المؤسسة، هذه الشخصيات، المعروفة بمواقفها المثيرة للجدل، أثارت مخاوف الكثيرين من أن تكون النوايا الحقيقية للمركز تتجاوز مجرد تعزيز الفكر الحر إلى ما قد يعتبره البعض هجوماً على القيم والتقاليد الراسخة في المجتمع المصري. 

وتابع، الانتقادات التي واجهها المركز تركزت بشكل كبير على الشخصيات البارزة فيه، الذين اعتبرهم الكثيرون غير مؤهلين لحمل رسالة المركز بسبب تاريخهم في إشعال الفتن الفكرية والدينية، هذا الأمر دفع الكثيرين إلى التشكيك في مصداقية المركز وأهدافه الحقيقية، مما جعل الدولة تتراجع عن دعمها لتجنب أي تصعيد قد يؤدي إلى انقسامات أكبر في المجتمع. 

متسائلًا: هل يمكن تحقيق توازن بين حرية الفكر واحترام الثوابت الدينية في مصر؟ الإجابة عن هذا السؤال تتطلب النظر بعمق في تركيبة المجتمع المصري وتاريخه الطويل من التعايش بين مختلف التيارات الفكرية والدينية. مصر، بحضارتها التي تمتد لآلاف السنين، لطالما كانت موطناً لتنوع فكري وديني كبير، حيث تعايشت الأفكار المختلفة ضمن إطار من الاحترام المتبادل. 

واستطرد، تحقيق هذا التوازن يتطلب أولاً الاعتراف بأن حرية الفكر لا تعني الإساءة إلى المعتقدات الدينية أو الاستخفاف بها، الاحترام المتبادل هو الأساس الذي يمكن أن يبني عليه المجتمع حواراً بناءً بين مختلف الأطراف، هذا الاحترام يجب أن يمتد ليشمل جميع الأفراد، بغض النظر عن مواقفهم الفكرية أو الدينية، وفي الوقت نفسه، يجب أن تكون هناك مساحة مفتوحة للنقاش الحر والبناء، حيث يمكن للأفكار أن تتلاقى وتتفاعل دون أن تتحول إلى هجمات شخصية أو طعن في الثوابت. 

وتابع، دعم الدولة للفكر الحر يجب أن يأتي مقروناً بضوابط تضمن عدم تجاوز الخطوط الحمراء التي يمكن أن تمس القيم الأساسية للمجتمع، هنا يأتي دور المؤسسات الدينية والتعليمية والثقافية في توجيه هذا الحوار وضمان أن يبقى ضمن إطار من الاحترام والمسؤولية، والأزهر الشريف، بصفته أحد أكبر المؤسسات الدينية في العالم الإسلامي، يمكن أن يلعب دوراً محورياً في هذا السياق من خلال تقديم رؤى معتدلة توازن بين الحرية الفكرية واحترام القيم الدينية.  

واسترسل، التحدي الأكبر أمام المجتمع المصري هو إيجاد الصيغة التي يمكن من خلالها تحقيق هذا التوازن، وتجارب التاريخ تظهر أن المجتمعات التي استطاعت التقدم والنمو هي تلك التي نجحت في خلق بيئة من الحوار المفتوح المبني على الاحترام المتبادل مصر، بتاريخها العريق وثقافتها الغنية، تمتلك كل المقومات لتحقيق هذا التوازن إذا ما تم توجيه الجهود نحو بناء جسور من الفهم والتفاهم بين مختلف الأطراف. 

وأتم، باختصار، تنصل الدولة المصرية من دعم مركز تكوين يعكس الحاجة الملحة لإعادة النظر في كيفية تحقيق التوازن بين حرية الفكر واحترام الثوابت الدينية، هذا التوازن ليس بالأمر السهل، لكنه ممكن من خلال الحوار المفتوح والمبني على الاحترام المتبادل، وهو السبيل الوحيد لضمان تماسك المجتمع ونموه في المستقبل.


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية