الفن في قفص الاتهام.. منع فيلم "الملحد" يثير الجدل حول حرية التعبير والقيود الاجتماعية

الفن في قفص الاتهام.. منع فيلم "الملحد" يثير الجدل حول حرية التعبير والقيود الاجتماعية

كيف تعيد الرقابة تشكيل المشهد الثقافي وحقوق الإنسان؟

حقوقية: منع فيلم الملحد يهدد حرية التعبير   

ناقدة فنية: حرب على الإبداع.. ومنع الفيلم يمثل انتهاكاً لحقوق الفنانين

 

في عالم يتسارع فيه التغير وتتشابك فيه القضايا الاجتماعية والثقافية، تبرز الحريات الفردية كحجر الزاوية في بناء مجتمعات صحية وعادلة، وتأتي أحدث التطورات في السينما المصرية لتسليط الضوء على هذا التوازن الدقيق بين حرية التعبير والقيود الاجتماعية، حيث أثار قرار منع عرض فيلم "الملحد" قبل ساعات قليلة من عرضه ضجة كبرى. 

هذا القرار لم يكن مجرد منع عرض فيلم، بل كان بمثابة اختبار لمبادئ الحرية والتسامح في وجه تيارات الانتقاد.

وأثار تأجيل عرض فيلم جدلاً واسعاً في مصر بعد أن كان من المقرر أن يُعرض في دور السينما يوم الأربعاء، 14 أغسطس الحالي، وجاء قرار التأجيل المفاجئ قبل ساعات قليلة من العرض، ليثير العديد من التساؤلات حول الأسباب الحقيقية وراء هذا القرار.

هذا الجدل لم يكن مفاجئاً، فقد بدأ مع إعلان الفيلم قبل أسبوعين وحملة الترويج التي انتشرت في شوارع مصر، حيث أثارت منصات التواصل الاجتماعي موجة من ردود الفعل القوية، حيث شنَّ البعض هجمات على الفيلم معتبرين أنه يروّج لأفكار تتعارض مع الدين ويشجع على الإلحاد.

وزاد من حدة الجدل اسم الفيلم وكاتبه إبراهيم عيسى، الذي لطالما أثارت تصريحاته حول القضايا الدينية المختلفة جدلاً واسعاً.

ويأتي الفيلم، الذي يجمع نخبة من الممثلين مثل أحمد حاتم، ومحمود حميدة، وحسين فهمي، وشيرين رضا، ويخرجه محمد العدل وهو من إنتاج أحمد السبكي، بعد تأجيل استمر لعدة سنوات، ليأتي تأجيل عرضه مرة أخرى صدمة للكثيرين، وهذا التأجيل أثار تكهنات واسعة حول ارتباطه بالأزمات المحيطة بالفيلم، خاصة وأنه يتناول موضوعات حساسة تتعلق بالدين.

يستعرض الفيلم، في إطار درامي، قضية التطرف الديني والإلحاد من خلال قصة الشاب يحيى، الذي يجسد دوره أحمد حاتم، والذي يقرر الإلحاد بعد تمرده على أفكار والده الدينية والذي يؤدي دوره محمود حميدة، حيث يظهر كداعم للأفكار الدينية التقليدية، ويشكل هذا الصدام بين الأب وابنه محور الفيلم، الذي صنف كفيلم مخصص للكبار فقط، ويُسمح فقط لمن هم فوق الـ16 بمشاهدته.

في الوقت الذي يتحدث فيه بعض النقاد عن منطقية القرار بناءً على الاعتبارات الاجتماعية والدينية، يرى آخرون أن هذا المنع هو محاولة لقمع الأفكار النقدية تحت ستار الحماية الثقافية. 

ومن جانبه، عبر الكاتب إبراهيم عيسى، عن استيائه من القرار على حسابه في منصة "إكس"، مشيرًا إلى أن التاريخ يظهر بوضوح أن محاولات المنع لم تكن ناجحة في منع الأفكار من الانتشار. وذكر كيف أن أعمال مثل "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ و"الحسين ثائراً" لعبد الرحمن الشرقاوي استمرتا في التأثير على الأجيال رغم محاولات المنع. 

وأشار عيسى إلى أن "الفن أقوى من المنع ومن الرصاص بل ومن الموت"، لافتاً إلى أن الأفكار الخلاقة لا يمكن أن تُسكت أو تُمحى بسهولة.

ما يجعل هذه الواقعة أكثر تعقيدًا هو عدم وضوح موقف الجهات الرسمية المعنية من القرار، بينما يتحدث بعض المسؤولين عن احتمال تأجيل العرض، لم تصدر أي تصريحات رسمية توضح الأسباب الدقيقة وراء هذا الإجراء.

وكتب مخرج الفيلم محمد جمال العدل منشورات تعبر عن قلقه من التعامل مع الفكر عبر المنع، مؤكدًا أن الفكر يجب أن يُواجه بالفكر وليس بالحظر.

الأزمة تتجاوز مجرد منع عرض فيلم، إذ تعكس قضايا أعمق تتعلق بحرية التعبير وحقوق الفنانين في تقديم أعمال تعكس وجهات نظرهم وتطرح أسئلة قد تكون حساسة ولكنها ضرورية. 

في هذا السياق، يشير منتج الفيلم أحمد السبكي إلى أن الهجوم على الفيلم قد يكون مرتبطاً بالهجوم الشخصي على مؤلفه إبراهيم عيسى، بدلاً من كونه هجوماً على مضمون الفيلم نفسه، ويرى السبكي أن بعض الانتقادات تركز على عيسى كمؤلف وليس على محتوى الفيلم الذي يقول إنه لا يهاجم الدين الإسلامي.

هذه الواقعة تثير تساؤلات حول كيفية تعامل المجتمعات مع الأفكار غير التقليدية والانتقادات الثقافية، وتبرز الحاجة إلى حماية الحريات الفردية كجزء من التزام أوسع بالقيم الإنسانية، بينما تواجه المجتمعات تحديات في التعامل مع قضايا مثل الدين والإيمان، يجب أن يكون هناك مجال للتعبير عن الأفكار والخوض في النقاشات التي قد تكون غير مريحة ولكنها ضرورية.

ويرى خبراء أن منع فيلم "الملحد" يُمثل اختبارًا حقيقيًا للقدرة على التوازن بين حماية القيم الثقافية والحفاظ على حرية التعبير، فإن تعزيز ثقافة التسامح والنقاش المفتوح هو السبيل الوحيد للتقدم، وتأكيد أن الأفكار مهما كانت جريئة أو غير تقليدية تستحق أن تُناقش وتُعرض بحرية، في عصر تتصاعد فيه التحديات ضد الحريات الفردية، يجب أن تبقى قيم الحقوق الإنسانية في صميم كل قرار يتعلق بالتعبير الفني والثقافي.

تأثير الضغوط الاجتماعية والدينية على الإبداع الفني

تتفاعل صناعة الفن بشكل مستمر مع الضغوط الاجتماعية والدينية، ما يؤدي أحياناً إلى منع بعض الأعمال الفنية التي تتجاوز الحدود الثقافية المقبولة في مجتمعات معينة. تقدم هذه الحالة العديد من الأمثلة عبر التاريخ على كيفية تأثر الإبداع الفني بمتغيرات المجتمع والمعتقدات، ما يعكس التوتر الدائم بين حرية التعبير وقيم المجتمع.

في عام 1988، واجه فيلم "The Last Temptation of Christ" للمخرج مارتن سكورسيزي جدلاً واسعاً، حيث يتناول حياة يسوع المسيح بطرق غير تقليدية، وأثار استياءً شديداً بين المسيحيين الذين اعتبروا أن الفيلم يتجاوز حدود الاحترام الديني، وأدت الاحتجاجات إلى إلغاء عرض الفيلم في عدة مدن حول العالم، ما سلط الضوء على تأثير المعتقدات الدينية على الأعمال الفنية.

في العام نفسه، أطلق الفنان الأمريكي أندريس ساراتي عمله الشهير "Piss Christ"، وهو صورة فوتوغرافية لتمثال يسوع المسيح مغمور في بول، أثار هذا العمل غضباً هائلاً بين المسيحيين، ما أدى إلى حملة واسعة لإزالته من المعارض الفنية وتسبب في نقاشات حول حدود حرية الفن وحقوق الفنانين.

كذلك، واجهت رواية سلمان رشدي "The Satanic Verses" صدمة ثقافية كبيرة عند صدورها، حيث اعتبر العديد من المسلمين الرواية تحريفاً للإسلام، وأصدر آية الله الخميني فتوى تطالب بقتل رشدي، وأثرت هذه الفتوى بشكل كبير على حياة رشدي، وأثارت نقاشات حول حرية التعبير وحدودها في السياقات الدينية.

وفي فرنسا، تم إلغاء عرض "Art and the City" لجان فيليب ديبون عام 2011 بعد تعرضه لانتقادات شديدة من السلطات والمجتمع بسبب ما اعتبره البعض هجوماً على القيم الثقافية الفرنسية. يعكس هذا الحدث كيف يمكن للضغوط الثقافية أن تؤثر بشكل كبير على قبول الأعمال الفنية.

وفي عام 2018، تم منع فيلم الرعب "The Nun" من العرض في بعض الدول الكاثوليكية بسبب تصويره المكثف للرموز الدينية، ما يعكس كيفية تأثير التصوير الديني في الأفلام على مجتمعات ذات معتقدات دينية قوية.

وأخيراً، يبرز "Sunflower Seeds" للفنان آي ويوي عام 2010 كيف يمكن للفن أن يواجه القمع السياسي. استخدم آي ويوي ملايين من بذور عباد الشمس المصنوعة من الخزف لتناول موضوعات سياسية في الصين، ما أدى إلى سحب العمل من العرض تحت ضغوط من السلطات المحلية.

توضح هذه الأمثلة كيف أن الضغوط الاجتماعية والدينية يمكن أن تؤثر على صناعة الفن بطرق متعددة، ما يبرز التحديات التي يواجهها الفنانون في التعبير عن أنفسهم في ظل ضغوط المجتمع.

إبراهيم عيسى

تأثيرات سلبية على صناعة السينما

بدورها، قالت الفنانة المصرية والناقدة الفنية، هويدا الحسن، إن الضغط الاجتماعي والديني يشكلان عاملين حاسمين في تشكيل صناعة السينما والإبداع الفني، حيث يمكن أن يحدّا من حرية التعبير ويقيدا الابتكار، وهذه الضغوط، التي تأتي من مجموعة متنوعة من المصادر مثل الجماعات الدينية، والفئات الاجتماعية، أو حتى الجهات الحكومية، تلعب دورًا مركزيًا في تحديد حدود المحتوى الفني والأدبي، وقد تؤدي هذه الضغوط إلى ممارسة الرقابة الذاتية أو الخارجية على الفنانين، ما يعوق قدرتهم على التعبير بحرية وإبداع.

وتابعت الحسن، في تصريحاتها لـ"جسور بوست": في صناعة السينما، قد يواجه المبدعون قيودًا شديدة عندما يتعلق الأمر بمواضيع معينة قد تُعتبر حساسة أو مثيرة للجدل، وهذه القيود قد تأخذ شكل الحظر المباشر أو التدخل في المحتوى، ما يؤدي إلى تعديل الأفلام أو حتى إلغائها. ففي بعض الأحيان، يتم تحجيم الأفلام أو منعها من العرض كوسيلة للحفاظ على القيم الثقافية والدينية السائدة أو لردع ما يُعتبر تهديدًا للأعراف الاجتماعية، هذا الضغط يمكن أن يتجلى في شكل تحويرات درامية، وتغييرات في السرد، أو حتى حذف مشاهد معينة لتجنب الصراع مع المعتقدات الثقافية أو الدينية السائدة.

واسترسلت هويدا، أحد الأمثلة البارزة على تأثير الضغوط الثقافية والدينية على الأعمال الفنية هو فيلم "عريضة الميلاد" (The Birth of a Nation) الذي أُنتِج عام 1915 هذا الفيلم، الذي كان يروّج للعنصرية ويحتوي على تصوير مشوه للأفارقة الأمريكيين، وواجه الكثير من الجدل والانتقادات بسبب تأثيره السلبي على المجتمع، وتم منع عرضه في بعض الأماكن بسبب محتواه المثير للجدل، رغم أنه كان يشكل ثورة في تقنيات التصوير السينمائي في عصره.

واستطردت، تأثير الضغوط الثقافية والدينية على الأعمال الفنية ليس مقتصرًا على الأفلام فقط، فقد تأثرت الأعمال الأدبية والفنية أيضًا، على سبيل المثال، أعمال نجيب محفوظ مثل "أولاد حارتنا" واجهت المنع من النشر لفترة طويلة بسبب قضايا دينية، وهو ما يعكس مدى تأثير هذه الضغوط على الإبداع الأدبي.

وأتمت، يُظهر تأثير الضغوط الاجتماعية والدينية على صناعة السينما والإبداع الفني التحديات التي يواجهها الفنانون في محاولة التعبير بحرية، وهذا التقييد يمكن أن يؤثر سلبًا على الابتكار والتنوع الثقافي، ما يجعل من الضروري إيجاد توازن بين احترام القيم الثقافية والدينية والحفاظ على حرية التعبير والإبداع.

هويدا الحسن

بين حماية القيم الاجتماعية وضمان حقوق الأفراد

وعلقت الحقوقية المصرية البارزة، عزة سليمان بقولها، إن حرية التعبير تظل حقاً أساسياً تضمنه مبادئ حقوق الإنسان، ويتجلى هذا الحق في العديد من أشكال التعبير الفني، بما في ذلك الأفلام والمحتويات الفنية، التي تلعب دوراً هاما في تشكيل المجتمعات وتعبيرها عن هويتها وقيمها لكن، عندما يتم منع هذه الأعمال الفنية، تثار قضايا قانونية وأخلاقية معقدة.

وتابعت سليمان، في تصريحاتها لـ"جسور بوست"، من الناحية القانونية، يترتب على منع الأفلام والمحتويات الفنية تأثيرات كبيرة على حقوق الأفراد والمؤسسات، ويعتبر الحق في حرية التعبير جزءاً أساسياً من المعاهدات الدولية لحقوق الإنسان، مثل الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وفقاً للمادة 19 من العهد الدولي، لكل إنسان الحق في التعبير عن آرائه بوسائل مختلفة، بما في ذلك الفن والوسائط الأخرى، منع الأفلام أو المحتويات الفنية، التي تعبر عن أفكار وآراء، يعد انتهاكاً لهذا الحق، حيث يحرم الأفراد من حرية التعبير ويحد من تنوع الأفكار والآراء في المجتمع.

وأوضحت أن منع الأعمال الفنية لا يقتصر فقط على حرمان الفنانين من عرض أعمالهم، بل يعرقل أيضاً حق الجمهور في الوصول إلى تنوع الأفكار والتجارب الثقافية، فالفن يعكس التحديات والمواضيع الاجتماعية والسياسية بطريقة فريدة قد تكون ضرورية لفتح النقاشات العامة وإثارة الوعي حول قضايا هامة، بفرض الرقابة أو منع الأعمال الفنية، ويتم إعاقة هذه الحوارات الهامة التي تساهم في تحسين المجتمع وفهمه.

أما من الناحية الأخلاقية، فتقول الحقوقية البارزة، إن التحديات المتعلقة بالرقابة ومنع حرية التعبير تتطلب توازناً دقيقاً بين حماية القيم المجتمعية وضمان الحقوق الفردية، ومن الضروري أن يكون هناك نظام قانوني واضح يحدد الحدود المقبولة للرقابة، بحيث يتم حماية الأفراد من محتوى قد يكون ضاراً، دون التضحية بحرية التعبير.

عزة سليمان

واستطردت، يجب أن تتسم السياسات المتعلقة بالرقابة بالشفافية وتكون مبنية على معايير محددة ومعترف بها دولياً، لتجنب أي شكل من أشكال التلاعب أو الاستغلال السياسي, فالتعامل مع التحديات الأخلاقية يتطلب أيضاً تعزيز الحوار بين مختلف الأطراف المعنية، بمن في ذلك الفنانون، والمجتمع المدني، والسلطات التشريعية. ومن خلال هذه الحوارات، يمكن التوصل إلى حلول توازن بين حماية القيم الاجتماعية وضمان الحقوق الفردية. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن يتم تقديم الدعم للفنانين الذين يواجهون الرقابة، وضمان أن تكون هناك قنوات قانونية يمكن اللجوء إليها للطعن في قرارات المنع غير المبررة.

وأتمت، من الضروري أن ندرك أن حرية التعبير والفن لا يجب أن تكونا مجرّد ترف، بل هما جزءان حيويان من حقوق الإنسان التي تدعم المجتمعات الحرة والديمقراطية. وإن احترام هذه الحقوق يعزز من تنوع الفكر والإبداع، ويسهم في بناء مجتمعات أكثر تفتحاً وشمولاً. وفي نهاية المطاف، يتطلب تحقيق هذا التوازن العادل جهداً جماعياً لضمان حماية الحقوق الفردية مع احترام القيم الاجتماعية، بما يضمن تحقيق العدالة والحرية لجميع الأفراد.

 

 

 


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية