إفريقيا الوسطى ساحة انتصار جديدة للدب الروسي
إفريقيا الوسطى ساحة انتصار جديدة للدب الروسي
بالسم ثروت
بالكاد خرجت جمهورية إفريقيا الوسطى من حرب أهلية اندلعت قبل خمس سنوات تقريباً عندما أطاح تحالف من المتمردين المسلمين يُعرف باسم (سيليكا) بالزعيم الاستبدادى فرانسوا بوزيزى، ولكن رداً على ذلك نفذت ميليشيات (بالاكا)، المؤلفة من مسيحيين ووثنيين عمليات انتقامية شرسة ضد المجتمعات المسلمة، ما أدى إلى مقتل الآلاف آنذاك.
لكن في عام 2016، عندما أدى الرئيس الجديد تواديرا اليمين هدأت حدة القتال ولكن مع مرور الوقت بدأ العنف يتصاعد مرة أخرى بين الفصائل المتشرذمة من سيليكا وميليشيات بالاكا، الأمر الذي دفع السلطات في إفريقيا الوسطى للتدخل لكن هذه المرة بمعاونة الروس، حيث بدأت السلطات المحلية بالانتشار فى المناطق التى يسيطر عليها المتمردون. وسرعان ما ارتٌكبت الانتهاكات، عنف جنسي، وحالات اختفاء قسري، وإعدامات، إلى جانب انتهاكات منهجية أخرى بشكل خاص على النساء والأطفال والأقليات، بحسب تقرير للأمم المتحدة.
لكن تبقى التساؤلات، لماذا إفريقيا الوسطى؟ وعلى من وكيف انتصرت روسيا؟
للأجابة عن التساؤل الأول لا بد أن نذهب في نظرة سريعة على السياق التاريخي لجمهورية إفريقيا الوسطى، التي استقلت عن فرنسا في أغسطس عام 1960م، وتغيرت فيها السلطة منذ ذلك الوقت خمس مرات كلها عن طريق الانقلابات العسكرية مايجعلها أحد رواد الانقلابات في إفريقيا، أي بمعدل انقلاب واحد لكل 10 سنوات.
آخر هذه الانقلابات كان انقلاب الرئيس المقال ميشيل دوتوجيا القيادي الأول في حركة السيليكا ذات الأغلبية المسلمة على الرئيس المخلوع فروانسا بوزيزي مسيحي الديانة في مارس 2013م.
والشاهد هنا، أن كل هذه الانقلابات تمت علي مرأى ومسمع فرنسا بل بمباركة منها، وبالتعاون مع حلفائها من رؤساء البلاد المجاورة كجمهورية كونجو برازافيل، جمهورية تشاد، والسودان.
من ثم دخلت الدولة في دوامة من الصراعات والفوضى، وانزلقت الجماعات المتناحرة في الحروب الطائفية وانعدم الأمن والاستقرار في جميع ربوع البلاد، الأمر الذي أجبر مجلس الأمن على إصدار قرار بحظر السلاح أو التسلح في جمهورية إفريقيا الوسطى، وفي عام 2014 أنشأت الأمم المتحدة بعثة عسكرية مكونة من جنسيات مختلفة لحفظ السلام، ومن ثم العام 2016 حدث كما ذكرنا مسبقاً.
نتيجة لما سبق، كان المناخ العام لدولة إفريقيا الوسطى هو المناخ الأمثل التي تحتاجه روسيا لوضع موطئ قدم لها في إفريقيا، فمنذ سقوط الاتحاد السوفييتي في تسعينات القرن الماضي خسرت روسيا حضورها الإفريقي في مجالات متعددة ولا سيما المجال العسكري.
اكتسبت موسكو موطئ قدم فى جمهورية إفريقيا الوسطى بعد أن التقى وزير الخارجية الروسى سيرجى لافروف برئيس جمهورية إفريقيا الوسطى فوستين أرشانج تواديرا فى أكتوبر 2017، و بدأ التحالف بين البلدين بالتبرع بالأسلحة والذخيرة لجيش جمهورية أفريقيا الوسطى بالإضافة إلى قوة مرافقة قوامها 175 من العسكريين المدربين.
بالإضافة إلى ماسبق، هناك وجود لمرتزقة تابعة لمجموعة فاغنر الروسية، حسبما أشارت تقارير إعلامية عديدة إلى أن مرتزقة فاغنر يعملون في جمهورية إفريقيا الوسطى، كما أبرمت روسيا فيما بعد صفقة مع رئيس جمهورية إفريقيا الوسطى تواديرا في عام 2018، وتم نشر ما يقدر بنحو 400 من جنود فاغنر في شمال جمهورية إفريقيا الوسطى.
وكنتيجة طبيعية للتدخل الروسي في إفريقيا الوسطى، يواصل الروس فرض أنفسهم على جميع مستويات السياسة والأمن فى جمهورية إفريقيا الوسطى، حيث يتحكم الموظفون الروس فى مواقع التعدين الاستراتيجية ويعملون فى عمليات الجمارك.
وهناك ثلاثة عوامل مهمة جعلت روسيا تتجه إلى إفريقيا الوسطى، الأول اقتصادي فإفريقيا الوسطى غنية بالموارد، وخاصة اليورانيوم، والمعادن الثمينة، عطفاً على كونها دولة صراع ما يعني سوقاً خصباً للسلاح الروسي، أما العامل الثاني فهو موقعها الجغرافي في قلب القارة الذي يجعلها بوابة للتوغل في القارة في المستقبل، أما العامل الثالث فهو قطع الطريق على الغرب فى وسط إفريقيا وخاصة فرنسا التي كانت تحتل إفريقيا الوسطى وتعتبرها أحد أهم تخومها في وسط إفريقيا.
وبالحديث عن فرنسا، اتهمت فرنسا روسيا ببذل جهود للاستيلاء على السلطة في جمهورية إفريقيا الوسطى، عن طريق مرتزقة تابعين لها، جاء ذلك على لسان وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في تصريحات أدلى بها لقناة “بي إف إم” المحلية.وقال لودريان: في جمهورية إفريقيا الوسطى، هناك شكل من أشكال الاستيلاء على السلطة وخاصة السلطة العسكرية، من قبل المرتزقة الروس.
أضاف لورديان، نحن نحارب هذا وقد دفعنا ذلك لاتخاذ إجراءات لسحب عدد معين من أفرادنا العسكريين، في إشارة لتعليق الدعم العسكري الفرنسي عن إفريقيا الوسطى لتعاونها مع المرتزقة الروس، حيث علقت باريس مساعداتها العسكرية والمالية لإفريقيا الوسطى في وقت سابق، متهمة الأخيرة بالتواطؤ في حملة تضليل إعلامية مناهضة لفرنسا تدعمها روسيا.
ولم تجد فرنسا طرقاً تسترجع بها مكانتها في إفريقيا الوسطى مستعمرتها السابقة إلا طريق الشائعات، فقد ادعى خبراء حقوق الإنسان بالأمم المتحدة (حسب ما تراه روسيا)في تقرير نشروه أن فاغنر تقف وراء انتهاكات حقوق الإنسان وأعمال العنف المستمرة في جمهورية إفريقيا الوسطى منذ الانتخابات الرئاسية.
وبطبيعة الحال لم تقف روسيا مكتوفة الأيدي أمام هذه التقارير، حيث قال إلكساندر إيفانوف، قائد المدربين العسكريين الروس في جمهورية إفريقيا الوسطى في تصريح لوكالة سبوتنيك، إن كل الادعاءات حول تجاوزات جنود بلاده هي من تلفيق الإعلام الفرنسي.
لم تكتفِ روسيا بهذا القدر من النصر وبسط النفوز وتهميش فرنسا خارج إطارات الصراع إنما ذهبت لأبعد من ذلك، من خلال القوة الناعمة ففي 30 نوفمبر المنصرم، أزيح الستار عن نصب تذكاري للجيش الروسي فى أحد الميادين في إفريقيا الوسطى تخليداً لدوره التاريخي والمهم في مستقبل البلاد.
بالإضافة إلى ذلك فى منتصف شهر ديسمبر، صدر قرار فاجأ الجميع وهو اعتماد اللغة الروسة كلغة رسمية للدراسة في جامعات جمهورية إفريقيا الوسطى من عام 2022، قرار صادم لدولة لغتها الرسمية هي الفرنسية وهذه إن دل على شئ يدل على الانتصار الكبير التي حققته روسيا فى إزاحة غريمتها الغربية فرنسا من المشهد، وإن القرار يعكس مدى رغبة إفريقيا الوسطى في قطع الصلة عن الإرث الاستعماري الفرنسي من قبل السلطة الحالية وتوطيد علاقات روسية أقوى بدلاً منها وهنا تكمن اجابة التساؤل الثاني الذي طرحناه سابقاً.
اجمالاً، لا يٌخفى عن الأنظار التوغل الروسي فى القارة السمراء معتمدة على الإرث التاريخي الذي ربط الاتحاد السوفيتي بالدول الإفريقية من قبل، حيث تعد شريكاً دفاعياً مهماً في إفريقيا، وهي أكبر مورد للسلاح في المنطقة، ومنذ عام 2014، وقعت اتفاقيات تعاون عسكري مع حوالي 19 دولة إفريقية.
وبعد الانتصارات التي حققتها فى إفريقيا الوسطى تتجه أنظار موسكو نحو مالي التي تٌظهر بعض التقارير شائعات حول تعاون مالي مع مجموعة فاغنر الروسية، الأمر الذي أثار حفيظة فرنسا لأن مالي أحد أهم مستعمراتها القديمة، وعلي فرنسا تدارك الأمر قبل أن تجد نفسها مهمشة منهزمة مرة أخرى في مالي، فهي تواجه غريماً يلعب بشتى الأوراق، ويرغب في السيطرة على مقدرات وثروات الدول الإفريقية.











