«أرقام صادمة وتشريعات غائبة».. لماذا تتزايد معدلات «العنف الأسري» في العراق؟
«أرقام صادمة وتشريعات غائبة».. لماذا تتزايد معدلات «العنف الأسري» في العراق؟
بتسارع غير مسبوق، تزايدت معدلات العنف الأسري في العراق خلال السنوات الثلاث الماضية إلى 53 ألف حالة، وفق إحصاء المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق (رسمي).
ووفق الإحصائية ذاتها، بلغ معدل حالات اعتداء الزوج على الزوجة خلال السنوات الثلاث الأخيرة 75% من إجمالي الحالات، أما نسبة اعتداء الزوجة على الزوج فبلغت نسبته 17%، بينما وصلت نسبة اعتداء الأبوين على الأطفال إلى 6%، والاعتداء على كبار السن كالجد والجدة 2%.
ينتظر مشروع قانون مناهضة العنف الأسري في العراق المصادقة عليه في مجلس النواب رغم مرور أكثر من 4 سنوات على إقراره من قبل الحكومة، بهدف الحد من الارتفاع الملحوظ في نسب الجرائم الناجمة عن العنف الأسري.
ويتعامل القضاء العراقي مع حالات العنف الأسري وفق المادة (41- 1) من قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969، والتي تنص على أنه "لا جريمة إذا وقع الفعل استعمالا لحقٍ مقرر بمقتضى القانون، ويعتبر استعمالا للحق: تأديب الزوج لزوجته وتأديب الآباء والمعلمين ومن في حكمهم الأولاد القصر في حدود ما هو مقرر شرعاً أو قانوناً أو عُرفا".
مناهضة العنف الأسري
وفي عام 2020، أقرت الحكومة العراقية السابقة مشروع قانون مناهضة العنف الأسري، لكنه واجه معارضة شديدة عند طرحه للتصويت في مجلس النواب، من قِبل الأحزاب والحركات ذات التوجهات الإسلامية والأجنحة السياسية للفصائل المسلحة الموالية لإيران، حيث تعتبر هذه الأطراف القانون الجديد معارضا للشريعة الإسلامية وسبباً من أسباب تفكك الأسرة العراقية.
وفي العام ذاته، أعربت وكالات الأمم المتحدة في العراق عن قلقها إزاء العدد المتزايد لحالات العنف الأسري خلال وباء فيروس كورونا، فيما رصدت وحدة حماية الأسرة بوزارة الداخلية، التي خصصت خطا ساخنا لتلقي الشكاوى، 17 ألف دعوى اعتداء زوج على زوجة في عام 2021.
وفي تقريرها الصادر عن العراق في عام 2023 اتهمت منظمة العفو الدولية (غير حكومية، مقرها لندن) البرلمان العراقي بالتقاعس عن تجريم العنف الأُسري وتوفير حماية كافية للنساء والفتيات من العنف القائم على أساس النوع الاجتماعي.
الوصم الاجتماعي
وبحسب آراء الخبراء فإن ارتفاع معدلات العنف الأسري في العراق خلال السنوات الأخيرة يرجع إلى عدة عوامل اجتماعية واقتصادية وسياسية، أبرزها تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، حيث تدفع البطالة والفقر إلى التوتر الأسري والعنف بسبب مضاعفة الضغوط المالية.
ويعاني العراق على مدى سنوات طويلة من الحروب والنزاعات المسلحة، والتي تركت أثراً نفسياً عميقاً على الأفراد، وخاصة الرجال العائدين من ساحات القتال، حيث تنتشر الأزمات النفسية مثل اضطراب ما بعد الصدمة، والتي قد تؤدي إلى سلوكيات عنيفة تجاه أفراد الأسرة.
يأتي ذلك إلى جانب أن الثقافة والعادات الاجتماعية في العراق لديها قبول إلى حد ما لاستخدام العنف كوسيلة لتأديب أفراد الأسرة، وخاصة النساء والأطفال، فضلا عن تبرير العنف الأسري من قبل بعض أفراد المجتمع بناءً على تقاليد وأعراف قديمة، الأمر الذي يعد أحد العوامل الرئيسية التي تعيق معالجة المشكلة.
ويشهد العراق فراغا تشريعيا في تجريم العنف الأسري، حيث لا توفر القوانين العراقية الحماية الكافية للضحايا، وغالباً ما تكون الإجراءات القانونية بطيئة وغير فعالة، الأمر الذي يقف عائقا أمام محاسبة ومعاقبة المعتدين وحماية وإنصاف الضحايا.
وتعاني البيئة العراقية من قلة البرامج التوعوية التي تركز على أهمية السلامة الأسرية والطرق غير العنيفة لحل النزاعات داخل الأسرة، وينخفض كذلك عدد مراكز الدعم والإرشاد النفسي، خاصة في المناطق الريفية والمناطق التي تفتقر للخدمات الصحية في البلاد.
الخوف من الوصم الاجتماعي
ويسهم في تفاقم ظاهرة العنف الأسري، الخوف من الوصم الاجتماعي، حيث يخشى العديد من الضحايا الإبلاغ عن حالات العنف بسبب الخوف من الفضيحة أو الانتقام من قبل أفراد الأسرة، إلى جانب ضعف التنسيق بين الجهات المعنية والتي تتمثل في الشرطة والهيئات القضائية والمؤسسات الاجتماعية، ما يعوق تقديم الحماية الفعالة للضحايا.
ويعتبر العنف الأسري في العراق مشكلة معقدة تتطلب جهوداً متضافرة من جميع الجهات، بما في ذلك الحكومة، والمجتمع المدني، والمؤسسات الدينية والتعليمية، إذ يعد توفير بيئة آمنة ومستقرة للأسر هو صلب جهود الإصلاح، من خلال تعزيز القوانين وزيادة الوعي المجتمعي وتحسين الخدمات المقدمة للضحايا.
عوامل مُركبة
وأرجع الأكاديمي والمحلل السياسي العراقي، عباس العرداوي، أسباب ارتفاع معدلات العنف الأسري إلى انخفاض مستوى التعليم وارتفاع معدلات الأمية، بالإضافة للآثار الاجتماعية المترتبة على تراكمات النظام السابق وتداعيات الاحتلال الأمريكي، وما ترتب على هذه العوامل من صراعات سياسية أدت إلى حالة تفسخ مجتمعي بالعراق.
وأوضح العرداوي، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن انتشار العصابات الإرهابية مثل تنظيم "داعش" في البلاد أدى إلى اختطاف آلاف النساء والقيام بعمليات إجرامية كان لها دور مؤثر على زيادة معدلات القسوة والغلظة بشكل عام والعنف الأسري تحديدا.
وأضاف: "هذه التراكمات الاجتماعية والنفسية المعقدة يجب أن تتولى الدولة حلها بشكل علمي ومنهجي، ولكن للأسف عادة ما تلجأ إلى الحلول الطارئة المؤقتة التي تتعلق بالدعم المادي لضحايا العنف الأسري دون اللجوء إلى حلول جذرية للظاهرة المتزايدة".
ومضى العرداوي، قائلا: "المجتمع العراقي يغلب عليه القبلية والعشائرية ومن ثم أسهم انتشار منصات التواصل الاجتماعي في زيادة ظاهرة العنف المنزلي بسبب التمسك بالأعراف والتقاليد الاجتماعية وغيرها من العادات التي ترفض بعض الممارسات".
وفي ما يتعلق بالوضعية التشريعية، أكد الأكاديمي العراقي أن ضعف البنية التشريعية يسهم بشكل مباشر في زيادة معدلات العنف، مشيرا إلى ضرورة إقرار تشريع يجرم العنف الأسري مع الحفاظ على هوية وعقائد وأعراف وثقافة المجتمع العراقي.
وتابع: "الحل يكمن في إقرار تشريعات تراعي المنظومة الدينية والمنظومة الاجتماعية، وتتعامل مع قضايا الأسر العراقية بشكل سليم وسلس يراعي الانفتاح والتطور والمتغيرات الزمانية والتكنولوجية".
ظاهرة كارثية
وقال مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية، الدكتور قاسم حسين صالح، إن هناك ثلاث ظواهر اجتماعية تضاعفت في العراق خلال العقدين الأخيرين وهي: الطلاق والانتحار والعنف الأسري، حيث وثق تقرير مجلس القضاء الأعلى ارتفاع عدد حالات الطلاق في عام 2012 إلى ما يشبه الكارثة وهو 50 حالة طلاق مقابل 100 حالة زواج، أي أن كل مليوني حالة زواج تقابلها مليون حالة طلاق، حتى وصف القضاة هذه الظاهرة بأنها "صارت توازي ظاهرة الإرهاب".
وأوضح صالح في تصريح لـ"جسور بوست"، أن الطلاق يعد ضمن ممارسات العنف ضد المرأة، حيث رصدت وحدة حماية الأسرة بوزارة الداخلية 17 ألف دعوى اعتداء زوج على زوجته في عام 2021، فيما أفاد تقرير لمركز المعلومة للبحث والتطوير بأن 46% من النساء العراقيات يتعرضن للعنف.
وأضاف: "في عام 2019 تم إعداد قانون بعنوان مناهضة العنف الأسري، وتضمن 27 مادة بدأت بتعريف العنف وتحديد أهدافه بحماية الأسرة وخاصة النساء والفتيات من كل أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي، ومعاقبة مرتكبيه والتعويض عن الضرر الناتج عنه، وتوفير الحماية للضحايا، وتقديم الرعاية اللازمة لهم وتأهيلهم.
ومضى صالح قائلا: "المفارقة أن القانون لم يُقر حتى الآن، لأن أعضاء البرلمان من الأحزاب المنتمية لتيار الإسلام السياسي رفضوه، حيث اعتبرته الأحزاب الشيعية (الموالية لإيران) مخالفا للشريعة الإسلامية، وقبل ثلاثة أشهر اقترحنا على حكومة محمد شياع السوداني تشكيل لجنة يكون بين أعضائها علماء نفس واجتماع وخبراء مستقلون سياسيا لمراجعة القانون وتعديله بصيغة تتفق مع جوهر الدين الإسلامي وفي ذات الوقت يساير القيم الحضارية في البلدان الديمقراطية، لأن هوية وديمقراطية أي بلد تظهر بتطبيقه مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة".