الاتجار بالبشر والاستغلال القسري.. وجه خفي للعبودية الحديثة في بريطانيا

الاتجار بالبشر والاستغلال القسري.. وجه خفي للعبودية الحديثة في بريطانيا
مهاجرون في بريطانيا

تشهد بريطانيا أزمة حقوقية وإنسانية متفاقمة مع تزايد أعداد ضحايا "العبودية الحديثة"، إذ كشفت تقديرات حكومية حديثة عن تسجيل نحو 19 ألف حالة في إطار برنامج "الإحالة الوطنية"، في حين تشير إحصائيات غير رسمية إلى أن الرقم الحقيقي قد يصل إلى 130 ألف حالة.

ويؤكد خبراء في حقوق الإنسان والهجرة، في تصريحات خاصة لـ"جسور بوست"، أن الظاهرة تشهد تصاعدًا رغم إلغاء العبودية رسميًا في بريطانيا منذ أكثر من قرن، مؤكدين أن هذا التزايد يمثل تهديدًا واضحًا لمساحة الحقوق والحريات، مطالبين بتكثيف الجهود لمكافحتها عبر تعزيز التوعية، وتفعيل القوانين، وتشديد الرقابة.

وبحسب وزارة الداخلية البريطانية، فإن عام 2024 شهد تسجيل 19 ألف حالة لضحايا العبودية الحديثة، بزيادة قدرها 2000 حالة مقارنة بعام 2023. بينما تشير بيانات منظمة "ضد العبودية" الدولية إلى أن الأعداد الحقيقية قد تصل إلى 130 ألف ضحية.

وفي مايو 2023، أظهرت الإحصائيات الحكومية ارتفاعًا بنسبة 33% في أعداد ضحايا العبودية الحديثة خلال الربع الأول من العام مقارنة بالفترة ذاتها من عام 2021، كما كشفت أرقام صادرة في مارس 2023 عن تسجيل 16,938 ضحية محتملة في عام 2022، ما يؤكد التصاعد المستمر للظاهرة.

أما بين يناير ومارس 2023 فقد سجلت وزارة الداخلية 4.746 ضحية محتملة، وهو ما وصفته تقارير صحفية بكونه "أعلى مستوى منذ عام 2009".

في ظل هذه الأرقام المقلقة، يجدد الخبراء دعوتهم إلى تعزيز الجهود الحكومية والمجتمعية لمواجهة العبودية الحديثة، عبر آليات تشمل تشديد الرقابة على شبكات الاتجار بالبشر، وتحسين دعم الضحايا، ورفع مستوى الوعي المجتمعي بخطورة الظاهرة وسبل مكافحتها.

العبودية الحديثة

ورغم أن العبودية التقليدية، المتمثلة في امتلاك الأفراد واستعبادهم، قد أصبحت غير قانونية، فإن أشكالًا جديدة من العبودية الحديثة لا تزال قائمة في بريطانيا، وتشمل هذه الممارسات إجبار العمال على العمل لساعات طويلة بأجور زهيدة أو دون أجر، واحتجاز وثائقهم، وتهديدهم، واستغلال الأطفال في العمل القسري أو الأنشطة الإجرامية، فضلًا عن إجبار النساء على الزواج دون إرادتهن.

ولمواجهة هذه الظاهرة، أقر البرلمان البريطاني قانون العبودية الحديثة لعام 2015، الذي يجرم جميع أشكال العبودية الحديثة ويوفر الحماية للضحايا. ومع ذلك، لا تزال هناك تحديات في تطبيقه، خاصة في بعض القطاعات مثل الزراعة، والإنشاءات، وصالونات التجميل، والمصانع، حيث تتفشى ممارسات العمل القسري والاستغلال.

أما برنامج "آلية الإحالة الوطنية"، فقد صُمّم لرصد الضحايا المحتملين للعبودية الحديثة وتقديم الدعم لهم خلال التحقيقات، لكن الأرقام الحكومية كشفت أن الناجين يضطرون إلى الانتظار لفترات تصل إلى 22 شهرًا "بالمتوسط" قبل صدور قرار يحدد وضعهم في المملكة المتحدة، ففي عام 2019، كان متوسط فترة الانتظار 459 يومًا، لكنه ارتفع في عام 2022 إلى 680 يومًا، مما يعكس تحديات بيروقراطية تعوق تقديم الدعم الفوري للضحايا.

وتزايدت معدلات العبودية الحديثة مدفوعة بعوامل مثل الفقر والصراعات السياسية التي أدت إلى تهجير الملايين حول العالم. ووفقًا لتقرير صادر عن منظمة العمل الدولية والمنظمة الدولية للهجرة بالتعاون مع منظمة "ووك فري فاونديشن" (Walk Free Foundation) في سبتمبر 2022، فإن العبودية الحديثة شهدت توسعًا عالميًا خلال السنوات الأخيرة، خاصة بعد جائحة كورونا، حيث أُجبر 50 مليون شخص على العمل القسري أو الزواج القسري خلال العام الماضي.

ويعود تاريخ تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي في بريطانيا إلى عام 1562، وبحلول ثلاثينيات القرن الثامن عشر، أصبحت المملكة المتحدة رائدة عالميًا في هذه التجارة، حيث كان الطريق التجاري بين أوروبا وإفريقيا والأمريكتين مربحًا للغاية. 

ووفقًا لتقرير صادر عن البرلمان البريطاني، تم نقل وبيع أكثر من 3 ملايين إفريقي إلى المستعمرات البريطانية في منطقة البحر الكاريبي وأمريكا الشمالية.

وفي عام 1833، أُقر قانون إلغاء العبودية، ما أدى إلى تحرير 800 ألف إفريقي كانوا يُعاملون كممتلكات للبيض البريطانيين.. غير أن القانون تضمّن بندًا لتعويض ملاك الرقيق من أموال دافعي الضرائب، حيث خصصت الحكومة 20 مليون جنيه إسترليني، أي ما يعادل 40% من ميزانية الدولة آنذاك، وهو مبلغ يعادل اليوم نحو 17 مليار جنيه إسترليني.

بحسب التقرير الأممي، تأمل المنظمات الدولية في القضاء على العبودية الحديثة بحلول عام 2030، إلا أن التقديرات تشير إلى زيادة 10 ملايين شخص إضافي وقعوا ضحية لهذه الممارسات منذ عام 2016، ومن بين 50 مليون شخص يعيشون في ظل العبودية الحديثة، يُجبر 27.6 مليون على العمل القسري، بينما تم تزويج 22 مليون شخص قسرًا، كما يمثل النساء والفتيات أكثر من ثلثي ضحايا الزواج القسري، و80% من ضحايا الاستغلال الجنسي التجاري، ما يجعل قضايا المرأة محورًا أساسيًا في جهود مكافحة العبودية الحديثة.

تزايد مقلق

وأكد المحامي الدولي المتخصص في قضايا الهجرة والجنسية ببريطانيا، محمد أبو شنب، أن هناك "تزايدًا مقلقًا" في حالات العبودية الحديثة في بريطانيا، ما يستدعي تحركًا عاجلًا للحد من هذه الظاهرة.

ووفقًا لبيانات رسمية بريطانية، شهد عام 2024 ارتفاعًا غير مسبوق في حالات العبودية الحديثة المسجلة، حيث بلغ عدد الضحايا المحتملين 19,125 حالة، بزيادة تقارب 13% مقارنة بعام 2023، 

وأوضح أبو شنب، في تصريح لـ"جسور بوست"، أن "هذه الأرقام تعكس تصاعدًا خطيرًا في جرائم الاستغلال البشري، ما أدى إلى تصاعد الدعوات لاتخاذ إجراءات حكومية عاجلة".

وتشير التقارير الحقوقية إلى أن العدد الفعلي للضحايا قد يكون أعلى بكثير، إذ تقدر بعض المنظمات الحقوقية أن نحو 130 ألف شخص يعانون من العبودية الحديثة في بريطانيا، في ظل تردد الضحايا في الإبلاغ عن معاناتهم خوفًا من الترحيل أو الانتقام.

ويرى أبو شنب أن هناك عدة عوامل تسهم في تفاقم الظاهرة، أبرزها: الفقر وتردّي الأوضاع المعيشية، ما يجعل الأفراد أكثر عرضة للاستغلال والنزاعات وانعدام الاستقرار، ما يدفع الكثيرين إلى الهجرة غير النظامية، ليجدوا أنفسهم في قبضة شبكات الاتجار بالبشر.

يأتي ذلك إضافة إلى تشديد سياسات الهجرة، ما يدفع المهاجرين غير النظاميين إلى التزام الصمت خوفًا من الترحيل، حتى وإن تعرضوا لاستغلال بشع، وضعف إنفاذ قوانين العمل ونقص الرقابة، حيث تؤدي قلة عدد المفتشين إلى استمرار الانتهاكات دون رادع.

وأكد أبو شنب أن العبودية الحديثة ليست مجرد انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، بل لها تبعات كارثية على الاقتصاد والمجتمع، وتشمل هذه التداعيات خسائر اقتصادية فادحة؛ إذ تقدر تكلفة العبودية الحديثة على الاقتصاد البريطاني بنحو 33 مليار جنيه إسترليني سنويًا، بسبب استغلال العمالة الرخيصة الذي يشوّه سوق العمل ويضرّ بالمنافسة العادلة.

وشدد أبو شنب على ضرورة تكثيف الجهود الحكومية والدولية لمحاربة العبودية الحديثة، من خلال  تشديد القوانين وتفعيل الرقابة الصارمة على أماكن العمل المشبوهة، وتعزيز الدعم والحماية للضحايا، لمنحهم فرصًا جديدة للحياة الكريمة، ورفع مستوى الوعي المجتمعي حول خطورة العبودية الحديثة وسبل مكافحتها.

واختتم حديثه، قائلا: "هذه الظاهرة تهدد المبادئ الأساسية للعدالة وحقوق الإنسان، ولا بد من تعاون دولي فعّال للقضاء عليها.. والحلول الجذرية تبدأ من الاعتراف بحجم المشكلة واتخاذ خطوات حازمة لمعالجتها".

آليات المواجهة

من جانبه، أكد الحقوقي والمحامي المصري رضا الدنبوقي، في تصريح لـ"جسور بوست" أن العبودية الحديثة في بريطانيا لا تزال ظاهرة مقلقة تتطلب اهتمامًا حقيقيًا وجادًا، فعلى الرغم من إلغائها رسميًا قبل أكثر من قرن، فإن أشكال العبودية الحديثة لا تزال تتفاقم، وفقًا لأحدث التقارير الحقوقية.

ويعدد الدنبوقي أبرز أنواع العبودية الحديثة التي لا تزال منتشرة في بريطانيا، ومنها الاستغلال في العمل، حيث يتعرض العديد من العمال، خاصة في قطاعات البناء والزراعة والخدمات المنزلية، للاستغلال بسبب هشاشة أوضاعهم الاقتصادية وصعوبة وصولهم إلى العدالة.

وقال إنه يتم تهريب الأشخاص إلى بريطانيا بغرض الاستغلال الجنسي أو العمل القسري، حيث يُجبر الضحايا على العمل في ظروف قاسية دون أجر عادل، خاصة في الأعمال المنزلية مثل التنظيف والخدمة، حيث يتم احتجاز الأفراد وإجبارهم على العمل دون حريتهم الكاملة، ما يجعلهم ضحايا للجريمة المنظمة التي تستغل ضعف الرقابة والفساد.

ويُرجع الدنبوقي تصاعد الظاهرة إلى عدة عوامل رئيسية، أبرزها الفساد والجريمة المنظمة، إذ تُستخدم شبكات الجريمة المنظمة لتهريب الأشخاص واستغلالهم في أعمال قسرية مقابل عمولات غير قانونية، إضافة إلى ضعف الرقابة وتطبيق القوانين بسبب محدودية الموارد المالية واللوجستية، إذ تعاني الجهات الرقابية من قصور في كشف ومكافحة ممارسات العبودية الحديثة.

وبحسب الدنبوقي، يضطر الكثيرون، خصوصًا المهاجرين الجدد وأصحاب الدخل المنخفض، إلى قبول أي فرصة عمل مهما كانت شروطها مجحفة، ما يجعلهم عرضة للاستغلال دون وعيهم الكامل بحجم الانتهاكات التي يتعرضون لها.

يقترح الخبير الحقوقي المصري تعزيز القوانين والرقابة التي تجرّم العبودية الحديثة، وضمان تنفيذها بصرامة عبر المتابعة والتقييم المستمرين لكشف المخالفات ومعالجة الفساد، وتكثيف التعاون بين الدول لمكافحة شبكات الاتجار بالبشر، وتقليل مخاطر الهجرة غير النظامية، خصوصًا بين النساء والأطفال.

يأتي ذلك إلى جانب دور التوعية والدعم الاجتماعي، حيث يجب رفع مستوى الوعي المجتمعي حول مخاطر العبودية الحديثة وأشكالها، إلى جانب توفير الدعم القانوني والنفسي للضحايا وتمكينهم اقتصاديًا، وتعزيز دور الأفراد في التبليغ عن حالات الاستغلال والتطوع مع منظمات مكافحة العبودية، ودعم الشركات التي تلتزم بمعايير العمل العادل من خلال تخفيض الضرائب أو تقديم حوافز حكومية.

يؤكد الدنبوقي أن العبودية الحديثة ليست مجرد انتهاك قانوني، بل هي جريمة إنسانية تتطلب تحركًا سريعًا من الأفراد والحكومات والمنظمات الدولية. 

وشدد على أن الحل يكمن في تعزيز الرقابة، ومحاربة الفساد، ودعم الضحايا لضمان مجتمع أكثر عدالة وإنصافًا.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية