حروب ضد الإنسانية.. كيف دمرت النزاعات المسلحة البنية الصحية في العالم العربي؟
حروب ضد الإنسانية.. كيف دمرت النزاعات المسلحة البنية الصحية في العالم العربي؟
تعد الحروب والنزاعات المسلحة من كبريات التحديات التي تواجه البشرية في العصر الحديث، حيث تترك آثاراً عميقة على الأفراد والمجتمعات تمتد على مدار سنوات عدة بعد انتهائها، ولا تقتصر الأضرار على الجانب العسكري فقط، بل تشمل أيضاً الأبعاد الإنسانية والصحية، التي تؤثر في حياة المدنيين بشكل مباشر، ففي الدول العربية، التي شهدت حروباً وصراعات -ولا تزال تشهد- تبقى الأنظمة الصحية هي الأكثر تأثراً، ما يزيد من تعقيد الأوضاع الإنسانية.
ويواجه اليمن أزمة صحية كارثية، حيث يعاني أكثر من 24 مليون شخص تداعيات النزاع المستمر منذ عام 2015، وفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2024، فإن 80% من سكان اليمن يحتاجون إلى المساعدات الإنسانية، وتعد الحروب عاملاً رئيسياً في تدهور الوضع الصحي في البلاد.
ودُمرت نحو 50% من المنشآت الصحية، ما جعل الوصول إلى الرعاية الصحية الأساسية أمراً بالغ الصعوبة، كما تسببت الحرب في تفشي أمراض خطِرة، مثل الكوليرا، حيث تم تسجيل أكثر من 2.5 مليون حالة إصابة منذ بداية الحرب، بالإضافة إلى نحو 4 آلاف حالة وفاة، كما يعاني اليمن انتشار الملاريا، حيث أصيب أكثر من 1.1 مليون شخص بالمرض.
وبالإضافة إلى تدمير النظام الصحي، يعاني اليمن نقصاً حاداً في الغذاء والماء، وفي عام 2023، أشار برنامج الغذاء العالمي إلى أن نحو 16 مليون شخص في اليمن يعانون انعدام الأمن الغذائي، ما يزيد من معدلات سوء التغذية، خصوصاً بين الأطفال، ووفقاً للمنظمة، فإن أكثر من 2 مليون طفل يعانون سوء التغذية الحاد، ما يعرضهم لخطر الأمراض ويزيد من معدلات الوفاة.
تدهور النظم الصحية
في سوريا، تواصل الحرب التي اندلعت في عام 2011 تدمير النظام الصحي بشكل غير مسبوق، ووفقاً للجنة الدولية للصليب الأحمر، دُمر أكثر من 50% من المستشفيات والمرافق الصحية، ما جعل ملايين السوريين في حاجة ماسة إلى الرعاية الصحية التي لم تعد متاحة بشكل كافٍ، وتشير الإحصاءات إلى أن 11 مليون شخص في سوريا بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، بينهم 6.7 مليون شخص بحاجة إلى الرعاية الصحية.
وبات انتشار الأمراض المعدية أحد التحديات الصحية الكبرى في سوريا. تم تسجيل أكثر من 40 ألف حالة إصابة بالكوليرا منذ عام 2022، بسبب تدهور شبكات الصرف الصحي وتلوث المياه، كما زادت حالات الإصابة بالأمراض التي كان يمكن الوقاية منها، مثل الحصبة، حيث تم تسجيل أكثر من 13 ألف حالة في عام 2023 فقط، ويعاني نحو 2 مليون طفل سوري من سوء التغذية، ما يزيد من معاناتهم الصحية ويضاعف من معدلات وفيات الأطفال.
وفي السودان، تواصل الأزمات الصحية الناتجة عن النزاعات المستمرة منذ عقود. وفقاً لتقرير الأمم المتحدة لعام 2023، فإن نحو 9.4 مليون شخص في السودان بحاجة ماسة للرعاية الصحية الأساسية، ويعاني السكان الأمراض المعدية وسوء التغذية بشكل كبير، حيث تم تسجيل أكثر من 500 ألف حالة إصابة بالملاريا في عام 2022، كما أدى النزاع إلى إغلاق أكثر من 50% من المنشآت الصحية، ما يعوق تقديم الرعاية الصحية للمتضررين.
ويشهد السودان أزمة غذائية طاحنة، حيث يعاني أكثر من 9 مليون شخص انعدام الأمن الغذائي، تتأثر هذه الأوضاع بشكل خاص بالأطفال الذين يعانون سوء التغذية الحاد، ما يضاعف من أخطار إصابتهم بالأمراض الأخرى، ويزيد من معدلات الوفاة.
وفي فلسطين، فإن الحصار المفروض على قطاع غزة والضفة الغربية يزيد من تعقيد الوضع الصحي، ووفقاً لتقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2023، فإن أكثر من 50% من الأدوية الأساسية غير متوفرة في قطاع غزة، ما يؤدي إلى تعطيل قدرة المستشفيات على تقديم الرعاية الصحية اللازمة، كما أن القيود المفروضة على حركة الأطباء والمعدات الطبية تزيد من تفاقم الأزمة الصحية.
تفشي الأمراض المزمنة والإصابات الناتجة عن الحروب، ليس الوحيد الذي يعانيه الفلسطينيون، بل أيضاً الأمراض النفسية، خاصة بين الأطفال الذين فقدوا ذويهم أو يعيشون في بيئات غير مستقرة، ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة، يعاني أكثر من 1.5 مليون فلسطيني اضطرابات نفسية نتيجة للحروب المستمرة والضغوط اليومية.
وتسهم الحروب في تدمير البنية التحتية للنظام الصحي في هذه الدول، ما يعمق معاناة السكان المدنيين، ولا تقتصر آثار الحروب على تدمير المستشفيات، بل تشمل أيضاً انعدام الأمن الغذائي والماء، ما يؤدي إلى زيادة في الأمراض المرتبطة بسوء التغذية، وارتفاع في معدلات وفيات الأطفال.
كارثة تحتاج لتدخل عاجل
أكد الإعلامي اليمني صادق القدمي، أن النزاعات المستمرة في العديد من الدول العربية، وخاصة في اليمن وسوريا والسودان وفلسطين، قد أسفرت عن تدمير شبه كامل لأنظمة الرعاية الصحية في هذه الدول، ما فاقم الأوضاع الإنسانية بشكل غير مسبوق وترك المدنيين في مواجهة كارثة صحية متواصلة.
وأوضح القدمي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن اليمن يشهد واحدة من أسوأ الأزمات الصحية في العالم، حيث تسبب انقلاب ميليشيا الحوثي على الدولة في عام 2014 في تدمير المرافق الصحية بشكل كبير، حيث يعاني أكثر من 21.6 مليون شخص، أي ما يعادل ثلثي سكان البلاد، من نقص حاد في الوصول إلى الخدمات الصحية. كما أدى النزاع إلى انتشار أمراض خطِرة مثل الكوليرا، التي تم تسجيل أكثر من مليون حالة إصابة بها منذ عام 2017، فضلاً عن تفشي سوء التغذية الحاد، حيث يعاني نحو مليوني طفل سوء التغذية الحاد، ما يهدد حياتهم بشكل كبير.
وتابع، في سوريا كانت الأوضاع الصحية أكثر مأساوية مع استمرار الحرب بين النظام السوري وقوى المعارضة، أما في السودان، فقد شهد القطاع الصحي انهياراً تاماً جراء الصراع المستمر الذي تفجر في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع، ووفقًا لمنظمة "أطباء بلا حدود"، تم إغلاق نحو 70% من المستشفيات في العاصمة الخرطوم، ما جعل الآلاف من المرضى والمصابين عالقين دون رعاية طبية.
وشدد الإعلامي اليمني على أن تدمير البنية التحتية الصحية في هذه البلدان ليس مجرد أمر طارئ، بل هو أحد العوامل الرئيسة التي تؤدي إلى انتشار الأوبئة وارتفاع معدلات الوفاة، إذ تعرقل النزاعات بشكل كبير حملات التطعيم ضد الأمراض، وتحد من إمكانية توفير مياه نظيفة وصرف صحي آمن، ما يسهم في تفشي أوبئة مثل الكوليرا والتيفوئيد والتهاب الكبد الوبائي، التي تتسبب في مقتل الآلاف من المدنيين.
وأشار القدمي، إلى أنه في ظل هذه الكوارث الصحية التي يعانيها المواطنون في هذه البلدان، دعا القدمي المجتمع الدولي إلى مضاعفة الجهود لضمان وصول المساعدات الإنسانية والطبية. وأكد أن فتح ممرات آمنة للمساعدات ورفع القيود على دخول الأدوية والمستلزمات الطبية يجب أن يكون أولوية عاجلة، بالإضافة إلى تعزيز تمويل المنظمات الإغاثية التي تعمل على تقديم الدعم في هذه المناطق المتضررة.
وبين القدمي أن إعادة بناء النظم الصحية في هذه الدول يتطلب رؤية شاملة تبدأ من إصلاح البنية التحتية المدمرة، مروراً بتدريب الكوادر الصحية المحلية، وصولاً إلى توفير الدعم النفسي للسكان الذين عايشوا سنوات من الحرب والعنف، وأصبحت الصحة النفسية لهم جزءاً أساسياً من عملية إعادة البناء.
تأهيل القطاعات الصحية
أكدت الناشطة الحقوقية أشوق عبد الجليل، أن الأزمة الصحية الناتجة عن النزاعات المسلحة في العديد من الدول العربية تتطلب استجابة منسقة وفعالة من المجتمع الدولي، عبر الأمم المتحدة والدول المانحة والمنظمات الإنسانية مثل منظمة أطباء بلا حدود والصليب الأحمر. وأوضحت أن هذه الاستجابة يجب أن تتم من خلال التفاوض مع أطراف النزاع لضمان تحييد الفرق الطبية وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المتضررة.
وشددت في تصريحات لـ"جسور بوست"، على أهمية متابعة وتقييم كفاءة العمل الإنساني في مناطق النزاع، وخاصة فيما يتعلق بتوفير الأدوية واللقاحات الأساسية للمواطنين. وأضافت أن من الضروري تزويد المستشفيات والمراكز الصحية بالوقود والمستلزمات الضرورية لاستمرار عملها في بيئة مأزومة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة كما أكدت أن هناك حاجة ماسة لمراقبة صلاحية بيئة العمل ومدى جودتها، وضمان تزويد المنشآت الصحية بالدعم اللوجستي اللازم لضمان وصول المساعدات إلى من يحتاجها في أسرع وقت ممكن.
وأضافت عبد الجليل، أن الاستراتيجيات المتاحة في هذا السياق يجب أن تبدأ بتحديد حجم الاحتياج الصحي الفعلي، وذلك من خلال دراسة دقيقة للواقع المحلي لكل منطقة متضررة من النزاع. وفي هذا الصدد، أكدت ضرورة إعادة تأهيل المستشفيات والوحدات الصحية التي تعرضت للتدمير جراء الصراع، وتزويدها بالأجهزة والمعدات اللازمة لضمان قدرتها على تقديم الرعاية الصحية.
وذكرت أن إعادة تأهيل القطاع الصحي يتطلب أيضًا تدريب وتأهيل الكوادر الصحية المحلية التي عملت في ظروف قاسية، فضلاً عن تبني برامج الصحة العامة التي تشمل التغذية والنظافة.
وأكدت عبد الجليل، ضرورة البحث عن مصادر تمويل ودعم لهذه البرامج الحيوية، بالإضافة إلى تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص لضمان استدامة العمل الإنساني في هذا المجال. وأشارت إلى أن التعاون بين هذه الأطراف سيكون أساسياً في ضمان تقديم الدعم الفعّال للمواطنين، ولا سيما في ظل الظروف المعيشية الصعبة التي تعيشها هذه البلدان.
وأوضحت أن تدمير البنية التحتية في الدول المتأثرة بالنزاعات لا يؤثر فقط في الخدمات الصحية، بل يمتد تأثيره ليشمل الصحة العامة بشكل عام. فقد أسهمت الحروب في انتشار الأوبئة والأمراض المعدية بشكل غير مسبوق، ما يزيد من معاناة المدنيين. كما أن صعوبة الوصول إلى المرافق الصحية بسبب الدمار المستمر في البنية التحتية، وتدهور الخدمات الصحية، أدت إلى تعميق الأزمة الصحية في هذه المناطق.
وأشارت إلى أن هذا الوضع يزيد من الأعباء المالية على المواطنين، الذين يجدون أنفسهم مضطرين إلى اللجوء إلى الخدمات الصحية الخاصة، التي تضع عبئاً إضافياً على كاهلهم. وأضافت أن هذا العبء المالي قد يدفع البعض إلى التراجع عن العلاج أو اللجوء إلى البدائل غير العلمية مثل الطب البديل أو الدجالين، وهو ما يزيد من تعقيد الأزمة الصحية ويهدد صحة الأفراد والمجتمعات بشكل عام.
وشددت على ضرورة تكثيف الجهود الإنسانية الدولية والإقليمية للتخفيف من هذه الأوضاع الكارثية، والعمل على تحسين بيئة العمل الصحية في مناطق النزاع لضمان توفير الرعاية الصحية الضرورية للمدنيين.