الحقوقي عمر المسالمة: السوريون لن يقبلوا استبدادًا جديدًا.. والسلطة الحالية لا تملك مشروعًا لحقوق الإنسان (حوار)
إطالة المرحلة الانتقالية في سوريا ستؤدي لاضطراب سياسي ينتهي بإعادة إنتاج الاستبداد
قبل أشهر قليلة، لم يكن أحد يتوقع أن تتداعى الأحداث بهذه الوتيرة الدرامية في سوريا التي عاشت قرابة 14 عاماً من الحرب الأهلية، ففي أيام قليلة، سقط النظام، ورحل بشار الأسد وأسرته إلى روسيا، واستولت المعارضة المسلحة على قصر الشعب في دمشق وتولت زمام الأمور خلال أيام.
كانت المفاجأة كبيرة، وحملت إلى المعذبين داخل البلاد أو الذين هاجروا وانتشروا في دول العالم كلاجئين آمالاً جديدة في سوريا تحترم آدميتهم، وتتسع للجميع، وتحترم حقوق الإنسان، فيما سيطرت نظرة تشاؤمية على قطاع كبير آخر من السوريين بالنظر إلى الخلفية الجهادية للحكام الجدد، ونظرتهم إلى مسائل مثل حقوق الإنسان والمواطنة والعدالة الانتقالية.
ويتوقف كثير من المتابعين والمهتمين بالشأن السوري عند عدد من الأحداث الرئيسية، تتمثل في الأحداث الدموية التي شهدتها منطقة الساحل السوري التي تسكنها أغلبية الطائفة العلوية التي خرج منها الرئيس حافظ الأسد ونجله بشار اللذان أذاقا السوريين صنوفاً من التعذيب والتنكيل لقرابة 50 عاماً، وتوقيع اتفاق إدماج الأجهزة العسكرية والمدنية في قوات سوريا الديمقراطية ضمن مؤسسات الدولة السورية، وصولاً للإعلان الدستوري المنظم للمرحلة الانتقالية.
وفي حوار مع «جسور بوست» سلط الأمين العام لفرع المنظمة العربية لحقوق الانسان في شمال أوروبا، الحقوقي السوري عمر المسالمة، الضوء على أبرز شواغل المجتمع الحقوقي السوري، ومخاوف الارتداد إلى الديكتاتورية بالنظر إلى طول مدة المرحلة الانتقالية المقررة بـ5 سنوات يسيطر فيها الرئيس أحمد الشرع على أغلب السلطات في البلاد. ورؤيته للعدالة الانتقالية والتحول الديمقراطي وشواغل السوريين بالنظر إلى الأحداث المتسارعة التي شهدتها البلاد خلال الأشهر التي تلت رحيل الأسد.
وإلى نص الحوار..
ما ملاحظاتك على الإعلان الدستوري الجديد المقرر للمرحلة الانتقالية؟
بدايةً، سبق الإعلان الدستوري مؤتمر الحوار الوطني الذي كان من دون تمثيل شعبي حقيقي، ووفق آليات غير شفافة، ولم ينتج عنه حوار شامل، ما جعله ناقصاً في التمثيل والمضمون والمخرجات، وأفقده الشرعية الوطنية، وعزز من التحفظ على كونه نتيجة ترتيبات ضيقة.
تلا ذلك، الإعلان الدستوري الذي أُعد بشكل أحادي من قبل لجنة تابعة للإدارة المؤقتة، دون إشراك حقيقي للقوى الوطنية أو لمكونات المجتمع السوري، وهو تكريس للإقصاء والتفرد في اتخاذ القرارات، ويُعد خطوة معاكسة لأي مشروع وطني ديمقراطي جامع.
وأبرز ملاحظاتنا على الإعلان الدستوري تتمثل في غياب أي ذكر لكلمة الديمقراطية في تحديد شكل الحكم الجديد، رغم أننا في سياق مرحلة تحول وطنية تقطع مع نظام الاستبداد السابق، ما يترتب عليه عدم وجود أي ضمانة دستورية تمنع الالتفاف مستقبلاً على التعددية السياسية والتمهيد لسلطة مطلقة. كما أن الإعلان لا يضمن وجود سلطة قضائية مستقلة، حيث تسمح المادة 47 للرئيس بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، كما يغيب عنه تحديد صلاحيات ودور هذه المحكمة التي يفترض أن تكون ناظمة للتوازن بين السلطات.
كيف يضمن السوريون تشكيل برلمان يمثلهم في حين أنه من صلاحيات الرئيس تعيين ثلث الأعضاء؟
الإعلان الدستوري يمنح للرئيس سلطات مطلقة دون أي رقابة دستورية، حيث يتولى الرئيس صلاحيات منصب رئيس الوزراء، ويقوم بتعيين ثلث أعضاء مجلس الشعب، وهو تدخل ليس له مسوغ في السلطة التشريعية يضعف قدرتها على التشريع والرقابة، كما يقوم بتعيين أعضاء المحكمة الدستورية العليا، ما يجعل قرارات الرئيس والسلطة التنفيذية غير خاضعة للرقابة، ويهدد مبدأ الفصل بين السلطات. وفي المقابل، لم يأت الإعلان في أي مادة منه على آلية مساءلة رئيس الجمهورية، أو الحالات التي يمكن فيها عزله، أو ما السلطة التي تخضع أعماله لرقابتها.
فضلاً عن ذلك، يتحدث الإعلان الدستوري عن إنشاء هيئة للعدالة الانتقالية تختص فقط بالجرائم التي ارتكبها النظام السابق؛ متجاهلاً الجرائم التي ارتكبتها الأطراف الأخرى بحق السوريين، كما يحدد الإعلان فترة انتقالية طويلة مدتها 5 سنوات، وبالمقابل يغيب عنه وجود آليات واضحة لصياغة دستور دائم والجهة المسؤولة عن كتابته وكيفية اعتماده، ما يعني أن البلاد ستعيش لفترة طويلة نسبياً في حالة من عدم الاستقرار الدستوري والاضطراب السياسي؛ ولذلك نعد هذا الإعلان انتقاصاً من سيادة الشعب؛ إذ يؤسس للتفرد وفرض سلطة الأمر الواقع.
هناك من يقول إن إطالة الفترة الانتقالية لـ5 سنوات بداية لإعادة إنتاج نظام ديكتاتوري.. ما رأيك؟
بالفعل هي فترة طويلة، ورغم ذلك، نحن لا نركز على المدة الزمنية بقدر ما نركز على طبيعة السلطة الانتقالية وتوافقها مع مصالح السوريين وتمثيلها الحقيقي لهم، وإطالة المرحلة الانتقالية دون مشاركة وطنية حقيقية وتوازن في مؤسسات الحكم وغياب الآليات الوطنية لصياغة دستور دائم للبلاد، ستؤدي فعلاً إلى اضطراب سياسي ينتهي بإعادة إنتاج الاستبداد.
هل السلطة الحالية (بخلفيتها الجهادية) قادرة على بناء دولة مواطنة؟
السلطة الحالية مؤقتة، وشرعيتها الشعبية والدولية ناقصة، كما أنها لا تمتلك الرؤية اللازمة لبناء دولة المواطنة، خصوصاً أنها جاءت نتيجة تدخلات خارجية، وكانت مدفوعة بخلفية أيديولوجية جهادية؛ لذا فإن استمرار هذه السلطة بصيغتها الحالية سيسهم في تفتيت المجتمع وتكريس الانقسام، ومن الضرورة بمكان العمل على إصلاح أو تغيير هذه البنية وإعادة بناء مؤسسات الدولة من جديد على أسس الوطنية والكفاءة والشرعية الشعبية.
بماذا تخبرنا أحداث القتل الجماعي في الساحل؟
بدأت الأحداث ليلة الخميس 6 مارس 2025، مع وقوع هجمات متزامنة نفذتها عناصر موالية لنظام بشار الأسد ضد تشكيلات تابعة للحكومة المؤقتة، وهو ما أسفر عن مقتل 125 من القوات التابعة للحكومة المؤقتة، ورافق هذه الهجمات احتجاجات وتجمعات مناهضة للحكومة المؤقتة وسياساتها التي استهدفت العلويين على صعيد الحريات والأمان والأرزاق.
أرسلت الحكومة المؤقتة أرتالاً عسكرية نحو الساحل من عدة محافظات، ضمت قوات بينها مقاتلون أجانب في صفوفها، تبعها حالة من الغليان الشعبي ودعوات لحمل السلاح ومساندة القوات الأمنية والعسكرية في المناطق الموالية لها، ما أدى إلى أحداث مؤلمة وعمليات تصفية على أساس إثني ومناطقي، راح ضحيتها 1676 من المواطنين المدنيين بينهم نساء وأطفال، إضافة إلى آلاف المفقودين، ومئات الجثث المحتجزة في ثلاجات حفظ الموتى داخل المستشفيات دون تسليمها لذوي الضحايا، والبعض منهم من أسر معارضي نظام بشار الأسد.
ما جرى في الساحل من مجازر هو مسؤولية الحكومة المؤقتة باعتبارها سلطة الأمر الواقع، وهو نتيجة سياساتها بالتسامح مع مرتكبي الجرائم من نظام بشار الأسد، واستهداف العلويين كطائفة على صعيد الحريات والأمان والأرزاق. وتُعد هذه الجرائم اختباراً حقيقياً لجدية العدالة الانتقالية، ولا بد من أن تُحقق فيها جهات مستقلة وذات مصداقية، ومحاسبة المسؤولين عنها من جميع الأطراف بصرامة لضمان عدم تكرارها.
في تقديرك.. هل الشعب السوري قادر على الثورة ضد السلطة الجديدة حال تكرار أسلوب آل الأسد في الحكم؟
أؤمن أن الشعب السوري، بعد كل ما قدّمه من تضحيات، لن يقبل بأي استبداد جديد. وفي حال تكرار نموذج آل الأسد، فإن السوريين سيقاومون ذلك لأنهم تعلموا أن لا بديل عن الحكم الديمقراطي العادل، وأن دولة المواطنة المتساوية هي الطريق الوحيد لهم للخلاص والرفاه، وأن تكلفة الصمت أكبر بكثير من مواجهة الاستبداد.
لماذا تغيب المرأة السورية عن السلطة مع النظام الجديد؟
تغييب المرأة هو استمرار للنهج الاستبدادي والإقصائي؛ فالمرأة السورية كانت شريكاً أساسياً في الثورة، وتحملت مسؤولياتها باختلاف مواقعها وأداورها، ولا بد من أن يكون صوتها حاضراً ومسموعاً في كل مؤسسات الدولة. ولهذا لا بد من اعتماد نظام كوتة لا تقل عن 25%، وتشجيع تمكين المرأة، خاصة في المناطق الريفية والمخيمات، بما يعزز دورها في الحياة السياسية والاجتماعية.
أين تقع حقوق الإنسان من سياسات السلطة الحالية؟
أي سلطة حقيقية يجب أن تُبنى على احترام حقوق الإنسان كمبدأ غير قابل للتفاوض. وبرأيي أن السلطة الحالية عاجزة عن ضمان الحقوق الأساسية للإنسان السوري، سواء على مستوى الحريات أو العدالة أو الكرامة، لأنها تركّز على البقاء في الحكم، والاستحواذ على الموارد، والتعامل مع القوى الدولية، ولا تضع في أولوياتها أي مشروع لضمان الحقوق والحريات. وبالتالي لا توجد استراتيجية واضحة لحماية حقوق المواطن أو الطفل أو المرأة أو الأقليات أو المهجّرين، بل يتم التعامل معهم لاعتبارات سياسية.
والحكومة المؤقتة تفتقر إلى منظومة قانونية تكفل الحقوق والحريات، ولا يوجد فصل فعلي بين السلطات، إضافة إلى غياب المؤسسات الرقابية المستقلة، ما يعني غياب أي رادع حقيقي لانتهاكات حقوق الإنسان. كما أن بعض أجهزة الأمن المستحدثة، اليوم، ما زالت تعمل بنفس الأساليب القمعية السابقة كالاعتقال التعسفي والتعذيب والإخفاء القسري وغياب المحاكمات العادلة. وما جرى في الساحل أخيراً هو انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان، بما في ذلك القتل خارج القانون والتهجير والقصف العشوائي. إضافة إلى حلّ جميع منظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية، والتضييق على حرية التعبير و التظاهر، ما يعني غياب المجتمع المدني الفاعل داخل البلاد والذي يمكنه محاسبة السلطة وتوثيق الانتهاكات بحرية.
ما مدى إمكانية تطبيق العدالة الانتقالية للسوريين وتعويضهم عن سنوات حافظ وبشار الأسد؟
العدالة الانتقالية من أهم ركائز المرحلة الانتقالية، وتشمل التحقيق والمحاسبة والتعويض وضمان عدم التكرار. ولتحقيق العدالة لا بد من تأسيس هيئة وطنية مستقلة تتعاون معها كل الجهات التي وثقت الانتهاكات، وتوفر البيئة الآمنة للضحايا، وسحب الدعم المحلي والدولي عن كل من أجرم بحق السوريين من النظام السابق، ولكن يجب أن تطبق العدالة الانتقالية أيضاً بحق الأطراف الأخرى المتورطة بأعمال إرهابية وجرائم بحق السوريين، وهذا ما لا يشمله الإعلان الدستوري الصادر عن الحكومة المؤقتة، وأعتقد أن كل السوريين يملكون الإرادة والرغبة للمضي قدماً بطريق العدالة الانتقالية لأنها الطريق الوحيد للمصالحة الوطنية بعد رد الحقوق إلى أصحابها والذي يسمح لنا بدفن جراح الماضي وإعادة بناء اللحمة الوطنية بين مختلف مكونات وشرائح المجتمع السوري.
ماذا عن محاكمة بشار الأسد ورموز نظامه أمام المحكمة الجنائية الدولية؟
نؤيد مبدأ المحاسبة للجميع دون استثناء، وندعو لتقديم كل من تلطخت يداه بالدم السوري، بمن فيهم بشار الأسد و رموز نظامه، إلى محاكم وطنية سورية عادلة كجزء من مسار العدالة الانتقالية.
ما توقعاتك لمسار التحول الديمقراطي في البلاد؟
التحول الديمقراطي هو الخيار الوحيد لإنقاذ البلاد، والحلول الترقيعية لن تنفع. والتحول الديمقراطي يبدأ بمؤتمر حوار وطني جامع يعيد الشرعية للشعب السوري ويكون نقطة تحول مفصلية في مسار الخروج من الأزمة السورية نحو حل سياسي شامل وعادل يلبي مصالح السوريين جميعاً، اعتماداً على التوافق الوطني وخارطة طريق واضحة للانتقال الديمقراطي، تشمل: دستوراً جديداً، وانتخابات حرة، وعدالة انتقالية، وهيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة تكون مسؤولة عن إعادة هيكلة مؤسسات الدولة، خصوصاً الجيش والأمن.
كيف تؤثر الهجمات الإسرائيلية المتتالية في مسار هذا التحول الديمقراطي؟
تؤثر الهجمات الصهيونية بشكل خطِر في مسار التحول الديمقراطي من عدة جوانب استراتيجية وسياسية وأمنية، فهي تُعمّق من حالة اللاستقرار وتضعف شروط الانتقال السياسي الحقيقي؛ حيث إن أي مشروع ديمقراطي يتطلب أولاً استعادة السيادة الوطنية للتركيز على الحوار الوطني وتحقيق المصالحة الوطنية وبناء مؤسسات الدولة، وهذه الهجمات تؤدي إلى تغيير أولويات الدولة والمؤسسات لتنصب على البقاء والردع، وليس على التحول الديمقراطي، ما يؤدي إلى إعادة إنتاج مناخ الخوف والطوارئ، ويُضعف مناخ الحريات ويفتح الباب لقمع المعارضين السياسيين، أو تأجيل الإصلاحات بحجة "الظرف الأمني". كما تمنح الهجمات مسوغاً لبعض القوى المتورطة في الانتهاكات لتأجيل أي مساءلة بحجة "الخطر الخارجي"، ما يعوق العدالة الانتقالية.
وكلما ازدادت وتيرة الاعتداءات الخارجية، زادت تبعية بعض الأطراف الداخلية لقوى دولية أو إقليمية، وهذا يؤدي إلى عرقلة القرار الوطني المستقل، ويُضعف قدرة السوريين على قيادة مسارهم بأنفسهم. ومع كل هجوم إسرائيلي هناك خطر انفجار إقليمي أوسع، ما يُنذر بحرب جديدة تقوض أي بيئة آمنة مطلوبة للانتقال السلمي، ما يدفع الأطراف الدولية إلى مزيد من التدخل في الشؤون الداخلية لسوريا.
نحن -المجتمع الحقوقي- ندين هذه الاعتداءات بشدة، ونراها انتهاكاً للسيادة السورية، ومن الضرورة سرعة العمل على إعادة بناء جيش وطني قوي قادر على رد العدوان وتحرير الأراضي المحتلة، وكذلك من الضرورة بمكان العمل على إخراج كافة القوى الأجنبية الأخرى، ومواجهة كل الاعتداءات والتجاوزات الإقليمية والدولية على الأراضي السورية لتأمين استقلال القرار الوطني.
هل أنت متفائل بمستقبل سوريا، ولماذا؟
رغم التحديات الكثيرة، لدي تفاؤل مشروط، فإذا توحدت القوى الوطنية الديمقراطية، وتم تعديل سلوك أو استبعاد القوى المستبدة والمتطرفة، وفتح المجال لمشروع سياسي جامع، فهناك أمل حقيقي في سوريا جديدة ديمقراطية، والضامن الحقيقي لمستقبل سوريا هو إرادة شعبها واختياره، وكلي أمل أن يتمكن السوريون من تجاوز انتماءاتهم ما قبل الوطنية الطائفية والإثنية والمناطقية ويتشكل إجماع شعبي على بناء دولة المواطنة المتساوية لكل أبنائها.