حين يتحوّل النهر إلى رهينة.. الشعب العراقي يعاني من تراجع حقه في المياه
حين يتحوّل النهر إلى رهينة.. الشعب العراقي يعاني من تراجع حقه في المياه
في بلاد الرافدين، حيث خطّت المياه أولى أبجديات الحضارة، ودوّن الإنسان أول القوانين على ألواح الطين، يمر العراق اليوم بأزمة مائية تهدد جوهر وجوده.. هي ليست مجرد أزمة بيئية، بل قضية حقوقية تمس الحياة الكريمة لملايين من البشر، وعلى ضفاف دجلة والفرات، تنهار وعود الازدهار تحت وطأة جفاف لم يعرفه البلد منذ ثمانية عقود.
بحسب المتحدث باسم وزارة الموارد المائية، خالد شمال، فإن العراق سجّل أدنى مستوى للمياه منذ 80 عاماً، كما أن الخزين الاستراتيجي لا يتجاوز 10 مليارات متر مكعب، في حين أن الحاجة الفعلية تقتضي 18 ملياراً مع بداية موسم الصيف، ما دفع الحكومة إلى تقليص المساحات الزراعية لحماية مياه الشرب لـ46 مليون نسمة.
وتراجعت نسب المياه لأسباب عديدة، منها، موسم أمطار ضعيف، تراجع ذوبان الثلوج، وتقليص متزايد لحصة العراق من نهري دجلة والفرات، إلى أقل من 40% من حصته الطبيعية، نتيجة سياسات دول المنبع.
هذا التراجع الحاد لا يعكس فقط خللاً في التوزيع الإقليمي للمياه، بل يمثل انتهاكاً لحق العراق في العدالة المائية. كيف يمكن لبلد أن يعيش على أطلال أنهاره، بينما تتحكم دول الجوار بمنابعه دون اتفاقيات عادلة أو شفافة؟ كيف يمكن تبرير حرمان الملايين من المياه في حين تُملأ السدود خارج الحدود وتُحجز المياه لأغراض استراتيجية وسياسية؟
الحق في المياه ليس رفاهية، بل هو مكوّن أساسي من الحق في الحياة، كما نصت عليه المواثيق الدولية، الأمم المتحدة تعتبر المياه حقًا من حقوق الإنسان الأساسية، فحين يجف النهر، يجف حق الإنسان في البقاء، في الغذاء، في العمل، وفي السكن، وها هو العراق الآن يواجه تجليات هذه الكارثة في كل بيت وقرية ومدينة.
وبات المزارع العراقي، الذي كان يفخر بتوريث أرضه وحرثها لأبنائه، عاجزًا عن ريّ زرعه، الحكومة العراقية اضطرت لتقليص الخطة الزراعية هذا الصيف لتقتصر على نحو مليون ونصف مليون دونم فقط، بهدف حماية المزروعات القائمة.. بينما في صيف العام الماضي سُمح بزراعة مليونين ونصف المليون دونم، وهو مؤشر على التدهور المستمر، الأراضي التي كانت تعج بالقمح والشعير والخضار، باتت أرضًا قاحلة.
دفع الآلاف للهجرة
الانعكاسات الاقتصادية لهذا الجفاف هائلة، فالزراعة، التي توظف نسبة كبيرة من سكان الأرياف، تنهار أمام العطش، ما يدفع الآلاف للهجرة نحو المدن، ويزيد الضغط على البنية التحتية الهشة، والبطالة ترتفع، الأمن الغذائي يتراجع، والأسعار تتضخم، في ظل عجز الحكومة عن تحقيق الاكتفاء الذاتي أو تأمين بدائل.
وكل ذلك يمثل انتهاكاً واضحاً للحق في الغذاء والعمل والسكن، وهي حقوق اقتصادية واجتماعية مضمونة في العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
وأطلقت الحكومة العراقية، رغم محدودية أدواتها، مبادرة إقليمية لحماية دجلة والفرات، أعلن عنها رئيس الوزراء محمد شياع السوداني خلال مؤتمر بغداد الدولي الخامس للمياه، حيث تهدف المبادرة إلى حشد دعم دولي وزيادة الضغط الدبلوماسي على دول الجوار.
ويعد غياب اتفاقيات شاملة وشفافة بين دول الحوض أحد أبرز أسباب تفاقم الأزمة. ومن غير الممكن معالجة المسألة مائيًا فقط دون إطار قانوني يُنظم حقوق الدول ويُحدد التزاماتها. لا يمكن لأي مبادرة أن تنجح ما لم تتأسس على مبادئ العدالة، والمساءلة، والشفافية، وحق الشعوب في المشاركة باتخاذ القرار بشأن مواردها الطبيعية.
أزمة المياه في العراق
قال نقيب صحفيي إقليم كردستان العراق، آزاد حمد أمين، إن أزمة المياه في العراق، تحديدًا في مناطقه العربية، تشكّل تحديًا متعدد الأبعاد يتجاوز الأطر البيئية إلى عمق السياسات الإقليمية والداخلية المتشابكة، محذرًا من أن استمرار هذا التراجع في الموارد المائية يُهدد البنى الاقتصادية والاجتماعية ويكشف عن غياب التخطيط الاستراتيجي القائم على السيادة والاستقلال في القرار السياسي.
وأوضح أمين، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن أحد الأسباب الجوهرية لانخفاض منسوب المياه في العراق هو التغير المناخي العالمي، المتمثل بانخفاض كميات الأمطار وتقلص نسب الجريان السطحي.
لكنه أشار، في الوقت ذاته، إلى أن العامل الإقليمي لا يقل خطورة، فالمياه الواردة من تركيا، والتي تُعد المنبع الرئيسي لنهرَي دجلة والفرات، تأثرت بشدة نتيجة إنشاء أنقرة أكثر من عشرين سدًا مائيًا على مجرى النهرين، دون مراعاة الالتزامات القانونية الدولية أو التشاور مع العراق كدولة مشاطئة متضررة.
وأضاف أن إيران سلكت النهج ذاته، حيث أقدمت على تحويل مجاري أنهار وروافد رئيسية مثل نهر الزاب الصغير ونهر سيروان، ما أدى إلى انقطاع المياه عنها كليًا في بعض المناطق العراقية، وهذا التصرف، بحسب وصفه، تم دون أي اعتبار للاتفاقيات الدولية أو المبادئ الإنسانية المرتبطة بالحق في المياه.
وأشار نقيب الصحفيين إلى أن بعض الجداول التي كانت تغذي العراق سابقًا عبر منابعها في إقليم كردستان، وتعتمد على الينابيع، تراجعت بدورها بسبب شُح الأمطار، مما ضاعف من أثر الأزمة في مختلف أنحاء البلاد.
وعن موقف العراق من استرداد حقوقه المائية، قال أمين، إن العراق بات، للأسف، كـ"الحديقة الخلفية لإيران"، ولا يمتلك قراره السياسي المستقل، لا داخليًا ولا خارجيًا، وبالتالي فإن التحرك نحو المنظمات الدولية أو المحاكم المتخصصة لاسترداد حقوقه ما زال غائبًا بسبب الانقسام السياسي وهيمنة أطراف مذهبية على السلطة.
وأكد أن محاولات العراق في التفاوض مع تركيا تواجه عراقيل سياسية واضحة، في حين أن سياسة العراق تجاه إيران وصفها بـ"الخجولة"، ولا ترتقي إلى مستوى التحدي القائم، رغم خطورته على الأمن المائي والسيادة الوطنية.
واختتم آزاد حمد أمين تصريحه بدعوة العراق إلى إعادة النظر في آليات تعاطيه مع الأزمة المائية، داعيًا إلى أن يتحول الخطاب من الداخل إلى الخارج، وأن ينطلق العراق نحو حوار دولي، ويصالح نفسه أولًا عبر تنفيذ الدستور، وبناء دولة مدنية ترتكز على سيادة القانون والمؤسسات، بعيدًا عن التحاصص الطائفي والانقسام السياسي.
أزمة عدالة وكرامة إنسانية
من جانبها، قالت الناشطة الحقوقية أسماء رمزي، إن أزمة المياه التي يشهدها العراق لم تعد مجرد مسألة تتعلق بالبيئة أو التقلبات المناخية، بل تحوّلت إلى اختبار صارخ لمبادئ العدالة والكرامة الإنسانية في منطقة مضطربة. فالمياه، التي يُفترض أن تكون حقًا مشتركًا وإنسانيًا، تُعامل اليوم على نحو متزايد كأداة ضغط سياسية وورقة تفاوض جيوسياسية.
وأكدت رمزي، في تصريحات لـ"جسور بوست"، أن الحل الحقيقي لا يمكن أن ينبثق من إجراءات محلية معزولة أو تصريحات دبلوماسية، بل يجب أن يبدأ أولًا باعتراف إقليمي واضح بأن المياه ليست موردًا سياديًا خاصًا بدولة المنبع، بل ثروة طبيعية عابرة للحدود، تتطلب تفعيل آليات دولية قائمة على مبدأ "تقاسم المنفعة والضرر"، لا على منطق فرض السيطرة.
وتابعت: التزامات الحكومات الإقليمية بمبدأ العدالة المائية لا تزال موضع شك كبير رغم توقيع عدد من الاتفاقيات بين العراق وكلٍّ من تركيا وإيران.. إذ إن الواقع يكشف عن نمط متكرّر من التجاوزات والانفراد بالقرارات، من أبرزها قيام تركيا بإنشاء سدود ضخمة، وعلى رأسها سد إليسو، دون الرجوع إلى اتفاقيات ملزمة تضمن تدفّق المياه لدول المصب، ودون التشاور مع العراق الذي يعتمد على نهري دجلة والفرات.
وأضافت أن إيران، من جهتها، قامت بتحويل مجاري عدد من الروافد المغذية لنهر ديالى، ما أدى إلى تراجع حاد في تدفق المياه، وتسبّب بأضرار كبيرة للأراضي الزراعية العراقية، دون أن تبدي طهران أي التزام واضح بمبدأ الشفافية أو التعاون الإقليمي.
واعتبرت رمزي أن ضعف العراق في هذا الملف لا يعود فقط إلى ضغوط الجغرافيا السياسية، بل إلى غياب آليات إقليمية فعالة تلزم الدول بالاعتراف بالمياه كحق إنساني. وهو ما يضعف موقف العراق التفاوضي ويجرده من القدرة على المطالبة بحصته العادلة، في ظل افتقاره للدعم الدولي الكافي لتفعيل أدوات القانون الدولي الإنساني والبيئي في هذا السياق.
وأوضحت رمزي أن الحق في الغذاء بات مهددًا، فتقلص المساحات المزروعة نتيجة الشح المائي أدّى إلى انخفاض ملحوظ في الإنتاج الزراعي المحلي، الأمر الذي زاد من اعتماد العراق على الاستيراد، ورفع أسعار الغذاء بشكل خطير، ما أضر مباشرة بالأمن الغذائي، وخصوصًا بين الفئات الأشد فقرًا.
كما أُضيفت آلاف الأسر الريفية إلى قوائم العاطلين عن العمل بسبب تدهور القطاع الزراعي، ما أدى إلى موجات متزايدة من الهجرة من الريف إلى المدن، في ظل بنى تحتية غير قادرة على استيعاب هذا النزوح.
وحذّرت رمزي من تداعيات إنسانية عميقة ناجمة عن تقليص الأراضي الزراعية، فالمجتمعات الريفية، التي كانت تعتمد على الزراعة كمصدر رئيس للدخل، تعاني اليوم من فقدان الأمن الغذائي، وارتفاع معدلات الفقر، وتفكك النسيج الاجتماعي نتيجة النزوح الجماعي نحو المناطق الحضرية، مشيرة إلى أن هذه التحولات تؤدي إلى تفشي أمراض مرتبطة بسوء التغذية وشح المياه، وتُقوّض الاستقرار المجتمعي في مناطق كانت إلى وقت قريب تعتمد على الاكتفاء الذاتي.
وفي ما يخص المبادرات الإقليمية لحل أزمة المياه، قالت رمزي، إن تلك المبادرات غالبًا ما تكون رهينة الحسابات السياسية والاقتصادية، حيث تغلُب المصالح الجيوسياسية، مثل السيطرة على منابع الأنهار أو استخدام المياه كورقة تفاوض، على الاعتبارات الإنسانية. وأضافت أن المفاوضات الجارية تفتقر إلى الطابع المؤسسي الدولي، ولا تستند إلى اتفاقات ملزمة طويلة الأمد تراعي البعد البيئي وحقوق الإنسان، بل تظل مقتصرة على تفاهمات ثنائية هشة، يسهل تجاوزها أو تجميدها حسب المزاج السياسي.
واختتمت رمزي حديثها بالتحذير من غياب الشفافية في إدارة هذا الملف، حيث يتم استبعاد المجتمع المدني والجهات الحقوقية من المشاركة في رسم السياسات المائية، وهو ما يسهم في تعميق الفجوة الإنسانية ويحدّ من إمكانية الوصول إلى حلول عادلة ومستدامة.