بين حرية الملبس وصراع الهوية.. تصريحات جينريك تعيد الجدل حول النقاب في بريطانيا
بين حرية الملبس وصراع الهوية.. تصريحات جينريك تعيد الجدل حول النقاب في بريطانيا
أعادت تصريحات روبرت جينريك، وزير العدل في حكومة الظل البريطانية، الجدل القديم حول حظر النقاب إلى واجهة المشهد السياسي والإعلامي في بريطانيا، بعد أن قال في مقابلة إذاعية إنه "على الأرجح سيدعم حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة"، معتبرًا أن ذلك "ضرورة للدفاع عن القيم البريطانية الأساسية".
التصريحات، التي جاءت في وقت يشهد فيه الخطاب السياسي البريطاني تصاعدًا في النقاشات حول الهوية الوطنية والهجرة والاندماج، أثارت عاصفة من ردود الفعل، بين من رأى فيها مساسًا مباشرًا بالحريات الدينية والشخصية، ومن اعتبرها محاولة لتأكيد الهوية الثقافية لبريطانيا في مواجهة ما يراه البعض تحديات ثقافية واجتماعية جديدة، وفق صحيفة “الغارديان” البريطانية.
قضية متجددة
لم يكن هذا الجدل جديدًا في بريطانيا، إذ تعود النقاشات حول النقاب إلى أكثر من عقدين. ففي عام 2006، أثارت تصريحات رئيس الوزراء الأسبق جاك سترو حول ضرورة كشف الوجه في المؤسسات العامة جدلاً مشابهًا، تبعته مناقشات متكررة داخل البرلمان حول مدى توافق ارتداء النقاب مع قيم المجتمع البريطاني.
غير أن بريطانيا لم تعتمد أي قانون يحظر النقاب حتى الآن، بخلاف دول أوروبية مثل فرنسا وبلجيكا والدنمارك التي تبنّت تشريعات تحظر تغطية الوجه في الأماكن العامة، وهو ما أدانته الأمم المتحدة آنذاك باعتباره انتهاكًا للحرية الدينية المكفولة بموجب العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية.
تأتي تصريحات جينريك في ظل تحولات سياسية حادة تشهدها بريطانيا، مع تصاعد شعبية حزب الإصلاح البريطاني في استطلاعات الرأي، واستمرار حالة الانقسام السياسي بعد البريكست.
ويرى مراقبون سياسيون أن جينريك، الذي يُعد من أبرز الأصوات اليمينية داخل حزبه، يسعى إلى استقطاب القاعدة المحافظة عبر تبني خطاب يُركّز على الدفاع عن القيم الوطنية، في وقت تتراجع فيه ثقة الناخبين في الأحزاب التقليدية.
ويُذكر أن جينريك كان قد أثار جدلاً سابقًا عندما قال في مقابلة لصحيفة "الغارديان" إنه لم يرَ "وجهًا أبيض واحدًا" خلال زيارته إلى برمنغهام، معتبرًا ذلك دليلاً على فشل الاندماج المجتمعي، وهي تصريحات وُصفت حينها بأنها ذات نزعة عنصرية.
ردود فعل سياسية وحقوقية
قوبلت تصريحات جينريك بموجة استنكار واسعة من شخصيات سياسية ومنظمات حقوقية بريطانية ودولية.
النائب العمالي سام راشورث وصفها بأنها معادية للبريطانيين ومخالفة للقيم التي تأسست عليها المملكة المتحدة، في حين قالت كيمي بادنوك، زعيمة حزب المحافظين، إن النساء يجب أن يكنّ أحرارًا في ارتداء ما يشأن، دون فرض أو منع، مؤكدة أن حرية الملبس هي جزء لا يتجزأ من الحرية الفردية في بريطانيا.
من جانبها، انتقدت منظمة العفو الدولية ما وصفته بـ"تسييس حرية المعتقد"، مؤكدة أن النقاب، كرمز ديني أو ثقافي، يجب أن يُعامل في إطار حرية التعبير والمعتقد التي تحميها الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
كما أصدرت منظمة هيومن رايتس ووتش بيانًا قالت فيه إن الدعوات إلى حظر النقاب "تؤدي إلى تأجيج خطاب الكراهية ضد النساء المسلمات وتُضعف جهود الاندماج المجتمعي".
أما مجلس مسلمي بريطانيا فقد عبّر عن قلقه من أن مثل هذه التصريحات تعزز مناخ الشك والتمييز تجاه الجاليات المسلمة التي تشكل نحو 6.5% من سكان المملكة المتحدة وفق إحصاءات مكتب الإحصاء الوطني لعام 2024.
الأبعاد القانونية والحقوقية
من الناحية القانونية، تشير اتفاقيات الأمم المتحدة إلى أن الحق في حرية المعتقد والهوية الدينية مكفول في جميع الأوقات.
وتؤكد المادة 18 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن لكل إنسان الحق في حرية الفكر والوجدان والدين، بما يشمل حرية إظهار الدين أو المعتقد بالعبادة أو الممارسة أو التعليم أو الشعائر.
وفي عام 2018، أدانت لجنة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة قرار فرنسا بحظر النقاب، معتبرة أنه يشكل "انتهاكًا لحقوق المرأة المسلمة في حرية المعتقد والتعبير"، ودعت الحكومات الأوروبية إلى إيجاد توازن بين الأمن العام والحريات الفردية.
في المقابل، يرى بعض الساسة المحافظين في بريطانيا أن القوانين الأوروبية المتعلقة بالرموز الدينية يجب أن تُراجع بما يتماشى مع الخصوصية الثقافية الوطنية، وهو ما يثير قلق المؤسسات الحقوقية من تراجع التزام لندن بالمواثيق الدولية بعد خروجها من الاتحاد الأوروبي.
أصوات من داخل المجتمع 44% من البريطانيين إنهم يدعمون فرض قيود على ارتداء النقاب في بعض الأماكن العامة، بينما عبّر 42% عن رفضهم لأي حظر، معتبرين أن حرية الملبس شأن شخصي لا يخضع لتشريعات الدولة.
المنظمات النسوية البريطانية بدورها دافعت عن حق المرأة في الاختيار، مشيرة إلى أن ربط النقاب بقضايا الأمن أو الاندماج يحمّل النساء مسؤولية جماعية عن مشكلات مجتمعية أوسع تشمل خطاب الكراهية والتمييز.
في المقابل، برّر بعض أنصار جينريك موقفه باعتباره "مسعى لحماية القيم المدنية"، مشيرين إلى أن تغطية الوجه الكامل قد تُعيق التواصل الاجتماعي وتطرح تحديات أمنية.
النقاب بين الحظر والحرية
قضية النقاب ليست حكرًا على بريطانيا، فقد واجهت مجتمعات غربية عدة نقاشات مشابهة منذ بداية الألفية.
في فرنسا، صدر قانون عام 2010 يحظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، أعقبه قانون مشابه في بلجيكا عام 2011، بينما تبنّت هولندا والنمسا والدنمارك قيودًا جزئية.
ورغم دفاع هذه الدول عن قوانينها تحت ذريعة الاندماج والأمن، فإن منظمات الأمم المتحدة والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان شددت في أكثر من مناسبة على أن الحظر الشامل لا يحقق الاندماج، بل يعمّق العزلة الاجتماعية للنساء المسلمات ويغذّي مشاعر الإقصاء.
وفي قلب هذا الجدل تبقى المرأة المسلمة البريطانية هي الأكثر تضررًا من التجاذبات السياسية.
الكثير من النساء اللاتي يرتدين النقاب أكدن، في تصريحات لوسائل إعلام محلية، أن اختيارهن نابع من قناعة دينية وشعور بالهوية الذاتية، وأن محاولات تقييده تشعرهن بـالوصم والتمييز.
وتشير تقارير المفوضية البريطانية للمساواة وحقوق الإنسان إلى أن حوادث الإسلاموفوبيا ضد النساء شهدت ارتفاعًا بنسبة 22% خلال عام 2024، ما يعكس حساسية الموقف وتأثير التصريحات السياسية على المناخ الاجتماعي العام.
تجد بريطانيا نفسها مجددًا أمام امتحان لقيمها الليبرالية العريقة التي تقوم على التعددية والحرية والمساواة أمام القانون.
تصريحات جينريك فتحت بابًا أوسع للنقاش حول حدود الحريات الشخصية والدينية في مجتمع متنوع، وكيف يمكن للدولة أن توازن بين الحفاظ على الأمن العام واحترام خيارات الأفراد.










