من الرموز إلى العقاب.. كيف تكافح بريطانيا معاداة السامية داخل مؤسسات الرعاية الصحية؟

من الرموز إلى العقاب.. كيف تكافح بريطانيا معاداة السامية داخل مؤسسات الرعاية الصحية؟
ستارمر خلال زيارته لمؤسسة الأمن المجتمعي (CST) المعنية بحماية الجالية اليهودية

أعلن رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر، اليوم الثلاثاء، عن حزمة إجراءات جديدة داخل هيئة الخدمات الصحية الوطنية (NHS) تستهدف مكافحة معاداة السامية وضمان بيئة عمل محايدة في القطاع الصحي، وتشمل الإجراءات حظر ارتداء الرموز أو الشارات ذات الطابع السياسي داخل أماكن العمل في NHS -مثل الشعارات المؤيدة لفلسطين أو غيرها- وإلزام جميع الموظفين بالخضوع فورًا لتدريب متخصص على مكافحة العنصرية ومعاداة السامية.

في هذا الإطار، ستصدر هيئة "NHS England" تعليمات محدثة حول زي العمل في المؤسسات الصحية، تنص على السماح بحرية التعبير الديني، مثل ارتداء الصليب أو نجمة داود، مع منع الرموز التي تعبّر عن مواقف أيديولوجية أو سياسية، وقد بررت وزارة الصحة هذا التعديل بأنه يأتي لحماية احترام المرضى وضمان حياد بيئة العمل وفق بوابة "عرب لندن".

وفي زيارته إلى مؤسسة "CST" المعنية بحماية الجالية اليهودية، قال ستارمر: "التمييز بسبب العِرق أو الدين يتعارض مع القيم التي ارتُكزت عليها بلادنا، الـNHS بُنيت على المساواة والاحترام، وسنعيد هذه المبادئ إلى صميم عملها".

وطلب من اللورد جون مان، مفوض الحكومة لشؤون معاداة السامية، أن يراجع أداء الهيئات الطبية لضمان محاسبة أي شخص يروّج للكراهية، مؤكدًا أن "القول وحده لا يكفي، والإجراءات هي من يصنع التغيير".

من جانبه، صرح وزير الصحة ويس ستريتينغ بأنه "لن يتسامح مع أي ممارسات معادية للسامية داخل القطاع الصحي"، مشدّدًا على أن الأطباء الذين يستخدمون خطابًا كارهًا "لن يُسمح لهم بالاستمرار في عملهم"، لأن "المرضى يضعون ثقتهم الكاملة بالعاملين في أكثر لحظاتهم ضعفًا".

الحوادث ودوافع التحرك

كان الإعلان استجابة لسلسلة حوادث أثارت جدلاً واسعًا داخل المجتمع الطبي والعام، ومن أبرز هذه القضايا قضية الطبيبة رحمة العدوان، التي سمح لها بمواصلة مزاولة المهنة رغم قيامها بحركات استفزازية أمام متظاهرين يهود، ووصفها للمحرقة بأنها "رواية ضحية مختلقة"، وقد أعلن المجلس الطبي العام (GMC) عن عقد جلسة للنظر في تعليقها عن العمل بعد استئناف التحقيق.

في مستشفى "يونيفرسيتي كوليدج لندن"، ارتدت طالبة من فريق التوليد رموزًا مؤيدة لفلسطين أثناء تعاملها مع مريضة يهودية، ما دفع الإدارة إلى إصدار مذكرة تحظر ارتداء أي رموز سياسية داخل مرافقها.

هذه الحوادث أثارت توترًا بين حرية التعبير ومبدأ الحياد المؤسساتي، وأرغمت الحكومة على اتخاذ موقف أعمق من مجرد تصريحات.

من الناحية القانونية، أعلنت الحكومة أن جميع مؤسسات NHS ستلتزم التعريف الذي اعتمدته بريطانيا في 2016 لمعادية السامية، الصادر عن التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست (IHRA)، وفقًا لهذا التعريف، فإن معاداة السامية تُفهم على أنها "تصوّر معين لليهود يُعبَّر عنه بالكراهية، سواء تجاه الأفراد أو مؤسساتهم الدينية والمجتمعية"، وهذا الربط بالتعريف الدولي يعطي الإجراء طابع التزام دولي وليس مجرد ضبط داخلي.

كما أعلن ستارمر تخصيص 10 ملايين جنيه إسترليني إضافية لتعزيز أمن المعابد والمدارس اليهودية، عبر تمويل كاميرات مراقبة وتعيين حراس إضافيين، بعد حادثة الهجوم على كنيس هيتون بارك في مانشستر، وأوضح أن هذا الدعم يرفع موازنة حماية الجاليات الدينية إلى “مستويات قياسية”.

ردود فعل حقوقية

رحّب مارك غاردنر، المدير التنفيذي لمؤسسة CST، بالخطوات الجديدة ووصف التمويل الإضافي بأنه “دعم طارئ ضروري، لكنه شدد على أن “القضاء على معاداة السامية يتطلّب معالجة الأسباب الفكرية والاجتماعية للتطرف لضمان تغيير حقيقي ومستدام."

وحذّرت منظمات حقوق الإنسان والمناهضة للعنصرية من أن حظر الرموز السياسية قد يُساء تفسيره ويُستخدم لكبح حرية التعبير أو قمع الحركات السياسية، إذا لم تُحدَّد معايير واضحة وشفافة لتطبيقه.

وفي استطلاع أجرته صحيفة "The Times"، أُفيد بأن نحو 30% من العاملين في NHS أعربوا عن تعاطف مرتفع مع حركة حماس، ما يشير إلى الانقسامات القائمة داخل المؤسسات الصحية، وهذه النسب أعطت للحكومة ذريعة لفرض مراقبة أكبر، لكنها في الوقت نفسه تفتح النافذة لانتقادات بأن السياسة تغزو المجال المهني الصحي.

من الناحية القضائية، اتخاذ إجراءات مثل تعليق أو إنهاء عقود الأطباء الذين يُدانون بخطاب كراهية سيتطلب تدقيقًا قانونيًا دقيقًا، خاصة في ما يتعلق بحماية الحقوق الأساسية، مثل حرية التعبير، والمجلس الطبي العام قد يواجه دعوات طعن قانوني إذا لم تراعَ الإجراءات القضائية السليمة في معاقبة الممثلين الطبيين.

أبعاد إنسانية 

على المستوى الإنساني، تداعيات السياسات ضد معاداة السامية تمتد إلى علاقة الثقة بين المرضى والعاملين في النظام الصحي، في لحظات ضعف المرضى، يُفترض أن يجدوا تعاملًا محترمًا ومحايدًا، مستقلًّا عن الانتماءات السياسية أو الدينية، لذلك، يُعدّ إرساء ثقافة احترام الآخر والحياد أمرًا جوهريًا لاستعادة هذا الثقة.

كما تعتبر هذه المبادرة بمثابة رسالة واضحة من الحكومة الحالية بأن العدالة الاجتماعية والتماسك الوطني في قمة أولوياتها، وأن أي رمزية سياسية لا يجب أن تضر بسلامة المؤسسات العامة.

الإحصاءات الرسمية تؤكد أن جرائم الكراهية الدينية في بريطانيا بلغت مستويات قياسية في السنوات الأخيرة، مع أن فئة اليهود تصدّرها كأحد أبرز المتضررين.

القضية ليست جديدة في بريطانيا؛ ففي السنوات الماضية، شهدت الجامعات وبعض المؤسسات العامة جدلاً حول ارتداء الرموز السياسية أو دعم الحركات العالمية داخل الحرم المهني أو الأكاديمي، ومع تصاعد النزاع الإسرائيلي الفلسطيني في السنوات الأخيرة، ازدادت الضغوط على المؤسسات العامة للحفاظ على الحياد.

كما أن تبنّي تعريف IHRA لمعاداة السامية منذ العام 2016 شكل نقطة مرجعية تشريعية وثقافية عندما بدأت الحكومات البريطانية في ربطه بسياسات مكافحة الكراهية، ولم يكن استخدام هذا التعريف داخل NHS أمرًا مفروغًا منه حتى الآن.



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية