خريطة جديدة للعالم مع تغير المناخ

خريطة جديدة للعالم مع تغير المناخ

أنهار تجف فى أوروبا والولايات المتحدة والصين وحرارة تسجل أرقاما قياسية فى بلدان باردة، وحرائق تنشب فى الغابات وذوبان للجليد يفتح مسارات أنهار متجمدة وخطوط ملاحية .. هذه بعض ملامح مناخ جديد سيكون له تأثيرات على اقتصاد العالم، ويعيد رسم خرائط توزيع السكان والزراعة والنقل ومجمل الاقتصاد العالمى، منها ما هو خطير ويتمثل فى ضحايا السيول الجارفة، وأزمات غذاء ودمار محاصيل وتدمير غابات، ومنه ما يمكن أن يفيد بعض البلدان التى اعتادت الجفاف لتصبح ممطرة، وأراض جليدية تصبح قابلة للزراعة.

فى إفريقيا شهدت دول مثل تشاد والنيجر ومالى وموريتانيا سقوط أمطار غزيرة أدت إلى فيضانات، وتعرض السودان مجددا لغرق مساحات واسعة من أراضيه، وفاض نهر السنغال لتصل مياه الفيضان إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط التى تبعد نحو مائتى كيلو متر، ليغطى الفيضان تلك المساحة الهائلة، والملفت أن تلك الأمطار والفيضانات هطلت فى أكثر بلدان العالم جفافا، والواقعة فى الصحراء الإفريقية الكبرى، والتى لا ترى أمطارا إلا نادرا وبكميات بسيطة، ويعتمد سكانها على آبار معروفة لسكان الصحراء.

أما فى أوروبا فقد انخفض منسوب نهر الراين إلى الثلث، وهو يمر بخمس دول أوروبية هى سويسرا وهولاندا وألمانيا ولخنتشتاين وفرنسا، وتسبب انخفاض المنسوب فى أضرار كبيرة، شملت الزراعة والنقل النهرى والصناعة. وظهر قاع نهر الدانوب، ثانى أطول أنهار أوروبا، والذى يمر بعواصم النمسا، وسلوفاكيا، والمجر، وصربيا، ولأول مرة فى التاريخ جفت منابع نهر التايمز فى بريطانيا، التى شهدت تسجيل أعلى درجة حرارة فى تاريخها. كما انخفض منسوب نهر اللوار أطول أنهار فرنسا بدرجة كبيرة، وهدد عمليات تبريد أربع محطات للطاقة النووية. وفى إيطاليا تراجع منسوب نهر «ألبو»، وتأثرت الحقول، وجفت محاصيلها قبل الأوان.

أما فى آسيا فقد ضربت السيول المناطق الجنوبية، من اليمن وسلطنة عمان وجنوب السعودية والإمارات وجنوب إيران وباكستان وأفغانستان وامتدت حتى جنوب الصين، وتسببت فى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا، وغمرت الفيضانات ثلث مساحة باكستان، وألحقت بها دمارا هائلا. أما فى الشمال فقد أصاب الجفاف وشح الأمطار مناطق واسعة، أثرت على سوريا وتركيا وحتى الصين التى انخفض فيها منسوب نهر اليانجتسى ثالث أطول أنهار العالم، واضطرت الصين إلى استمطار السحب، لإنقاذ مساحات كبيرة من المحاصيل الزراعية. وفى الولايات المتحدة انخفض منسوب نهر كولورادو الذى ينبع من جبال روكى ويعبر ولايات الغرب الأمريكى ليصب فى المكسيك. لكن المنافسة على القطب الشمالى اشتدت بين روسيا وكل من الولايات المتحدة وكندا والنرويج، وكانت روسيا التى تمتد بمسافة هائلة على حافة القطب الشمالى قد سبقت الجميع بحكم طول التماس ووجود سكان فى سيبيريا، ومؤخرا استخدمت خطا ملاحيا مختصرا بعد انحسار الجليد، وأقامت قاعدة عسكرية فى القطب الشمالى، وتخشى الولايات المتحدة من سيطرة روسية عليه، ولهذا بدأت التنسيق مع حلف الناتو لمنافسة روسيا على الوجود، فى جبهة نزاع جديدة، تتداخل فيه الأبعاد الاقتصادية مع العسكرية، ودخلت الصين على خط المواجهة القطبية، ليزداد الجليد الشمالى سخونة.

أسباب هذه التغيرات المناخية ظلت مثار اهتمام العلماء ومراكز البحوث التى حذرت مرارا من تأثير الإنبعاثات الكربونية التى تزيد من حرارة الأرض والغازات التى تذيب طبقة الأوزون الحامية للأرض من الإشعاعات الشمسية الخطيرة، لكن البلدان الصناعية الكبرى ظلت تتجاهل التحذيرات المبكرة لعشرات السنين، فالسباق على تحقيق أعلى ربح هو ما يهم رجال الاقتصاد والمستثمرين، فكان الاعتماد المفرط على الطاقة الأحفورية وقطع أشجار الغابات لتحويلها إلى مزارع أو استخدام الأخشاب دون اهتمام بما تجره من مخاطر على مستقبل البشر، وإن كان التحرك قد بدأ متأخرا، لكنه مازال دون مستوى المخاطر.

الآثار المتوقعة على المدى القصير مدمرة، فالسكان لم يعتادوا بعد على تلك المتغيرات، ولم يتكيفوا معها، ولا يجنون سوى الأضرار والضحايا، لكن سيبدأ التكيف طالما أن الاحترار وتغير خريطة الأمطار والسيول أصبحت أمرا واقعا لا يمكن تغييره، وسيبدأ الاستفادة من السيول فى تخزين المياه، وإقامة سدود جديدة وفقا لمسارات السيول، والبناء فوق أراض مرتفعة وأكثر أمنا لتجنب السيول والفيضانات، مع هجرات متوقعة فى بعض البلدان أو تغيير النشاط الاقتصادى، فما لا يمكن تغييره ينبغى التكيف معه.


نقلا عن “الأهرام”


كاتب المقال: مصطفى السعيد محرر ومذيع سابق في إذاعة صوت ألمانيا والمدير السابق للقسم العربي في تلفزيون صوت ألمانيا



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية