غاندي.. الحقوق الإنسانية عبر السلم لا العنف
غاندي.. الحقوق الإنسانية عبر السلم لا العنف
في كتابه الأخير عن غاندي ينزع الأستاذ الجامعي الأمريكي اليهودي الديانة والمشهور بدفاعه عن القضية الفلسطينية، الباحث والمناضل نورمان فنكلستاين التلفيق المزخرف اللامع الذي غطى على غاندي الرسالة والنضال وأحاله إلى عناوين ويافطات كما تحول في وقت ما عبد الكريم الخطابي وتشي غيفارا إلى سطر أو فقرة في مقالة في ذكرى سنوية.
أزال المؤلف التلفيف ليخرج غاندي الإنسان بكل قواه وضعفه، بكل صفائه وتناقضاته.
يثبت فنكلستاين أن غاندي، خلافًا لجلباب المسكنة الذي البسه قسرًا رفع الشجاعة إلى سماوات ربما قلما رفعها إليها أحد.من وسط الحشود المظلومة، قلة قليلة لها الاستعداد لحمل السلاح لرفع الظلم عن كاهلها والدفاع عن حقوقها. لكن قلة، أو قل أناسًا من طينة أخرى، من يستطيعون إلقاء سلاحهم جانبًا ليواجهوا المدفع بصدورهم العارية. هنا أبدع غاندي في نحت المقاتل الأعزل، وسار به إلى الانتصار.
وبقدر ما رفع غاندي الشجاعة فوق كل القيم والصفات، جعل الجبن أرذل الرذائل، بل إن الجبان لا يستحق في نظره أن يعيش بين البشر.
يذكر هذا الكتيب المناضلين من كل ألوان الطيف، وفي كل الساحات، بما في حقيبة أدواتهم من وسائل النضال السلمي وسبل النجاح فيه. بشر غاندي بقوة الحب وقهر التسامح ورسمه لوحده بوجوه الفقراء ودموعهم ودمائهم ملحمة نضالية ما زالت تكتشف أسرارها، وهذا الكتيب من آخر المحاولات.
يقول المؤلف انه على الرغم من كثرة استحضار اسم الماهاتما غاندي، فإني نادرًا ما قرأت أو لاحظت وأنا أتفحص مجموعة أعماله من مكتبة جامعة بحثية أمريكية راسخة، أنه لم يسبق أن استعير إلا مجلد واحد من أصل نحو 100 مجلد يراوح كل واحد منها 500 صفحة من تركة غاندي.
لقد أعتزل غاندي في ابتهال يطابق بين اسمه واللاعنف.
لكن فكره وممارسته أكثر تعقيدًا وتناقضًا مما توحي به هذه الصيغة.
فغاندي كما تسلمناه من التاريخ نسخة مموهة، نسخة منزوعة الدسم مقارنة بالنسخة الأصلية. إنه قديس غريب الأطوار من عالم آخر لا يمكن أن يؤذي ذبابة، ويبدو وكأنه لا يستطيع حتى لو كان ميالًا لذلك.
ولقد كان غاندي الحقيقي فعلًا قديسًا ورجلًا غريب الأطوار من عالم آخر، لكنه كان – أيضًا – من أدهى العارفين بألاعيب السياسة، بحيث يستطيع أن يسبر أفضل من أي من معاصريه مكامن القوة لدي شعبه وخصومه وحدودها.
لقد كان غاندي الحقيقي يكره العنف، لكنه كان يكره الجبن أكثر من العنف. وإذا تعذر على أتباعه أن يجدوا في دواخلهم ما يقوون به على المقاومة اللاعنفية، كان يحثهم عندها على استجماع لرد الصاع لمن يعتدي عليهم أو يحط من قدرهم.
وإذا كان غاندي يبشر بفضيلتي اللاعنف والشجاعة في الوقت نفسه، فلأنه كان يؤمن بأن اللاعنف يتطلب شجاعة أكثر من العنف.
إن المقاتل الذي يتبني العنف يواجه نيران العدو والسلاح في يده، بينما يتوقع من المقاوم الذي يتبنى اللاعنف أن يسير رأسًا إلى نيران العدو "مبتسمًا" و"مبتهجًا" وهو يقطع إربًا.
ومن يتذرعون باللاعنف للفرار من معتد بدلًا من مقاومته هم، في نظر غاندي، أحق البشر بالاحتقار ولا يستحقون الحياة.
وإن هذا الغاندي المثير للجدل الذي يجعل مقام الشجاعة فوق اللاعنف ويعلي من شأن اللاعنف، لأنه يتطلب أقصى درجات الشجاعة، والذي كان يدعو إلى العنف إذا تعذر على المرء أن يستجمع هذه الشجاعة، قد ولى، لكن عملي هذا ليس مجرد تمرين أكاديمي، ولا هو كذلك حتى في المقام الأول.
فقد استخلص غاندي، بإعماله عقله المتيقظ في تجربة حياتية غنية في الخدمة العامة، دروسًا عملية ثمينة عن طبيعة الممارسة السياسية سيكون من قلة الكياسة تجاهلها.
ولقد بدأت قراءة غاندي لأول مرة قبل بضع سنوات خلت من أجل استلهام استراتيجية لاعنفية لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
ولكن مجال تطبيق أفكار غاندي ما فتئ يتوسع كثيرًا حاليًا مع ظهور الربيعي العربي وحركات المقاومة اللاعنيفة حول العالم.
ويوجد اسم غاندي في كل مكان على شفاه من يتحدون نظامًا سياسيًا يقصي الأغلبية الساحقة من الشعب ونظامًا اقتصاديًا يسرق مستقبلها.
وفي مدينتي، مدينة نيويورك، أسرت فكرة العصيان المدني اللاعنفي خيال الشباب وأنعشت أملهم في أن يسقطوا حتى متاريس وول ستريت ذاتها.
ولقد كرس غاندى كل حياته كبالغ لتنظيم 99 في المئة من المغلوبين على أمرهم في مواجهة 1 في المئة الذين يمثلون أهل الجشع. وكان يأمل بداية أن يضع حدًا للاحتلال البريطاني للهند، لكنه نفر أيضًا من فكرة حلول شلة فاسدة من الهنود المحليين محل المحتلين الأجانب.
وسعى غاندى إلى وضع أسس نظام سياسي تنتقل فيه السلطة الحقيقية، وليس – فقط – الاسمية إلى جماهير الهنود وتوزع فيه الثروة بإنصاف، ولا يبقى فيه اللهاث وراء الثورة هدف الحياة.
ولم يقف اقتناعه عند إمكانية اجتثاث العالم القديم وبناء عالم جديد دون عنف فحسب، بل تعداه إلى أنه ما لم يتم ذلك دون عنف، فإن العالم الجديد لن يكاد يختلف عن العالم الذي يحل محله.
وثمة جيل جديد يعكف حاليًا على تجريب ووضع تصورات أساليب حياة جديدة، ويفكر مليًا في كيفية إعادة توزيع السلطة والقضاء على الامتيازات. وتقدم تجربة غاندي في الحياة وتأملاته كنزًا ثريًا يمكن أن يساعد في توجيه هؤلاء الشباب المثاليين، لكن المنضبطين، والشجعان، لكن الحذرين، وهم يخوضون الغمار لإيجاد مستقبل أكثر إشراقًا.
رؤية نورمان فنكلستاين لغاندي في هذا الكتاب تقودنا إلى مثال للمفكر الغربي العادل الذي يسعى إلى كشف الحقيقة أينما وحيثما وجدت، وبدون التوقف أمام العرق أو الدين، الطائفة أو المذهب وعنده أبدا ودوما أن الحق أحق أن يتبع.