بريطانيا.. حكومة "المحافظين" تعيش في الخيال.. والواقع يكلفها كثيراً

بريطانيا.. حكومة "المحافظين" تعيش في الخيال.. والواقع يكلفها كثيراً

 

 

كتب – محمد البلاسي

أحد فنون الرواية، أن يبدو البطل وكأنه يعيش في عالم طبيعي، لكن الواقع ليس كذلك، فقد تعود عقارب الساعة إلى الوراء، وقد تُلقى الكرة في الهواء وتستمر في الارتفاع حتى تختفي، فمثلا في فيلم كريستوفر نولان الشهير "inception" كان البطل لا يستطيع التمييز بين الواقع والأحلام، ولذا استخدم قطعة فضية صغيرة تدور حول نفسها، للتفريق بين الحلم والحقيقة، فإذا استمرت في الدوران، فهو لا يزال يحلم أو ضائع في كابوس، أما إذا توقفت توقف عن الدوران، فهو واع ومستيقظ.

ومنذ بدأ تسريب أخبار الحفلات التي أقيمت في مقر وحديقة رئاسة مجلس الوزراء البريطاني، خلال فترة تطبيق الإجراءات الاحترازية الشديدة، المرتبطة بانتشار فيروس كورونا، وأثر ذلك على أغلب البريطانيين، انتظر الكثيرون انهيار واستقالة رئيس الوزراء بوريس جونسون، أو أن يقوم الحزب باتخاذ قرار بفصله، لكن هذا لم يحدث، لأننا لا نعيش بالضرورة في عالم تسري فيه تلك القواعد، ففي كل مرة تزيد التوقعات بشأن 54 خطاباً لازماً من أجل بدء تصويت لحجب الثقة عن الحكومة، أو أن يدين أحد كبار المحافظين "جونسون"، أو أن يؤكد أحد التقارير إقامة الحفلات أثناء فترة الإغلاق ووجود فشل إداري، ويتأكد أنه لن يمر يوم آخر و"جونسون" في منصبه.

ولكن بعد مرور أسابيع، منذ ظهور أول خبر عن حضور "جونسون" حفلة في مقر العمل، علاوة على تقارير تفيد بأن رئيس الوزراء سوف يبكي، ويعتذر للناس بسبب ما حدث في داونينج ستريت، وتخبرنا مصادر مجهولة أن أمر جونسون قد انتهى، وأن خطابات سحب الثقة ستكون جاهزة خلال ساعات، واصفين جونسون بأنه محبط ومهزوم، لكن كل ذلك لم يتسبب في ترك "جونسون" لمنصبه.

إن الاحتمال الأرجح هو أن تؤدي تلك الأحداث إلى خسارة بطيئة، وليس سقوطا سريعا لـ"جونسون"، فقد تجدد أمله في البقاء في منصبه، إذا صدقنا بالفعل التقارير التي كانت تتحدث عن سقوطه، حيث يبدو أن خسائره دائما ما تتوقف عند حد ما، ولحسن حظه، أدى انشقاق مؤقت لأحد أعضاء البرلمان من حزب المحافظين إلى حزب العمال إلى إفساد خطابات سحب الثقة، كما أن تحقيق شرطة لندن، الذي تم ضبط توقيته جيدًا، علاوة على تزامن غريب لأزمة أوكرانيا وتهديدات الرئيس الروسي، بدا أن فلاديمير بوتين بغزو الشرق الأوكراني، كل ذلك لا يترك للمرء مجالا غير أن هناك سلسلة من الأحداث التي لم تكتف بإنقاذ جونسون من خسارة منصبه فحسب، بل شكلت الظروف الحالية ما سمح له بالبقاء رئيساً للوزراء.

وفي ظل هذا النظام، تم التغاضي عن القواعد التي تربط العمل بنتيجته، فمنذ سنوات، وضع حزب المحافظين برنامجًا سياسيًا يقوم على الأكاذيب، وأصبح ذلك أمراً هاماً في إدارة الحزب لشؤونه، بداية من تسويق الادعاءات الكاذبة التي أدلى بها أعضاء البرلمان بشأن المكاسب التي سيقدمها خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى الخدمة الصحية الوطنية، إلى إنكار حقيقة النقص الحاد في معدات الوقاية الشخصية، حيث كان المبدأ التوجيهي بين نواب المحافظين هو اكذب أولاً وتجنب الأسئلة لاحقًا، وإذا تم كشف الكذب، تبنّ إستراتيجية المهاجمة والتقويض، وذلك باتجاه القضاة، ووسائل الإعلام، ومحامي حقوق الإنسان، والاتحاد الأوروبي، والخدمة المدنية، وأعضاء حزب المحافظين أنفسهم الذين لا يلتزمون بتلك الإستراتيجية.

كان تعيين جونسون زعيما للحزب بمثابة انتصار لعهد عام 2016 من السياسة التي جمعت بين العدوانية وإخفاء المعلومات، وقد نجح ذلك، ومع جونسون تمكنت الحكومة من تجاوز أعلى حصيلة وفيات ناتجة عن انتشار فيروس كورونا في أوروبا، بالإضافة إلى العديد من فضائح الفساد، وكذلك صفقة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، والتي بالكاد تخضع للتدقيق، ولتحقيق ذلك تم وضع جميع المعلومات والمعطيات في سلة واحدة يحملها رجل واحد، ولكن ماذا لو أصبح هذا الرجل هو القائد المسؤول؟

وعند البحث عن بديل والتحلي ببعض الشجاعة لفعل الشيء الصحيح، نرى أن إفلات جونسون والحزب من العقاب، وهما الشيئان اللذان تم الترويج لهما خلال السنوات القليلة الماضية، يعني أنه من المستحيل تقريبًا عكس المسار دون هدم العملية برمتها، وهكذا فإن استقالة "جونسون" التي كانت من المفترض أن تحدث بسرعة، أصبح لها حسابات وتكلفة سياسية سوف يتحملها نواب الحزب ومستشاروه. 

ولم يكن من المصادفة أن اثنين من أبرز منتقدي "جونسون" وزير بريكست الفاشل ديفيد ديفيس ورئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، التي كانت وزارة داخليتها مسؤولة عن فضيحة "ويندبرش" عام 2018، وفي نفس الوقت، يحصل جونسون على ما يريد وهو فرصة أخرى، ثم غيرها، بينما يفكر الباقون في السؤال: كيف يستعيد الحزب شعبيته دون أن ينهار؟ ومن -بخلاف جونسون- يستطيع أن يتباهى خلال حدوث كوارث مثل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وسوء إدارة وباء كورونا، ويكذب بمنتهى السهولة؟

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية