معاناة بلا نهاية.. القتل والاختفاء القسري بين ألم العائلات وتحدي العدالة

معاناة بلا نهاية.. القتل والاختفاء القسري بين ألم العائلات وتحدي العدالة

كيف يُحرم ضحايا القتل والاختفاء القسري من حقهم في العدالة؟

حقوقي بارز: الاختفاء القسري هو قتل بطيء لعائلات الضحايا

خبير قانوني: الإفلات من العقاب يفاقم معاناة أسر القتلى خارج القانون

 

في زوايا مظلمة من عالمنا، تعيش أسر ضحايا القتل والاختفاء القسري في صمت قاتل وحزن عميق، حيث تلتقي الذاكرة بألم مستمر، وتلتف خيوط الحزن حول قلوبهم التي ترفض أن تصدق فقدان أحبائهم، هؤلاء الأشخاص لا يعانون فقط من فقدان أرواحهم، بل يواجهون أيضًا صعوبات هائلة في السعي وراء الحقيقة والعدالة.

هذه المآسي ليست مجرد أرقام على تقارير حقوق الإنسان، بل هي قصص إنسانية تحكي عن عائلات تحاول أن تشق طريقها في الظلام، دون أن تجد ضوءًا يهدئ من روعها.

وشدد المقرر الخاص المعني بحالات الإعدام خارج القضاء، أو بإجراءات موجزة أو تعسف، موريس تيدبال بينز، على ضرورة الاحترام والحماية الواجبين لكل فرد في ما يتعلق بحياته وكرامته المتأصلة، بحيث لا ينتهيان بعد وفاته، لافتا إلى أهمية احترام هذه الحقوق في مجال حماية الموتى وحقوق أسرهم الثكلى.

وأكد المقرر الخاص في تقريره الذي اطلعت "جسور بوست" على نسخة منه، والذي عرض أمام مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في دورته الـ56، التي عقدت في جنيف خلال الفترة من 18 يونيو الماضي حتى 12 يوليو الماضي، أن كرامة الشخص والاحترام الواجب لجثمانه ورفاته البشري لا ينتهيان بموته، فالطقوس التي يتبعها الأفراد والمجتمعات عبر الثقافات والأديان لتكريم موتاهم والحداد عليهم تتيح لأسرهم ومجتمعاتهم الفرصة التي يحتاجون إليها لتقبل موتهم.

وحذر بينز، من أن عدم حماية الموتى على النحو السليم أو معاملتهم معاملة غير محترمة، يضر بالأفراد والمجتمعات، ويقوض أو يعرقل، في حالة الوفيات المخالفة للقانون، حقوق الضحايا في معرفة الحقيقة والاحتكام إلى القضاء والحصول على تعويض. مشددا على ضرورة إجراء تحقيق شامل في جميع حالات الوفاة التي يحتمل أن تكون غير مشروعة.

وفي عام 2023، قدرت منظمة العفو الدولية أن حوالي 20,000 شخص حول العالم يتعرضون لحالات اختفاء قسري أو قتل خارج نطاق القانون سنويًا، بينما تعاني آلاف الأسر من ألم الفقدان وعدم معرفة مصير أحبائهم، هذا العدد الضخم يتضمن حالات في مناطق النزاع وكذلك في بلدان تشهد انتهاكات لحقوق الإنسان، على سبيل المثال، تعاني سوريا من أزمة إنسانية حادة، حيث وثقت التقارير وفاة واعتقال آلاف الأشخاص دون إجراء محاكمات عادلة، مما أدى إلى معاناة مستمرة لعائلاتهم.

ففي اليمن، شهدت الأزمة الإنسانية تفاقمًا ملحوظًا، حيث تقدر التقارير أن أكثر من 2,500 شخص قد اختفوا قسريًا، دون أمل في معرفة مصيرهم. هذه الأرقام لا تعكس فقط حجم الألم الذي تعيشه الأسر، بل أيضًا التحديات التي تواجهها في الحصول على الدعم والمعلومات، الوضع في اليمن يبرز إشكالية رئيسية، فالأسر لا تعاني فقط من فقدان أحبائهم، بل تواجه أيضًا صعوبات في الوصول إلى العدالة بسبب التحديات الأمنية والسياسية.

ويعد الأثر النفسي والاجتماعي لهذه المآسي عميقا ومعقدا، وتوضح الأبحاث أن الأسر التي فقدت أحباءها بسبب القتل أو الاختفاء القسري تعاني من مستويات مرتفعة من الاكتئاب والقلق واضطراب ما بعد الصدمة. 

وتشير دراسة أجرتها منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يقارب 70% من أسر ضحايا الاختفاء القسري يعانون من مشاكل نفسية حادة، حيث يسود القلق المستمر والاكتئاب، ويشعر العديدون بأنهم يعيشون في حالة من النسيان والرفض.

ولا تقتصر هذه المعاناة على الجانب النفسي، بل تمتد إلى جوانب حياتية أخرى. العائلات التي فقدت أحباءها تجد نفسها في مواجهة قسوة الواقع، حيث لا تتوفر لهم المساعدات اللازمة، وقد تُحرم من العدالة أو تعاني من تهميش المجتمع. في بعض الحالات، تضاف الضغوط الاقتصادية والاجتماعية إلى معاناتهم، مما يجعل من الصعب عليهم الاستمرار في حياتهم الطبيعية.

وفي بعض الدول العربية، مثل العراق وليبيا، تواجه الأسر صعوبات مضاعفة في بحثها عن الحقيقة، وهناك حالات عديدة لم تثمر عن أي معلومات موثوقة حول مصير أحبائهم، ويُضاف إلى ذلك قلة الدعم الحكومي والمجتمعي في ليبيا، على سبيل المثال، وثقت التقارير اختفاء آلاف الأشخاص منذ اندلاع النزاع في البلاد، ويواجه ذووهم تحديات ضخمة في الحصول على أي شكل من أشكال الدعم أو المعلومات.

وتسعى منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الإنسان الأخرى جاهدة لتسليط الضوء على هذه القضايا، وعلى الرغم من الجهود المبذولة، فإن تنفيذ التوصيات والضغط على الحكومات للامتثال للمعايير الدولية لا يزال يواجه العديد من العقبات. الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، التي دخلت حيز التنفيذ عام 2010، تمثل خطوة هامة نحو تعزيز حقوق أسر الضحايا، لكن تطبيق هذه الاتفاقية على أرض الواقع ما زال يواجه تحديات كبيرة.

ويرى خبراء، أن الحاجة إلى دعم دولي فعال تتزايد بشكل ملحوظ، يجب أن تضاف جهود المجتمع الدولي لتقديم الدعم النفسي، والمساعدة القانونية، وتوفير المعلومات الضرورية لأسر الضحايا، ومن الضروري أن يتم العمل على تعزيز سياسات حماية حقوق الإنسان، وضمان تنفيذ العدالة، وتوفير الرعاية للأسر التي تعاني من فقدان أحبائهم.

وتقتضي الإنسانية أن نتذكر أن وراء كل رقم، هناك قصة حزن وعائلة تعيش في انتظار أمل يوشك على الانطفاء، إن التزام المجتمع الدولي بدعم حقوق الإنسان، وتعزيز الشفافية، وتعزيز المساعدة لأسر ضحايا القتل والاختفاء القسري هو التزام أخلاقي أساسي. يجب علينا أن نعمل معًا لضمان أن تتاح لأسر الضحايا فرصة للعيش بكرامة، وأن يُعترف بحقوقهم وأن تُحترم، وأن يُعاد لهم جزء من الإنسانية التي سُلبت منهم في لحظة عابرة.

احترام الموتى وحقوق الأسر.. تقرير حقوقي حول حماية الجثث بعد الوفاة

وشدد المقرر الخاص المعني بحالات الإعدام خارج القضاء، موريس تيدبال بينز، على ضرورة احترام وحماية حياة الأفراد وكرامتهم، حتى بعد وفاتهم.

وأشار بينز إلى أن كرامة الشخص لا تنتهي بموته، وأن الطقوس الثقافية والدينية التي يتبعها الأفراد لتكريم موتاهم توفر لأسرهم فرصة لتقبل الفقد.

وحذر من أن عدم احترام جثث الموتى ومعاملتها بشكل غير لائق يضر بالأفراد والمجتمعات ويعيق حقوق الضحايا في معرفة الحقيقة والتعويض، وشدد على ضرورة التحقيق الكامل في جميع حالات الوفاة المحتملة غير المشروعة، مشيراً إلى أن إخفاء أو تدمير جثث الضحايا يعزز إفلات الجناة من العقاب وينتهك حقوق الأسر في الحصول على العدالة.

وأكد بينز، أن التحقيق في حالات الوفاة غير المشروعة هو التزام قانوني دولي وليس خياراً. وطالب بتكييف تدابير حماية الموتى لتتوافق مع معتقدات وعادات كل مجتمع، مع الالتزام العالمي بمبادئ الاحترام والكرامة.

وأضاف أن احترام الموتى هو مفهوم عميق في التقاليد المجتمعية والدينية، وأن جثث الضحايا في حالات القتل غير المشروع تُعتبر شاهدة على انتهاك حقهم في الحياة، مؤكدا أن الدول ملزمة بحماية الموتى واحترامهم، معتبراً أن التحدي الرئيسي يكمن في التباين بين قوانين الحرب والقانون الدولي لحقوق الإنسان.

وخلص التقرير إلى أن التمييز ضد الأفراد غالباً ما يستمر حتى بعد موتهم، مؤكداً ضرورة التحقيق الفوري والفعال في عمليات القتل غير المشروعة.

وحث المقرر الخاص على ضرورة أن تتخذ الدول تدابير فعالة لحماية الموتى، واحترامهم، وتوثيقهم، مع ضمان معاملة الجثث بكرامة واحترام.

معاناة الأسر وحقوق الإنسان 

وعلق الحقوقي الأردني البارز، كمال المشرقي بقوله، إن مبادئ حقوق الإنسان تسعى إلى ضمان الكرامة والحماية لكل فرد، غير أن الواقع في العديد من أنحاء العالم يكشف عن انتهاكات جمة لهذه المبادئ، حيث يشكل الاختفاء القسري والقتل خارج إطار القانون انتهاكاً صارخاً لحقوق الإنسان ويؤديان إلى معاناة غير متناهية لأسر الضحايا، والاختفاء القسري، هو أحد أشكال الانتهاك التي لا تمس فقط الفرد المختفي، بل تلاحق أيضاً أسرهم وتدمر حياتهم، هذا النوع من الانتهاك يتجلى في اختطاف الأشخاص أو اعتقالهم بدون معرفة مصيرهم أو مكان احتجازهم، مما يترك أسرهم في حالة من اليأس والقلق الدائم، وتلك حالة من حالات القتل البطيء، حيث تعيش العائلات على أمل غير مؤكد، وتواجه أسئلة لا تجد لها إجابات، وتعاني من صدمات نفسية تتفاقم مع مرور الوقت. 

وأكد الخبير الحقوقي في تصريحاته لـ"جسور بوست" أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، يعتبر الحق في الحياة من الحقوق الأساسية غير القابلة للتصرف، ويجب على الدول احترام هذا الحق وحمايته، لكن الواقع يثبت أن العديد من الحكومات لا تحترم هذا الحق، لا سيما في حالات القتل خارج إطار القانون، هذه الجرائم لا تقتصر على انتهاك الحق في الحياة فحسب، بل تمثل أيضاً هجوماً على مبدأ العدالة والكرامة الإنسانية، حيث يُحرم الضحايا من حقوقهم الأساسية في الدفاع عن أنفسهم أمام القضاء.

وتابع المشرقي، أن الأسر التي تواجه مثل هذه الانتهاكات تعاني من تداعيات خطيرة تتجاوز الصدمة الأولية. فقد يواجه أفراد الأسر صعوبات في الوصول إلى العدالة والتعويض، ويجدون أنفسهم في مواجهة نظام قضائي قد يكون غير مكترث أو حتى متواطئ مع مرتكبي الانتهاكات، وفي حالات القتل خارج نطاق القضاء، تتفاقم معاناة الأسر بسبب عدم تحقيق العدالة، حيث غالباً ما تُرتكب هذه الجرائم دون محاسبة، ويظل الجناة طلقاء دون عقاب.

وأشار إلى أن مبادئ حقوق الإنسان تدعو إلى ضمان حق الأسر في معرفة مصير أحبائهم، والذي يُعتبر جزءاً أساسياً من حقوق الإنسان، الأسر التي تعاني من اختفاء أفرادها لها الحق في معرفة ما حدث لهم والحصول على تعويضات مناسبة، كما ينص القانون الدولي على ضرورة التحقيق في جميع حالات القتل خارج نطاق القانون بشكل شامل وشفاف لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب، يجب أن تكون التحقيقات نزيهة وغير منحازة، وأن تشمل كافة جوانب القضية لضمان تقديم المسؤولين إلى العدالة.

وتابع، بجانب التزام الدول بإجراء تحقيقات فعالة، فإن معالجة معاناة الأسر تتطلب أيضاً تعزيز حقوقهم في الحصول على التعويضات والدعم النفسي والاجتماعي، تعد البرامج التي تقدم المشورة والدعم النفسي للأسَر جزءاً أساسياً من الاستجابة الفعالة لهذه الانتهاكات، حيث تساعد في التعامل مع الصدمات النفسية والتأثيرات المدمرة التي تتركها هذه الجرائم على حياتهم.

كمال المشرقي

وأتم، تظل معاناة الأسر التي تواجه الاختفاء القسري والقتل خارج إطار القانون تذكيراً قوياً بأهمية الالتزام بمبادئ حقوق الإنسان، يتطلب ضمان حقوق الإنسان احترام كرامة الأفراد حتى بعد وفاتهم، وتوفير العدالة والشفافية في حالات الانتهاك، لتحقيق هذه الأهداف، ويجب على الدول والمجتمعات الدولية تكثيف جهودها لضمان عدم إفلات الجناة من العقاب وتقديم الدعم الكامل للأسر المتضررة، لضمان تحقيق العدالة والمساواة والكرامة الإنسانية للجميع.

عدالة غائبة

بدوره، علق خبير القانون الدولي، المستشار كمال يونس، بقوله: تعتبر جرائم الاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون من أخطر الانتهاكات التي تتعرض لها حقوق الإنسان، وهي تحديات خطيرة تواجه العدالة الدولية وحقوق الأفراد، الاختفاء القسري وفقاً لتعريف "الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري" الصادرة عن الأمم المتحدة في عام 2006، يحدث عندما يتم احتجاز شخص ما بواسطة دولة أو منظمة سياسية، أو بتوجيه منها، دون الكشف عن مصيره أو مكان وجوده، مما يحرمه من حماية القانون، وهذه الجريمة تؤدي إلى معاناة مستمرة لعائلات الضحايا الذين يبقون في حالة من عدم اليقين بشأن مصير أحبائهم.

وأضاف يونس في تصريحاته لـ"جسور بوست"، من الناحية القانونية، يعتبر الاختفاء القسري انتهاكًا صارخًا لعدد من حقوق الإنسان الأساسية، بما في ذلك الحق في الحياة، والحرية، والأمان الشخصي، والحق في عدم التعرض للتعذيب أو المعاملة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة، كما ينتهك الحق في الاعتراف بالشخص أمام القانون والحق في محاكمة عادلة، مبينا أن الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري تطالب الدول الأعضاء باتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع هذه الممارسات، والتحقيق فيها، ومقاضاة المسؤولين عنها، وبموجب هذه الاتفاقية، لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي، سواء كانت حربًا أو تهديدًا بالحرب أو عدم استقرار سياسي داخلي، كمبرر للاختفاء القسري.

وأشار إلى أن القتل خارج نطاق القانون، يعد جريمة خطيرة بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ويتم تعريف هذه الجرائم بأنها عمليات قتل تنفذها السلطات الحكومية أو وكلاؤها دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، وهذا يشمل الإعدام بإجراءات موجزة أو تعسفية، وهي ممارسات تخالف التزامات الدول بحماية الحق في الحياة كما هو منصوص عليه في "العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية" لعام 1966. المادة 6 من هذا العهد تنص على أن "الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان. وعلى القانون أن يحمي هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفًيا".

وأكد يونس أن القتل خارج القانون يعد انتهاكًا مباشرًا للحق في الحياة، وهو حق لا يمكن تقييده حتى في حالات الطوارئ العامة، مثل هذه الأفعال لا تنتهك فقط القوانين الدولية، بل تخلق حالة من الإفلات من العقاب حيث يتم تجاهل العدالة التي تشدد عليها الأمم المتحدة، من خلال مختلف آليات حقوق الإنسان، بما في ذلك لجنة حقوق الإنسان، والمقررون الخاصون، حيث المطالب المستمرة بضرورة إجراء تحقيقات شاملة وفعالة في جميع حالات القتل غير القانوني لضمان المساءلة ومعاقبة المسؤولين.

 كمال يونس

وأتم، الاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون يخلقان آثارًا مدمرة على الأفراد والمجتمعات، ومن الضروري أن تعمل الدول على منع هذه الجرائم من خلال الالتزام بتعهداتها الدولية وضمان العدالة للضحايا وأسرهم. وفي نهاية المطاف، احترام وحماية حقوق الإنسان هو الركيزة الأساسية لأي مجتمع عادل، ويجب على جميع الدول أن تضمن عدم وقوع مثل هذه الانتهاكات، وإن التصدي للإفلات من العقاب ومعالجة آثار هذه الجرائم يتطلب تعزيز سيادة القانون، ومساءلة الفاعلين، وتقديم تعويضات فعالة للضحايا وأسرهم.


قد يعجبك ايضا

ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية