في ذكرى رحيلها.. ناصرة السعدون بين رحى الحرب وغربة التهجير
في ذكرى رحيلها.. ناصرة السعدون بين رحى الحرب وغربة التهجير
لا تقلل من قيمة صوتك وسط الضجيج، فإن لم يسمعه الجميع، فقد ينجو بسببه من حولك، ذاك ما آمن به قلب الروائية ناصرة السعدون وما ترجمته أفعالها في صورة أعمال أدبية ونقدية، جسدت حال المواطن العراقي في الحرب، وحاله وسط نيران الاغتراب مهجرًا.
الأديبة المثابرة، ناصرة السعدون، غيبها الموت في مثل هذا اليوم، 24 إبريل عام 2020، بالعاصمة الأردنية عمّان عن عمر ناهر الـ74 عاما، إثر مرض عضال لم يمهلها طويلا.
ناصرة السعدون رحلت جسدًا، لكنها تركت روحها وفكرها في مؤلفات وترجمات كثيرة، لتبقى نجمة متلألئة في سماء الإبداع العربي، إذ إنها قامة فكرية وأدبية بارزة تقلدت مناصب عديدة، لكنها عشقت الأدب والفكر، وغاصت في بحور الترجمة، ونسجت معاناة الغربة في "دوامة الرحيل" التي توجتها بجائزة "كتارا" للرواية العربية.
جسّدت "ناصرة" جزءاً من حياتها، بأحداث الرحيل المُفجعة وواقعها المرير الذي اضطرّها إلى الرحيل بوالدتها المريضة للعلاج في الأردن، ومنها تنتقل بمساعدة الأمم المتحدة لتكون لاجئة في أمريكا، إلا أن عمان كانت مثواها الأخير.
عن "دوامة الرحيل" والهجرة
في مسيرة الروائية والمترجمة العراقية، كثير من المحطات والتجارب الإبداعية والمهمة، "ناصرة" بقيت عاماً ونصف العام في العراق شاهدة على الاحتلال الأمريكي، ترسم الواقع العراقي بعيدًا عن الرمزية، مقدّمة عبر أعمالها الروائية خاصة روايتها "دوامة الرحيل"، صورة مغايرة للصورة النمطية السائدة عن الواقع العراقي بمشكلاته وتعقيداته، تحمل مفهوماً جديداً للنقد الذاتي، حيث دعت إلى مراجعة النفس باستمرار ونقدها نقدًا ذاتيًا موضوعيًا مستمرًا، لإيصال رسالة للعالم مفادها أن الحياة التي يعيشها العراقي اليوم بعد سنوات من اغترابه عن وطنه هي حياة مزرية ولا تليق بهذا الشعب العظيم.
فكرة الرواية هي الاغتراب العراقي بكل وجعه، كما عرفته شريحة الطبقة الوسطى من مثقفين ومهندسين وأطباء وطلبة جامعيين، طبقة مُهدّدة بالاختفاء بعد أن هاجر أكثر شخوصها.
وصفت السعدون روايتها "دوامة الرحيل" الفائزة بجائزة "كتارا" للرواية العربية فئة الروايات المنشورة في الدورة الأولى لعام 2015، بأنها رواية "الألم العراقي"، وتناولت فيها موضوع هجرة العراقي، "الذي لم يعرف الهجرة قبل الغزو الأمريكي".

وقالت في مقابلتها مع صحيفة "الاتحاد" العراقية: إن "دوامة الرحيل" هي حكاية الرحيل عن العراق بعد احتلاله، والدوامة التي يجابهها العراقي، من حيوات جديدة في بلدان الاغتراب، والقرارات الصعبة التي يجب عليه اتخاذها في كل موقف.
وأضافت: "فيها بعض الاستشراف لما يمكن أن يكون عليه العراقي في حياته الجديدة بعيدا عن بيئته التي تم اقتلاعه منها، وزرعه في بيئة جديدة غريبة عليه، وكيف يمكن أن يكون الحب لدى هؤلاء الشباب الذين اقتلعوا من أرضهم في عمر الحب".
هجرة كبرى وهجرة صغرى
ثمة هجرة كبرى في حياة "ناصرة" وهي هجرة الوطن، خلفت بداخلها هجرة صغرى لما تحب وتجيد عمله وهو الكتابة، تقول في تصريحات إعلامية عن روايتها الأخيرة: “بعد مغادرتي العراق هجرت الكتابة وانشغلت بالترجمة، إلاّ أن أحداث رواية «دوامة الرحيل» بقيت هاجسا يطاردني حتى قرّرت أن أكتبها، وأنهيت المسودة الأولى في ثمانية أشهر ومن ثم أعدت تنقيحها وطباعتها”.
بدأت السعدون روايتها بمشهد مغادرة بغداد، ذلك المشهد القابع في ذاكرة كل مهاجر وهو يصحو فجراً والمرارة في حلقه بأنه لن يرى بغداده ثانية، ترافق "ناصرة" عينا المُهاجر المسمّرتان على شواخص الشوارع، حتى طريق عمّان وحجارته النيزكية السوداء «منطقة الصفاوي» التي أخذت «إباء» بعضها كتذكار.
فعل الهجرة المركزي في كتابة السعدون مرتبط بالمكان، وقد كتبت على غلاف الرواية الأخير غزو العراق واحتلاله زلزل حيوات الكثير من أهله، وفي روايتها "أحببتك طيفا" تروي ناصرة السعدون، أحداث الحرب في بلادها عام 1991، حيث تتجول بطلة القصة بين طبقات المجتمع وتعايش أحداثا وظروفا صعبة.
مسيرة حافلة
الراحلة السعدون من مواليد محافظة واسط عام 1946، تلقت تعليمها الابتدائي والمتوسط في القسم الداخلي لمدارس الراهبات بمنطقة الباب الشرقي وسط العاصمة بغداد.. أكملت دراستها الثانوية في الإعدادية المركزية للبنات، ثم حصلت على البكالوريوس بالاقتصاد من جامعة بغداد عام 1966، ونالت بعدها الدبلوم العالي في الأدب الفرنسي عام 1970 من جامعة "بواتيي".. كما أن زوج الروائية أيضا كان يختص في المجال ذاته، فهي أرملة المؤلف مصطفى توفيق المختار عضو "المجمع العلمي العراقي"، وشقيق الدبلوماسي العراقي قيس المختار.
شاركت الروائية الراحلة في العديد من الدراسات الاقتصادية ودراسات الجدوى في حقول نقل التكنولوجيا والصناعات الغذائية وتلوث البيئة.
ونشرت العديد من الدراسات والبحوث والتراجم في المجلات المتخصصة مثل مجلات: "النفط والتنمية" و"الصناعة" و"الصناعات الغذائية"، وغيرها من الصحف والمجلات العامة.
السعدون عضو في نقابة الصحفيين العراقيين، وفي اتحاد الكتاب والأدباء العراقيين، واتحاد الكتاب العرب، وعضو مؤسس في جمعية الناشرين العراقيين، ومنتدى المرأة الثقافي، وناشطة في الدفاع عن حقوق المرأة العراقية. حاضرت خلال فترة الحصار على العراق في العديد من المؤتمرات والندوات وفرق العمل الاقتصادية والسياسية والأدبية والثقافية في داخل العراق وخارجه، وتحديدا في سويسرا وتونس والأردن والإمارات وبلجيكا وفرنسا والمغرب وباكستان والهند وكوريا والفلبين.

صدرت لناصرة السعدون ست روايات آخرها "دوامة الرحيل" في 2014، وأكثر من 18 عملا مترجما منها "بوش الإمبراطور"، وهو بحث سياسي اقتصادي لأندريه غوندر فرانك نشر على حلقات يومية في جريدة الجمهورية ببغداد سنة 1993، "الأخضر والأسود" لجان بيير شوفينمان، و"أزهار الجليل" وهي مقالات سياسية لإسرائيل شامير، "اليهود ديانتهم وتاريخهم".
وترجمت سيرة "كارل غوستاف يونغ" عالم النفس الكبير والتي تحكي عن حياته العملية وليست الشخصية، كما ترجمت رواية شعرية اسمها "بحار جبل طارق".
وترجمت السعدون للكاتب الأمريكي شبه الممنوع في الولايات المتحدة جيمس بولدوين، مجموعة قصصية اسمها "أحزان سوني" والتي تتطرق لواقع الزنوج هناك وأكذوبة الرفاهية، كما تجلت براعتها في الترجمة عبر رواية "الفندق" لآرثر هيلي وهي من مجموعة الروايات التي تحولت إلى أفلام ومسلسلات.