كارثة مناخية أم جريمة بحق الفقراء؟ 250 قتيلاً بينهم 85 طفلاً ضحية الأمطار في باكستان
كارثة مناخية أم جريمة بحق الفقراء؟ 250 قتيلاً بينهم 85 طفلاً ضحية الأمطار في باكستان
في صيفٍ شديد الحرارة، وجدت جنوب آسيا نفسها مرة أخرى أمام مشهد مألوف، لكنه لا يقل رعبًا أو إيلامًا، فالأمطار الموسمية التي عادةً ما يُنتظر هطولها بفارغ الصبر لسقاية الحقول، انقلبت هذا العام كابوساً يلاحق الملايين.. في باكستان وحدها، ارتفع عدد القتلى إلى أكثر من 250 شخصًا، بحسب الهيئة الوطنية لإدارة الكوارث، بينهم ما لا يقل عن 85 طفلًا.
وفي الهند والصين، لم تكن الصورة أقل قتامة، حيث سقط عشرات القتلى، وتهجر آلاف السكان تحت وطأة فيضانات وانهيارات طينية مدمرة.
منطقة جيلجيت-بلتستان الجبلية في شمال باكستان، والتي طالما كانت وجهة سياحية صيفية، أصبحت مسرحًا للمأساة، على ارتفاعات شاهقة تزيد عن 1200 متر، سجّلت درجات حرارة وصلت إلى 48.5 درجة مئوية، وهو رقم قياسي غير مسبوق في هذه المنطقة، وفق ما نقلته الغارديان، أدى ذلك إلى ذوبان سريع للأنهار الجليدية، التي تُعد مصدرًا رئيسيًا للمياه في البلاد.
ونتج عن هذا الذوبان تشكل بحيرات جليدية غير مستقرة، انفجرت فجأة وتسببت في فيضانات اجتاحت القرى والمزارع والطرق، كما دمرت البنية التحتية الكهربائية والمائية، ما ترك مجتمعات بأكملها معزولة عن العالم.
وصف رئيس هيئة إدارة الكوارث المحلية، ذاكر حسين، الوضع في تصريح لصحيفة "الغارديان" بأنه "خطير للغاية"، مشيرًا إلى أن تشكّل البحيرات الجليدية بهذه السرعة يشكل تهديدًا غير مسبوق على أرواح الناس.
صرخات السياح العالقين
في قلب هذه الكارثة، كانت هناك لحظات إنسانية مؤلمة، أبرزها ما نقلته "واشنطن بوست" عن فرق الإنقاذ التي تسابق الزمن للعثور على 12 سائحًا مفقودًا، جرفتهم السيول أثناء عبورهم طريقًا جبليًا في شمال باكستان، ويُعتقد أن الضحايا دُفنوا تحت كتل هائلة من الصخور والطين على امتداد طريق كاراكورام السريع، وهو شريان حيوي يربط البلاد بالصين.
وأظهرت مقاطع مصورة على وسائل التواصل الاجتماعي سيارات مدفونة تحت الأنقاض وسياحًا يسيرون على أقدامهم في ممرات ضيقة عبر الجبال، وتمكنت مروحيات الجيش من إنقاذ نحو 300 سائح آخر تقطعت بهم السبل في المناطق الجبلية، وفقًا للمسؤول الحكومي فيض الله فرق.
وقال ناصر حسين، من جمعية فنادق ومطاعم جيلجيت بالتستان، إن "القطاع السياحي تلقى ضربة موجعة"، مضيفًا أن نحو مليون سائح كانوا يزورون المنطقة سنويًا خلال ذروة الموسم، ولكن الكارثة هذا العام دفعت كثيرين لإلغاء رحلاتهم أو البحث عن بدائل أكثر أمانًا.
مأساة السكان المحليين
عبر طارق علي، أحد سكان منطقة جيلجيت، عن الواقع المرير الذي يعيشه مجتمعه: "لم تهطل الأمطار منذ أسابيع، لكن موجات الحر تزداد، والأنهار الجليدية تذوب أمام أعيننا.. الوضع أشبه بالجحيم.. لم نر مثل هذا الطقس من قبل".
وتابع علي، كما نقلت عنه "الغارديان": "كل ما لدينا من زراعة قد جرفه الفيضان.. كيف سنطعم أبناءنا الآن؟"، مثل هذه الشهادات لا تمثل فقط دمارًا اقتصاديًا، بل جرحًا نفسيًا يطول أسرًا فقدت منازلها وأرضها وأحيانًا أحبّتها.
من بين أكثر من 250 قتيلًا في باكستان، كان هناك على الأقل 85 طفلًا، كما أشارت "فاينانشيال تايمز"، قضى بعضهم غرقًا داخل منازلهم التي انهارت فوق رؤوسهم، بينما اختطفهم السيل في لحظة غفلة.
فيضانات 2022 تتكرر
وصف المسؤولون الباكستانيون هذه الكارثة بأنها الأسوأ منذ فيضانات عام 2022، التي قتلت أكثر من 1500 شخص وشردت 30 مليونًا، ورغم النداءات الدولية حينها لتقديم مساعدات ، إلا أن معظم التعهدات، كما تقول "فاينانشيال تايمز"، لم تُنفذ، أو جاءت على شكل قروض جديدة زادت من عبء الديون على البلاد.
قال وزير الخارجية الباكستاني، إسحاق دار، في الأمم المتحدة الأسبوع الماضي: "نحن بحاجة إلى منح وتمويل ميسر، وليس ديونًا جديدة"، وأوضح أن الدول النامية، مثل باكستان، تدفع ثمن أزمة مناخية تسببت بها إلى حد كبير الدول الصناعية الكبرى.
ليس هناك شك بأن ما يحدث هو نتيجة مباشرة لتغير المناخ، كما يذكر تقرير "فاينانشيال تايمز"، الذي استشهد بدراسات تظهر أن الغلاف الجوي يحتفظ بـ7% من المياه الإضافية لكل درجة حرارة، ما يؤدي إلى أمطار أكثر غزارة وحدّة.
وقد سجلت الأرض في يونيو حرارة أعلى بـ1.3 درجة مئوية من متوسط ما قبل العصر الصناعي، بينما كان معدل العام كاملاً أعلى بـ1.55 درجة، وهو اقتراب مقلق من الحد الذي حذرت منه اتفاقية باريس للمناخ (1.5 درجة).
البنية التحتية الهشة
أظهرت الكارثة هشاشة البنية التحتية في المناطق الجبلية والمدن الكبرى مثل لاهور وروالبندي، حيث غمرت الفيضانات الشوارع، وتقطعت السبل بالآلاف، وانقطعت الكهرباء والمياه، كما ورد في تقارير "فاينانشيال تايمز" و"واشنطن بوست".
لخصت الوزيرة السابقة لشؤون المناخ، شيري رحمن، الواقع بعبارة حزينة: "نحن في قلب أزمة مناخية متعددة الأوجه.. العالم يجب أن يدق ناقوس الخطر، لكن لا أحد يسمع".
وفي ظل هذه الأرقام المفزعة، لا بد من إعادة صياغة النقاش حول تغير المناخ من مجرد قضية بيئية إلى قضية حقوق إنسان، إذ إن فقدان المأوى، والحرمان من الماء والغذاء، والموت بسبب غياب التخطيط الوقائي أو الدعم الدولي، كلها انتهاكات صارخة للحق في الحياة والكرامة والصحة والسكن.
وما يجري في باكستان اليوم ليس كارثة طبيعية فقط، بل نتيجة مباشرة لفشل عالمي في إدارة أزمة المناخ بعدل وإنصاف، مأساة إنسانية يعيشها ملايين الفقراء، الذين لا ذنب لهم في الانبعاثات ولا قدرة لديهم على مواجهتها.. الكارثة المقبلة تلوح في الأفق، والخيار واضح: إمّا عدالة مناخية الآن، أو مزيد من الأرواح التي ستُزهق بسبب الإهمال العالمي.