إنسانية مشروطة.. خطاب الأخوة يواجه ازدواجية التطبيق وصناعة التمييز

بمناسبة اليوم الدولي للأخوة الإنسانية

إنسانية مشروطة.. خطاب الأخوة يواجه ازدواجية التطبيق وصناعة التمييز

على مرّ التاريخ، كانت الأديان السماوية والفلسفات الروحية نواة لفكرة الأخوة الإنسانية، داعيةً إلى التعايش السلمي وقبول الآخر، ومع ذلك لا تزال الفجوة واسعة بين النصوص الدينية التي تكرّس قيم التسامح، وبين الممارسات الواقعية التي تشهد تباينات حادة نتيجة التوظيف السياسي والأيديولوجي للأديان.

في اليوم الدولي للأخوة الإنسانية، الذي أقرّته الأمم المتحدة في 4 فبراير من كل عام، تبرز الحاجة إلى تحليل مدى التزام المجتمعات والحكومات بهذه القيم الجوهرية في ظل تصاعد النزاعات العرقية والدينية.

وفقًا لتقرير مؤسسة "بيو" للأبحاث لعام 2022، فإن 57% من سكان العالم يعيشون في دول تفرض قيودًا حكومية مشددة على الحرية الدينية، وترتفع هذه النسبة إلى 70% في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

وتظهر البيانات أن بعض الحكومات تستغل الدين لتعزيز سيطرتها السياسية أو لقمع الأقليات، ما يؤدي إلى تفاقم التمييز والاضطهاد، في تناقض صارخ مع المبادئ الدينية التي تؤكد على التعايش. 

وفي المقابل، نجد دولًا مثل كندا والسويد تتبنى سياسات أكثر شمولية، حيث تشير الإحصائيات إلى أن 82% من سكان هذه الدول يعبرون عن رضاهم عن مستوى الحرية الدينية والتعددية الثقافية.

رغم أن النصوص الدينية في الإسلام والمسيحية واليهودية والهندوسية تؤكد جميعها على مفاهيم السلام والأخوة، فإن التفسير المتطرف لها كان ولا يزال أحد العوامل التي تقوض هذه المبادئ. 

في الإسلام، يقول القرآن الكريم: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا"، وهي دعوة صريحة للتعايش بين الشعوب، ومع ذلك، تسجل تقارير الأمم المتحدة لعام 2023 ارتفاعًا في جرائم الكراهية ضد المسلمين بنسبة 35% في أوروبا مقارنة بالعام السابق، مدفوعةً بتصاعد الخطاب القومي المتطرف.

في المسيحية، يعد مفهوم "أحبوا أعداءكم" حجر الأساس في التعاليم الإنجيلية، ومع ذلك، نجد أن الولايات المتحدة وحدها شهدت أكثر من 1,005 حوادث كراهية ذات طابع ديني ضد المسيحيين في عام 2022، وفقًا لمركز أبحاث الكراهية في جامعة كاليفورنيا.

وبينما تؤكد تعاليم التوراة ضرورة معاملة الغريب كما لو كان من أبناء المجتمع نفسه، تعاني بعض الأقليات اليهودية نفسها من التمييز داخل مجتمعاتها، إذ كشف تقرير الوكالة اليهودية لعام 2023 أن 60% من اليهود الإثيوبيين في إسرائيل يشعرون بالتمييز بسبب أصولهم.

العلاقات بين الدول

التحديات لا تتوقف عند مستوى الأفراد، بل تمتد إلى العلاقات بين الدول، حيث يشكل الدين في كثير من الأحيان عامل توتر سياسي، فعلى سبيل المثال، في ميانمار، أدى استغلال الهوية البوذية من قبل الحكومة إلى تبرير الاضطهاد الممنهج ضد أقلية الروهينغا المسلمة، ما تسبب في نزوح أكثر من 700 ألف شخص منذ عام 2017، بحسب تقرير هيومن رايتس ووتش. 

وعلى النقيض، فإن دولًا مثل الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب اتخذت خطوات ملموسة لتعزيز ثقافة التسامح، إذ أطلقت هذه الدول استراتيجيات وطنية تستهدف تعزيز الحوار بين الأديان وبناء جسور التواصل بين الطوائف المختلفة.

ومن جانب آخر، أظهرت دراسة أجراها معهد غالوب عام 2022 أن المجتمعات التي تتبنى مناهج تعليمية تركز على القيم الإنسانية المشتركة أكثر استعدادًا لقبول التنوع الديني، حيث ارتفعت معدلات قبول التعددية الدينية في المجتمعات التي تدمج دراسات الأخلاق والتعايش في المناهج الدراسية بنسبة 45% مقارنة بالدول التي تفتقر إلى هذه المناهج.

قوانين تجرم خطاب الكراهية

أما على المستوى القانوني، فبينما أقرت 120 دولة قوانين تجرم خطاب الكراهية الديني، لا تزال هناك 38 دولة تُطبّق قوانين تمييزية ضد بعض الأديان، مما يجعل الجهود المبذولة لتعزيز الأخوة الإنسانية غير مكتملة، وأكدت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في تقريرها لعام 2023 أن الفجوة بين التشريعات والتطبيق العملي لا تزال واسعة، وأن كثيرًا من الدول تستخدم قوانين مكافحة التمييز بشكل انتقائي بما يخدم أجنداتها السياسية.

القطاع الرقمي ليس بمعزل عن هذه التحديات، فمع تصاعد استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ارتفعت نسبة خطابات الكراهية ذات الطابع الديني بنسبة 75% بين عامي 2019 و2023، وفقًا لتقرير صادر عن مركز مكافحة التطرف الرقمي، وبينما تبذل منصات مثل فيسبوك وتويتر جهودًا لمكافحة المحتوى التحريضي، إلا أن القوانين المنظمة لهذا المجال لا تزال متأخرة عن سرعة انتشار الخطاب المتطرف.

وفي المقابل، هناك مبادرات ناجحة تعكس إمكانية تحقيق التعايش الديني، مثل "بيت العائلة الإبراهيمية" في أبوظبي، الذي يجمع مسجدًا وكنيسةً وكنيسًا يهوديًا في موقع واحد كرمز للتقارب الديني. كما أن مبادرات مثل منتدى الحوار بين الأديان الذي ترعاه الفاتيكان والأزهر تسهم في تعزيز جسور التواصل، حيث شارك فيه أكثر من 200 ممثل ديني من مختلف أنحاء العالم في عام 2023.

ويهدف اليوم الدولي للأخوة الإنسانية إلى تعزيز هذه الجهود وتوسيع نطاق الحوار بين الأديان والثقافات، وهو فرصة للتأكيد على ضرورة تبني سياسات شاملة تحترم التنوع الديني وتحمي الأقليات وتعزز ثقافة التسامح. وكما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في خطابه بمناسبة هذا اليوم عام 2022: "الأخوة الإنسانية ليست مجرد مفهوم ديني، بل هي أساس بناء مجتمعات مستقرة وسلمية".

ويرى خبراء أن الأخوة الإنسانية تبقى مبدأ أساسيًا في جميع الأديان، لكن تحويلها إلى واقع يتطلب التزامًا سياسيًا واجتماعيًا مستدامًا، ومن خلال تعزيز التعليم، ومكافحة التمييز، ووضع تشريعات عادلة، يمكن تقليص الفجوة بين النصوص الدينية والتطبيق العملي، بما يضمن عالمًا أكثر تسامحًا وعدالة للجميع.

ازدواجية التطبيق وانتهاكات الحقوق

وقال أستاذ علم الاجتماع طه أبو الحسن، إن الأخوة الإنسانية في الأديان تمثل إحدى الركائز الأساسية التي تقوم عليها مبادئ حقوق الإنسان، حيث تؤكد الشرائع الدولية على قيم المساواة، الكرامة، وعدم التمييز، وهي ذات المبادئ التي تتكرر في النصوص الدينية المختلفة، لكن الفجوة بين التنظير والتطبيق لا تزال واسعة، إذ كثيرًا ما تُوظف المفاهيم الدينية بما يخالف جوهرها الإنساني لصالح مصالح سياسية أو أيديولوجية، مما يؤدي إلى انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان.

وتابع أبو الحسن، في تصريحات لـ"جسور بوست"، التمييز الديني، سواء في السياسات الرسمية أو في المعاملات الاجتماعية، يمثل انتهاكًا خطيرًا لمبدأ عدم التمييز الوارد في المادة الثانية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والتي تنص على أن لكل إنسان الحق في التمتع بكافة الحقوق والحريات دون تمييز، بما في ذلك التمييز القائم على الدين ومع ذلك، فإن الواقع يشير إلى أن المجموعات الدينية في العديد من البلدان تتعرض للاضطهاد بسبب معتقداتها.

واسترسل: من المفارقات أن بعض الدول التي تتبنى خطاب التسامح الديني عالميًا تمارس سياسات داخلية تتعارض مع هذا الخطاب، حيث يتم قمع حرية المعتقد بشكل مباشر أو غير مباشر عبر قوانين تُجرم بعض الممارسات الدينية أو تحظر بعض الجماعات تحت دعاوى "الأمن القومي" أو "حماية الهوية الثقافية" في فرنسا، مثلًا، تثير القوانين المقيدة لارتداء الرموز الدينية في الأماكن العامة جدلًا مستمرًا حول مدى انسجامها مع المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، خاصة أنها تستهدف مجموعات بعينها.

وتابع، تشهد بعض الدول الإسلامية قيودًا مشددة على حرية تغيير الدين أو اعتناق عقائد جديدة، وهو ما يمثل انتهاكًا واضحًا لمبدأ الحرية الدينية، من الناحية القانونية، فإن استغلال الدين للتحريض على الكراهية يعد انتهاكًا للمادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، والتي تحظر أي دعوة إلى الكراهية القومية أو الدينية التي تشكل تحريضًا على التمييز أو العنف، ومع ذلك، نجد أن بعض رجال الدين والسياسيين يستخدمون خطابًا تعبويًا يُذكي النزاعات الطائفية.

وقال أبو الحسن، إن أحد أكبر التحديات التي تواجه تطبيق مبدأ الأخوة الإنسانية هو الازدواجية في التعامل مع الأقليات الدينية، حيث يتم تسييس قضاياهم بناءً على المصالح السياسية للدول. في حين يتم الدفاع عن حقوق بعض الأقليات في سياقات معينة، يتم التغاضي عن الانتهاكات بحق أقليات أخرى، هذا الانتقائية في تطبيق حقوق الإنسان تقوض مصداقية الخطابات الحقوقية وتعزز مناخ عدم الثقة بين الشعوب.

وأتم: الأخوة الإنسانية ليست مجرد مفهوم مثالي بل هي التزام قانوني وأخلاقي يجب أن يُترجم إلى سياسات ملموسة، فلا يمكن الحديث عن التسامح الديني بينما تُمارس التفرقة في قوانين الجنسية، والتعليم، والوظائف، ولا يمكن الدفاع عن حرية العقيدة بينما يتم شيطنة المخالفين في الإعلام الرسمي والخطاب السياسي، فتحقيق الأخوة الإنسانية يتطلب إصلاحات جذرية في القوانين والسياسات، وإلا ستظل مجرد شعار يُرفع في المناسبات دون أثر حقيقي على حياة الناس.

تحديات التعايش والتطبيق

وقال أستاذ اللغة العربية بجامعة الأزهر، أحمد إسماعيل، إن الأخوة الإنسانية مفهوم متجذر في النصوص الدينية والفكرية، حيث شكلت الأديان السماوية إطارًا نظريًا للتضامن والتعايش بين البشر، إلا أن التطبيق الاجتماعي لهذه المبادئ كان دائمًا خاضعًا لتعقيدات البنى المجتمعية والاقتصادية والسياسية، فمنذ نشوء المجتمعات البشرية، كانت القيم الدينية عاملاً أساسيًا في تنظيم العلاقات الاجتماعية، لكنها لم تكن وحدها كافية لضمان الالتزام بمبدأ الأخوة الإنسانية، بل غالبًا ما خضعت لتأويلات تتناسب مع المصالح الفئوية والسلطوية. الفارق بين النظرية والتطبيق في هذا السياق ليس مجرد انحراف فردي عن القيم، بل هو انعكاس لبنية اجتماعية تفرض أولوياتها على الأفراد وتعيد تشكيل القيم الدينية لتتماشى مع المصالح السائدة.

وتابع إسماعيل، في تصريحات لـ"جسور بوست": في المجتمعات التقليدية، أسهمت الانتماءات القبلية والعرقية والطائفية في ترسيخ أنماط تضامن ضيقة، حيث أصبحت الأخوة محصورة داخل الجماعة الدينية أو الإثنية، بينما اعتُبر الآخر المختلف تهديدًا ثقافيًا أو اقتصاديًا، ومع تطور المجتمعات وتوسع الدول المركزية، بدأت بعض الأديان تتبنى خطابًا أكثر شمولية عن الأخوة الإنسانية، لكن هذا الخطاب ظل يتأرجح بين الالتزام النظري والاصطدام بالواقع الاجتماعي الذي تغذيه الهويات المتصارعة والمصالح المتباينة. 

وقال إن الدراسات الحديثة كشفت عن تباين مستويات التسامح الاجتماعي بين الدول، حيث أظهر تقرير "جلوبال سوشال سورفي" لعام 2023 أن 63% من الأفراد في المجتمعات الأكثر تدينًا يميلون إلى تفضيل التعامل مع أبناء ديانتهم على حساب الآخرين، ما يعكس كيف يمكن أن يُعاد تشكيل القيم الدينية في إطار انغلاق اجتماعي.

وتابع إسماعيل: في العصر الحديث، كان من المتوقع أن يؤدي التقدم التعليمي والتكنولوجي إلى تجاوز الانقسامات الدينية وتعزيز الأخوة الإنسانية، لكن الواقع يشير إلى أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لا تزال تؤثر بقوة على مستوى الانفتاح على الآخر. على سبيل المثال، أظهرت دراسة لمركز بيو للأبحاث عام 2022 أن 48% من السكان في بعض الدول يرون أن الدين يمكن أن يكون سببًا للصراع أكثر من كونه أداة للسلام، ما يدل على أن الخطاب الديني، رغم دعوته للأخوة، لا يزال يُستخدم أحيانًا لتعزيز الانقسام الاجتماعي بدلًا من تجاوزه.

وأتم: المؤسسات الدينية الحديثة تحاول التوفيق بين مبادئ الأخوة الإنسانية والواقع الاجتماعي، إلا أن نجاحها يعتمد على مدى قدرتها على مواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية التي تعزز الانقسام. فالمجتمعات التي تعاني من عدم المساواة الاقتصادية أو التهميش السياسي غالبًا ما تكون أكثر عرضة لاستخدام الدين كأداة لخلق هوية جماعية منفصلة بدلًا من اعتباره وسيلة للتقارب.. لذلك، فإن تحقيق الأخوة الإنسانية يتطلب تغييرات هيكلية تتجاوز مجرد التوصيات الأخلاقية، بحيث تُصاغ السياسات الاجتماعية والاقتصادية بما يعزز الشعور بالمساواة والانتماء المشترك، ويجعل القيم الدينية أدوات فعلية لبناء التضامن بدلاً من أن تكون مجرد نصوص مثالية غير قابلة للتطبيق.

 



ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية