تحذير أممي من تفاقم أزمة الأسلحة الصغيرة.. أكثر من مليار قطعة نارية تهدد أمن العالم وتنميته
تحذير أممي من تفاقم أزمة الأسلحة الصغيرة.. أكثر من مليار قطعة نارية تهدد أمن العالم وتنميته
في لحظة عالمية مثقلة بالأزمات الأمنية المتداخلة، حذّر نائب الممثلة السامية للأمم المتحدة لشؤون نزع السلاح، أديديجي إيبو، من أن هناك أكثر من مليار سلاح ناري من الأسلحة الصغيرة والخفيفة متداول حاليًا في مختلف أنحاء العالم، وأكد أن هذا الانتشار المستمر لا يمثل مجرد انعكاسًا للفوضى الأمنية، بل يعد في الوقت ذاته سببًا مباشرًا ودافعًا لتفاقم الأزمات والصراعات، مشيرًا إلى أن معالجة هذه الظاهرة باتت ضرورة ملحّة تتجاوز الأبعاد العسكرية إلى الإنسانية والتنموية.
وخلال إحاطة أمام مجلس الأمن الدولي في نيويورك، يوم الاثنين شدد إيبو على أن الانتشار الواسع للأسلحة الصغيرة والخفيفة، سواء المشروعة منها أو غير المشروعة، يعكس خللاً هيكليًا في منظومة الأمن الدولي، ويقوّض بشكل خطير الجهود الرامية لتحقيق التنمية المستدامة في مناطق النزاع وما بعدها وفق موقع أخبار الأمم المتحدة.
جذور المشكلة
تتجاوز ظاهرة انتشار الأسلحة الصغيرة مجرد حيازة فردية أو ظاهرة أمنية محدودة، إذ ترتبط بعمق بسلسلة من العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تُسهم في تغذية الطلب عليها وإدامة تداولها. فالاتجار غير المشروع وتحويل الأسلحة من مخزونات رسمية إلى أيدي جماعات مسلحة أو أفراد يشكل أحد أبرز مصادر المشكلة، وفي السنوات الأخيرة، كشفت تقارير دولية عن ازدياد حالات تسرب الأسلحة من ترسانات حكومية في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، لتجد طريقها إلى شبكات التهريب والجريمة المنظمة.
وإلى جانب ذلك، تزايدت خطورة التصنيع غير المشروع، حيث ظهرت أسلحة مُعدة يدويًا أو مُنتجة عبر تقنيات الطباعة ثلاثية الأبعاد، وهو ما أتاح للجهات غير النظامية تصنيع نماذج فعالة يصعب تتبعها أو ضبطها، وقد سجلت أوروبا الغربية وأمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي حضورًا متناميًا لهذه الظاهرة، ما يزيد من صعوبة السيطرة الدولية على تداول السلاح ويضعف فعالية آليات الرقابة التقليدية.
مدنيون يملكون أكثر من مليار سلاح
بحسب أحدث بيانات معهد “سمول آرمز سيرفي” في جنيف، يتجاوز عدد الأسلحة الصغيرة والخفيفة في العالم مليار قطعة، يمتلك المدنيون منها نحو 85 في المئة، أي ما يقارب 857 مليون قطعة، في حين تتوزع النسبة المتبقية بين القوات العسكرية وأجهزة الأمن الرسمية، ويعني ذلك أن العالم يعيش حالة “تشبع بالسلاح”، حيث يبلغ متوسط امتلاك سلاح ناري واحد لكل ثمانية أشخاص على سطح الكوكب.
وتشير التقديرات إلى أن أغلب هذه الأسلحة متداولة في مناطق تشهد انتهاكات حقوق الإنسان ومعدلات جريمة مرتفعة أو نزاعات مسلحة مزمنة، ما يضاعف تأثيرها في استقرار المجتمعات، وفي بعض الدول الهشة، أصبح السلاح الصغير وسيلة حياة يومية، بل وأداة اقتصادية لتأمين النفوذ أو الحماية أو ممارسة السلطة في ظل غياب الدولة أو ضعف مؤسساتها الأمنية.
التكلفة الإنسانية: رصاص يقتلع الحياة ويقوّض التنمية
يتجاوز أثر الأسلحة الصغيرة حدود الجبهات العسكرية ليطول حياة المدنيين في العمق، فقد كشف إيبو أن هذه الأسلحة مسؤولة عمّا يصل إلى ثلاثين في المئة من وفيات المدنيين في مناطق النزاع، وأن نحو ثمانية وثمانين في المئة من حوادث العنف الجنسي الموثقة في النزاعات تضمّنت استخدام أسلحة نارية.
ولا تقتصر الكلفة على الأرواح فحسب، إذ تسهم هذه الظاهرة في إضعاف الأنظمة التعليمية والصحية عبر تعطيل الخدمات العامة ونزوح الكفاءات وتراجع الثقة في الدولة، وتشير تقارير أممية إلى أن المجتمعات المتأثرة بالعنف المسلح تشهد تباطؤًا تنمويًا حادًا، حيث تتحول الموارد المالية من الاستثمار في البنى التحتية إلى الإنفاق الأمني والإغاثي، ما يعرقل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خصوصًا الهدف السادس عشر المعني بالسلام والعدل والمؤسسات القوية.
ويحذر خبراء من أن استمرار هذا الاتجاه يجعل من العنف المسلح حالة طبيعية في بعض المجتمعات، خصوصًا لدى الشباب الذين يمثلون، وفق بيانات الأمم المتحدة، أكثر من ثلث ضحايا جرائم القتل عالميًا كل عام، ومن هنا دعا إيبو إلى إشراكهم في جهود الوقاية والتوعية ونزع السلاح، مشددًا على ضرورة تبني مقاربة تراعي النوع الاجتماعي وتدمج المرأة والشباب في عملية صنع القرار الأمني.
الإطار الدولي.. تقدم تشريعي وتحديات تنفيذية
منذ مطلع الألفية، تبذل الأمم المتحدة جهودًا مكثفة للحد من انتشار الأسلحة الصغيرة عبر ما يعرف ببرنامج العمل لمنع ومكافحة الاتجار غير المشروع بالأسلحة الصغيرة والخفيفة الذي أُقر عام 2001، وقد شكّل البرنامج نقطة تحول في إدراك المجتمع الدولي لخطورة هذه الظاهرة بوصفها تهديدًا للسلم والأمن الدوليين، كما جرى لاحقًا اعتماد الآلية الدولية لتحديد وتتبع الأسلحة غير المشروعة، بهدف تعزيز الشفافية والتعاون بين الدول.
وفي عام 2023، أطلقت الأمم المتحدة الإطار العالمي لإدارة الذخائر التقليدية طوال عمرها الافتراضي، وهو إنجاز وصفه إيبو بأنه يسد فجوة طال أمدها في منظومة الحوكمة الأمنية، كما أعاد مؤتمر المراجعة الرابع لبرنامج العمل في عام 2024 تأكيد التزام الدول بمكافحة التصنيع والاتجار غير المشروعين، رغم استمرار تحديات التطبيق وضعف الإرادة السياسية في بعض السياقات الوطنية.
ومع ذلك، لا تزال الفجوة قائمة بين النصوص والتطبيق، إذ تواجه العديد من الدول قيودًا مالية وتقنية تحول دون إنشاء نظم فعالة لتتبع الأسلحة وإدارتها، كما تظل مسألة الشفافية في الإعلان عن المخزونات والتحويلات موضع انتقاد من المنظمات الحقوقية التي ترى أن غياب البيانات الدقيقة يعرقل أي جهد جاد في مكافحة الانتشار.
مواقف المنظمات الحقوقية والأممية
المنظمات الحقوقية الدولية تتابع هذه القضية باهتمام بالغ، إذ تؤكد شبكة العمل الدولية المعنية بالأسلحة الصغيرة (IANSA) أن هذه الأسلحة تمثل الأداة الأكثر استخدامًا في النزاعات المعاصرة وفي أعمال العنف الإجرامي، سواء داخل الدول أو عبر حدودها، وترى منظمة "هيومن رايتس ووتش" أن انتشار الأسلحة الصغيرة يضاعف الانتهاكات ضد المدنيين، ولا سيما النساء والأطفال، ويزيد من حالات النزوح القسري والاتجار بالبشر.
كما دعت منظمات المجتمع المدني إلى تعزيز آليات المراقبة والتبليغ ضمن منظومة الأمم المتحدة، مشيرة إلى أن الفجوات المعلوماتية لا تزال واسعة، وأن عدداً كبيراً من الدول لا يقدّم تقارير سنوية عن حركة الأسلحة أو مخزونها، ويطالب ناشطون بإدماج قضايا السلاح ضمن أجندة التنمية المستدامة، وليس فقط مسألة أمنية ضيقة، مؤكدين أن الأمن الحقيقي يبدأ من التنمية وليس العكس.
الآثار الاجتماعية والاقتصادية: أمن هش وتنمية مهددة
تؤكد الدراسات الحديثة أن المجتمعات التي تعاني من انتشار السلاح تشهد تآكلًا في النسيج الاجتماعي وتراجعًا في الثقة بين المواطنين والمؤسسات، فالسلاح، حين يصبح متاحًا في أيدي الجميع، يغيّر طبيعة العلاقات الاجتماعية، ويحوّل الخلافات البسيطة إلى مواجهات دامية، كما يسهم في إضعاف سلطة القانون، ويجعل العدالة رهينة للقدرة على الردع المسلح.
اقتصاديًا، تُقدّر الخسائر الناجمة عن العنف المرتبط بالأسلحة الصغيرة بمليارات الدولارات سنويًا، تشمل تكاليف العلاج والرعاية والإعاقات الدائمة وفقدان الإنتاجية، ووفق تقديرات بحثية، فإن كل حالة وفاة ناتجة عن عنف مسلح تُكلّف المجتمع ما بين 1.5 و3 ملايين دولار من الموارد المباشرة وغير المباشرة، ومع امتداد هذه الظاهرة عبر الحدود، تتحول إلى عبء اقتصادي عابر للأقاليم، يُضعف التجارة والسياحة والاستثمار، ويزيد من الضغط على الدول المانحة والمنظمات الإنسانية.
نحو استجابة دولية شاملة
يشدد الخبراء على أن الحلول الجزئية لم تعد كافية، وأن العالم بحاجة إلى استراتيجية متكاملة تعالج دورة حياة السلاح بالكامل، من التصنيع إلى الإتلاف، ويطالب المسؤولون الأمميون بأن يُدرج مجلس الأمن قضية الأسلحة الصغيرة ضمن جميع ولاياته الخاصة بعمليات السلام، وأن تُعطى الأولوية لبرامج نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج في المناطق الخارجة من النزاع.
كما دعا إيبو إلى تعزيز التعاون الإقليمي لتبادل المعلومات والخبرات وتطوير تقنيات التتبع الحديثة، إلى جانب إشراك المجتمعات المحلية في جهود جمع الأسلحة ومنع إعادة انتشارها، وأكد أن إشراك النساء والشباب ليس خيارًا تكميليًا بل ضرورة استراتيجية لضمان استدامة السلم الأهلي.
العالم بين مسؤولية مشتركة ومستقبل مهدد
إن التحذير الأممي الأخير ليس مجرد تصريح دبلوماسي، بل هو إنذار حقيقي بأن العالم يقف على عتبة مرحلة قد يتفوق فيها عدد البنادق على عدد الفرص، فوجود أكثر من مليار سلاح ناري في التداول يعني أن كل محاولة لبناء سلام أو تحقيق تنمية ستظل معرضة للانهيار عند أول شرارة، ومع أن المجتمع الدولي قطع شوطًا تشريعيًا وتنظيميًا مهمًا، فإن الفجوة بين الالتزام والتنفيذ ما زالت واسعة.
وتبقى الرسالة الأساسية التي أراد إيبو إيصالها واضحة مفادها أنه لا يمكن الحديث عن أمن أو تنمية مستدامة ما دامت الأسلحة الصغيرة والخفيفة تنتشر بلا رادع، وما لم تتحول وعود نزع السلاح من نصوص على الورق إلى واقع على الأرض، فالعالم اليوم أمام مفترق طرق، فإما أن يتحرك جماعيًا للحد من هذا الطوفان الناري، أو أن يواجه مستقبلًا أكثر هشاشة، يتوارى فيه صوت التنمية خلف ضجيج الرصاص.











