سرقة الأعمال الفنية.. قضية مها الصغير تكشف أهمية حماية الفن وحقوق الملكية الفكرية
سرقة الأعمال الفنية.. قضية مها الصغير تكشف أهمية حماية الفن وحقوق الملكية الفكرية
في عالمٍ يتسارع فيه تدفق الصور والمحتوى، أصبحت حقوق المبدعين عُرضة لانتهاكات يومية، لا تُهدد فقط القيمة المادية للعمل الفني، بل تهدد جوهر الفكرة والحق المعنوي للفنان. فالسرقة الفنية لم تعد جريمة محصورة ضمن نطاق ضيق، بل أصبحت ظاهرة عالمية تعكس خللًا في البنية القانونية والثقافية لمجتمعات بأكملها.
قضية الإعلامية المصرية مها الصغير، التي اتُهمت بنسب لوحات فنية عالمية لنفسها خلال ظهورها في برنامج "معكم منى الشاذلي"، كشفت عن أزمة مركبة تتجاوز الأطر الفردية إلى إشكال أعمّ يتعلق بثقافة احترام حقوق الملكية الفكرية. مها، التي ظهرت على الشاشة تستعرض أعمالًا فنية على أنها من إنجازها الشخصي، لم تكن تدري -على ما يبدو- أن العالم الرقمي لا ينسى، وأن مواقع مثل Pinterest تحفظ كل تفاصيل الصورة وتاريخ نشرها.
الفنانة الدنماركية ليزا لاش نيلسن، صاحبة اللوحة الأولى التي كُشف عن سرقتها، لم تتوانَ في اتخاذ موقف قانوني وأخلاقي، عبر منشور على إنستغرام، أكدت أن اللوحة تعود لها منذ عام 2019، وأن ما حدث يُعد خرقًا لاتفاقية برن لحماية المصنفات الأدبية والفنية، وهي اتفاقية وقّعت عليها مصر وتلزم الدول الأعضاء بحماية حقوق المؤلفين من السرقة أو النشر غير المصرح به. تقول ليزا: "لم تكن محاولة إبداعية أو استلهامًا... بل نسخة مطابقة لما نشرته بنفسي، دون إذن أو نسب".
وفي استجابة سريعة، نشرت الإعلامية منى الشاذلي اعتذارًا رسميًا، أكدت فيه احترامها الكامل لحقوق الفنانين، وهو ما قابله الجمهور والمبدعة الدنماركية بشكر، مشيدين بحجم التعاطف المصري الشعبي، إذ أكدت ليزا أنها تلقت آلاف الرسائل من مصريين عبّروا عن دعمهم وغضبهم مما حدث. ومع ذلك، لم يكن هذا الاعتذار كافيًا لوأد الجدل، إذ انضمت إلى القضية فنانتان أخريان: الألمانية كارولين وينديلين، والفرنسي Seaty.
كارولين اتهمت مها الصغير بنسب لوحة لها بعنوان "أن تصبح حديقة" تعود إلى فبراير 2025، وهي معروضة للبيع بأكثر من 400 ألف جنيه مصري، ورغم قرارها بعدم اللجوء إلى القضاء، فإنها شددت على أهمية كشف الحقيقة ومحاسبة من يتعدى على جهود الآخرين، أما الفنان الفرنسي Seaty، فقد أبدى غضبه العلني من عرض ثلاث لوحات له ضمن البرنامج، مع الحفاظ على توقيعه عليها، بل وحتى صور من داخل الاستوديو الخاص به، قائلًا: "هذه ليست مصادفة، بل هي استيلاء واضح على مجهودي الفني أمام أعين الجميع".
هذه الحوادث المتتالية دفعت بالمجلس الأعلى لتنظيم الإعلام في مصر إلى التدخل رسميًا، حيث أعلنت لجنة الشكاوى استدعاء ممثل قناة ON E للتحقيق، مشيرة إلى أن ما حدث يُعد إخلالًا صارخًا بالمعايير المهنية، وأنه تم توثيق كل ما جرى في الحلقة من محتوى بصري. يأتي ذلك في وقت تتزايد فيه المطالب بفرض رقابة أكثر صرامة على المحتوى الإعلامي، خاصة عندما يتعلق بحقوق الملكية الفكرية.
في بُعد قانوني، يُمكن اعتبار ما حدث خرقًا واضحًا للقانون المصري رقم 82 لسنة 2002 بشأن حماية حقوق الملكية الفكرية، الذي ينص في مادته الـ147 على أن "للمؤلف وحده الحق في أن ينسب إليه المصنف، وله كذلك الحق في منع أي تحريف أو تعديل فيه أو أي مساس آخر به، ويُعد تعديًا على حق المؤلف القيام بأي من هذه الأعمال دون إذنه".
ومع أن مها الصغير نشرت اعتذارًا عبر فيسبوك قالت فيه: "أنا غلطت في حق الفنانة ليزا، وفي حق كل فنان حقيقي، وفي حق نفسي"، إلا أن الاعتذار، رغم أهميته الأخلاقية، لا يُسقط الأثر القانوني ولا يُنهي القضية من وجهة نظر الكثيرين، خاصة في ظل تجاهل واضح لمسألة التعويض المادي والمعنوي للفنانين المتضررين.
وفق تقرير صادر عن المنظمة العالمية للملكية الفكرية (WIPO) في عام 2024، فإن 47% من حالات التعدي على حقوق الفنانين تحدث عبر الإنترنت، من بينها 32% في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. ويُشير التقرير إلى أن منصات مثل Pinterest وInstagram وBehance تُستخدم بكثافة في إعادة نشر وتداول الأعمال الفنية دون تصريح، مما يحوّل الإنترنت إلى ساحة مفتوحة للنسخ والاستغلال.
أزمة تتجاوز الاعتذار
في استطلاع حديث لليونسكو عام 2024، أفاد 68% من الفنانين المستقلين بتعرضهم لانتهاكات رقمية، بينما أشار 54% إلى عجزهم عن تحصيل حقوقهم بسبب تعقيدات قانونية أو غياب دعم مؤسسي. هذه الأرقام تعكس أزمة عميقة في منظومة حماية الملكية الفكرية، خصوصًا في ظل بيئة رقمية تُسهّل نسخ الأعمال ونسبها زورًا.
قضية مها الصغير، التي نسبت أعمال فنانين عالميين لنفسها على الهواء، كشفت عن سلسلة من الإشكالات الهيكلية: ضعف الثقافة القانونية والفنية، غياب الرقابة الإعلامية، وقصور مؤسسات التعليم الفني في ترسيخ احترام حقوق الملكية. القضية لم تكن فردية، بل نموذجًا متكررًا لانتهاك الحقوق وسط صمت أو تواطؤ إعلامي، وضعف آليات التوثيق والردع.
ما حدث يؤكد هشاشة النظام القانوني في التعامل مع التعديات الرقمية، وضرورة تطوير تشريعات تواكب السرعة التكنولوجية، تُلزم المنصات الكبرى برقابة أكثر فعالية. في المقابل، لا يكفي الاعتماد على القانون وحده، بل يجب أن تتكامل جهود الإعلام والتعليم والثقافة لتعزيز الوعي المجتمعي بحقوق الفنانين.
الحلول تشمل استخدام أدوات حديثة مثل شهادات NFT للتوثيق الرقمي، وإنشاء أرشيفات معترف بها دوليًا، ما يُسهّل إثبات الملكية عند النزاع. كما أن دمج مفاهيم الملكية الفكرية في المناهج، وتدريب الإعلاميين على التحقق من مصادر الأعمال، أمر بات ضروريًا.
ما جرى في قضية مها الصغير لم يكن استثناءً، بل إنذارًا مبكرًا من خطر تحوّل الإبداع إلى سلعة قابلة للسرقة بضغطة زر، في زمن باتت فيه الصورة تسبق التحقق، والتقليد يعلو على الأصالة، والاعتذار يُستخدم كبديل للمساءلة.
أشهر السرقات الفنية في التاريخ
شهد التاريخ الفني العديد من وقائع سرقة اللوحات، التي لم تكن مجرد جرائم جنائية، بل اعتداءات صريحة على الإرث الثقافي الإنساني، وغالبًا ما حملت أبعادًا سياسية واقتصادية. وتُعد سرقة لوحة "الموناليزا" من متحف اللوفر في باريس عام 1911 واحدة من أشهر تلك الوقائع، حيث اختفى العمل الأيقوني لليوناردو دافنشي لمدة عامين، بعد أن أقدم عامل إيطالي على سرقته بدافع قومي، زاعمًا أن اللوحة يجب أن تُعاد إلى إيطاليا. المفارقة أن هذه الحادثة أسهمت في شهرة "الموناليزا" عالميًا، بعد أن كانت مجرد واحدة من عشرات الأعمال المعروضة في المتحف.
أما خلال الحرب العالمية الثانية فقد نظّم النازيون واحدة من أكبر عمليات نهب للقطع الفنية في التاريخ، حيث تم الاستيلاء على آلاف الأعمال من المتاحف والمجموعات الخاصة في أوروبا، أبرزها أعمال لفنانين مثل فان غوخ، وكلود مونيه، ورامبرانت. ولا تزال جهود استعادة هذه اللوحات مستمرة حتى اليوم، وسط نزاعات قانونية ودبلوماسية معقدة.
في العصر الحديث، تُعد سرقة لوحة "الصرخة" لإدفارت مونك من متحف في أوسلو عام 2004 من أكثر السرقات جرأة، حيث دخل اللصوص المتحف في وضح النهار وانتزعوا اللوحة أمام الزوار. وقد تم استعادتها لاحقًا، لكن الضرر الذي تعرضت له كشف هشاشة الحماية الأمنية لبعض المؤسسات الفنية.
تُظهر هذه السرقات أن الفن ليس بمنأى عن الجريمة، وأن اللوحات لا تُقدَّر فقط بقيمتها الجمالية، بل تمثل أهدافًا مالية وسياسية. كما تكشف الفجوة بين رمزية العمل الفني كتراث إنساني، وبين التعامل معه كسلعة قابلة للنقل والسرقة، ما يستدعي تعزيز الحماية القانونية والأمنية لهذا النوع من الإرث العالمي.
سرقة الفن.. جريمة ضد الذاكرة الثقافية والعدالة الإبداعية
في خضم تكرار وقائع الانتحال الفني وانتهاك حقوق المبدعين، حذر الفنان والناقد التشكيلي الدكتور صلاح بيصار من خطورة التساهل مع سرقة الأعمال الفنية، معتبراً أنها لا تمثل مجرد تعدٍ على الملكية الفكرية، بل طعنة في ذاكرة الوطن وتهديدًا للهوية الثقافية لمصر.
وركّز بيصار في تصريحه لـ "جسور بوست" على التقصير المؤسسي والإعلامي في التعامل مع هذه القضايا، مستشهدًا بحادثة نسب لوحات لفنانين عالميين إلى شخصية إعلامية دون تحقق مهني، معتبرًا أن الإعلام لعب دورًا شريكًا في التضليل بدلًا من نقل الحقيقة.
وشدد بيصار على ضرورة توثيق الأعمال الفنية بأدوات تقنية حديثة ومراجع مؤسسية موثوقة، داعيًا إلى أرشفة رسمية تديرها جهات كقطاع الفنون التشكيلية، كما انتقد استخدام لوحات فنانين على منتجات تجارية دون إذن، مؤكداً أن هذه الأفعال تضعف من قيمة الفنان وتُهدر حقوقه.
حماية الإبداع لم تعد ترفًا
في السياق ذاته، اعتبرت الكاتبة والناقدة الفنية هويدا الحسن في تصريحها لـ"جسور بوست" أن حماية الإبداع لم تعد ترفًا، بل هي حق أصيل للمبدع في عصر الرقمنة وانتشار الانتحال تحت غطاء "الإلهام" أو "المحاكاة"، وأكدت أن القوانين، رغم وجودها مثل قانون الملكية الفكرية المصري رقم 82 لسنة 2002 واتفاقية "برن" الدولية، لا تفي بالغرض ما لم تُفعّل بجدية وترافقها حملات توعية وتثقيف مجتمعي.
وأشارت الحسن إلى أن التوثيق الذاتي من قبل الفنان، كاستخدام البريد الإلكتروني أو المنصات السحابية، وتوقيع الأعمال، يشكل خط دفاع أول. كما دعت إلى إدراج مفاهيم حقوق الملكية في المناهج التعليمية، وتنمية الحس الأخلاقي لدى المبدعين الجدد بأن الفن ليس مجرد منتج جمالي، بل هو التزام تجاه الذات والآخر.
كلا الخبيرين اتفقا في التأكيد على أن السكوت على السرقات الفنية يُهدد الثقة في المنظومة الثقافية والإبداعية برمتها، وعلى الإعلام أن يتحمل مسؤولياته المهنية بوعي، وألّا يتحول إلى "شرعنة غير مقصودة" لأفعال تنتهك حرمة الفن وحقوق من صنعوه.